ليس مدار الحديث هنا الزوبعة المريبة التي لا تزال تتفاعل حول التسريبات الأخيرة المتعلقة بالحسابات البنكية التي تم كشفها في "بنما" والتي تعود إلى شخصيات معروفة سياسيا واقتصاديا. مدار الحديث لا يخص الفضيحة الجديدة التي تضاف إلى الفضائح الأخرى وهي توشّح جبين العالم الرأسمالي المتوحش اليوم وبالأمس. مدار الحديث تونسيا وعربيا هو سقف الخطاب الذي كان يسبق انفجار الفضيحة ويخص مسألة النقاب التي أثارتها برلمانيا الكتلة المرتبطة بصاحب الاسم الأبرز في تسريبات بنما الأخيرة وهو زعيم حزب "مشروع
تونس".
النقاب هو اللباس الذي تلبسه المرأة المحافظة في تونس وفي العالم الاسلامي ككل ويتميز بأنه يغطي كامل الجسد. هذا اللباس -الذي يعتبره المدافعون عنه "شرعيا" ويعتبره خصومه لباسا متخلفا ورجعيا- كان مصاحبا دائما للحظات إفلاس الخطاب في المجتمعات وبين النخب التي تثيره قفزا على قضايا مصيرية أخرى كما هو الحال في تونس اليوم وفي فرنسا بالأمس.
حضاريا واجتماعيا وثقافيا يمثل النقاب امتدادا طبيعيا للباس المرأة التقليدي المحافظ في تونس رغم تمايز الشكل عن "الفوطة" في الجنوب التونسي والمناطق الريفية و"السفساري" في المناطق الحضرية وفي العاصمة. لكن مسألة اللباس وخاصة النقاب أخذت أبعاد سياسية في سياق ما بعد الثورات لأن السياق السابق لثورات الحرية كان حاسما في هذه المسألة حيث وصل الأمر بنظام "بن علي" إلى منع بيع الدمى التي ترتدي ملابس إسلامية وخاصة الحجاب كدمية " فلّة " مثلا.
عصب المسألة بالنسبة لمناصري النقاب وبالنسبة لمحاربيه هو رمزيته الحضارية أولا، والسياسية ثانيا، ثم ارتباطه الوثيق بمسألة الهوية وأشكال التعبير عنها في الفضاء العام وفي المساحات المشتركة.
فرغم الإلحام على مبدأ الحرية في السياق الثوري ورغم المطالبة بتمكين المرأة من حرية الاختيار إلا أن التيارات العلمانية المتطرفة التي صنعت أكذوبة المعجزة التونسية في فترتي الوكيل الاستعماري الأول بورقيبة والوكيل الاستعماري الثاني بن علي تحاول تكييف هذا المبدأ حسب أجنداتها الاستئصالية عامة.
لن نخوض هنا في جذور المشروع الاستئصالي في تونس منذ تصفية زعماء الحركة الوطنية وتدشين المشروع الاستغرابي في تونس، على يد النُخب التي مكنّها الاستعمار من مقاليد الدولة تحت غطاء وهم الاستقلال.
مسألة النقاب كغيرها من المسائل التي طرحت في تونس خلال المرحلة الانتقالية كختان البنات وجهاد النكاح... وغيرها من المسائل إنما كان الهدف من إثارتها توجيه الرأي العام أو الخطاب العام نحو المسائل الفرعية بشكل يُخفي معه النقاب المسائل الجوهرية والقضايا الوظيفية للدولة والمجتمع.
خذْ مثلا حملة "وينو البيترول" (أين النفط) التي أزعجت الدولة العميقة ومنصاتها الإعلامية إلى حدّ تدخلت معه السفارات الاجنبية من أجل القضاء على الحملة التوعوية بالنهب المنظم لثروات الشعب لصالح دولة العصابات ووكلائها في المفاصل الحيوية للبناء السياسي الوطني نفسه.
الحرب في تونس اليوم مجالها المستوى الرمزي ومستوى الخطاب وأدواتها إعلامية أساسا فإذا كانت دولة "بن علي" ومن قبله "بورقيبة" أي الدولة التي سلّمها الاستعمارُ أرضَ تونس وشعبها تملك كل المنصات الإعلامية الخاصة والحكومية تقريبا، فإن الإعلام البديل المؤسس على مواقع التواصل الاجتماعي يلعب اليوم دورا تاريخا في خلق الوعي الموازي والمنفلت من قبضة الدولة القمعية.
قضية النقاب ليست إلا بالون اختبار قديم يسعى عبره مركز الإعلام الاستبدادي إلى لفت الأنظار عن الاستحقاقات الأساسية للمسار الانتقالي، وعلى رأسها شبكات النهب المنظم للثروات الوطنية واستفحال التهميش الاجتماعي وعودة الدولة البوليسية وانهيار منظومة القيم.
ليست تسريبات "أوراق بنما" إلا الورقة التي تخفي غابات الفساد والنهب في المنطقة العربية حيث تحوّل الفساد إلى الدولة نفسها فاختزلها واغتصب صلاحياتها واستفرد بها بشكل يمكن معه اعتبار الفساد جوهر الدولة العميقة وقلبها النابض واعتبار الإرهاب الحارس الأمين لدولة الفساد والغول الذي ترعب به كل مطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مثلما هو الحال في تونس ومصر وسوريا.
هناك كشفت آخر التحقيقات أنّ صاحب أكذوبة "جهاد النكاح" نفسه والتي أخرجتها المخابرات الايرانية وروّج لها عميلها عبر قناة الميادين متهم بالتورط في الاتجار بالبشر والإشراف على شبكات الدعارة حاله كحال صاحب مشروع منع النقاب الذي عرّته التسريبات الأخيرة فكان على رأس القائمة التونسية للفساد.
صحيح أنّ التسريبات مهما كانت مصداقيتها إنما تمثّل هي الأخرى حدثا وظيفيا موجِّها لأنها تخفي غابات من الجرائم الأخرى التي لا تطالها أيدي التحقيق والبحث لكنها في كل مرّة تؤكد أنّ جوهر الصراع الانساني خاصة في المنطقة العربية إنما مداره الفساد أولا والفساد أخيرا رغم كل أعمدة الدخان التي يحاول إعلام دولة العمق وضعها أمام الوعي الجمعي ليمنع رفع النقاب عن جرائم العصابات في الداخل والخارج.