تحاشت جبهة
النصرة منذ تشكيلها في
سوريا أواخر سنة 2011 إعلان انتمائها لتنظيم
القاعدة، لكن أميرها أبا محمد
الجولاني اضطر إلى إعلان بيعته لزعيم القاعدة أيمن الظواهري في نيسان/ أبريل 2013، ردا على قرار أبي بكر البغدادي القاضي بدمج دولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة تحت اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
منذ إعلان الجولاني عن بيعته تلك، باتت "جبهة النصرة" بشكل علني هي "الفرع المستقل لجماعة قاعدة الجهاد تتبع القيادة العامة"، بحسب توصيفها في كلمة الظواهري، تعقيبا على قرار البغدادي السابق.
على إثر ذلك الإعلان، تعالت أصوات تطالب جبهة النصرة بفك ارتباطها بالقاعدة، وما زالت تلك الأصوات تطالب بذلك إلى يومنا هذا، إذ إن إصرارها على الارتباط بالقاعدة "حماقة سياسية، لأنه يعني إدخال السوريين في حرب مع دول كثيرة"، على حد قول الكاتب والباحث الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، في تغريدة له على "تويتر".
فما هو المراد تحديدا بانفكاك جبهة النصرة عن القاعدة؟ وما مدى أهمية ذلك الانفكاك وضرورته للثورة السورية؟ وهل يصب في مصلحتها ويكون خادما لها؟
أوضح الكاتب والباحث السعودي المتابع للشأن السوري، عبد الله المالكي، أن "تصور الانفكاك عن القاعدة مبني على تصورنا لطبيعة العلاقة الإدارية بين التنظيمين (الفرع والأصل)، وعلى إثر هذا التصور تأتي المطالبة بإبقائها أو فكها، وهل هي ممكنة أو ليست ممكنة".
وتابع المالكي في حديثه لـ"
عربي21" بأن "الذي يبدو لي، أن النصرة فعليا من الناحية التنظيمية ليس لها ارتباط هرمي مع التنظيم العالمي الأم الذي يرأسه الظواهري، وأنه ليست ثمة مرجعية إدارية بين الجولاني والظواهري، فتنظيم النصرة قائم بذاته، له أميره ونوابه، وله مجلسه الشرعي، ومجلسه الشوري، ومجلسه العسكري، وله مصادره المالية المستقلة عن سلطة الظواهري".
وأضاف: "عليه، فالانفكاك عن القاعدة الأم من الناحية التنظيمية الإدارية هو تحصيل حاصل، ولن يحدث أي تأثير كبير"، مستبعدا أن يكون هذا الانفكاك هو المقصود.
ولفت المالكي إلى أن المقصود هو "الانفكاك عن الخط السياسي والمرجعية الاستراتيجية لتنظيم القاعدة، أي التخلي عن استراتيجية الجهاد المعولم التي رسمها الآباء المؤسسون للتنظيم، والتحول إلى تنظيم سوري وطني، مثل بقية المكونات العسكرية السورية الأخرى".
وجوابا عن سؤال "ماذا يعني أن تكون جبهة النصرة تنظيما وطنيا سوريا؟"، قال المالكي: "أي أنه محكوم بالدولة السورية الجديدة، التي يفترض أن تمثل جميع مواطنيها بكل انتماءاتهم الدينية والعرقية والفكرية، ما يعني الإقرار بمبدأ (التشاركية المساواتية) في الحكم".
وأكمل المالكي القول: "ما يعني كذلك -وهو الأهم- أن يكون التنظيم خاضعا للمرجعية الدستورية للدولة السورية ذات السيادة، وليس للمرجعية الاستراتيجية لتنظيم القاعدة العالمي العابر للحدود، وهو ما يعني أيضا التخلي عن السلاح لصالح الدولة التي لها ولوحدها احتكار (العنف المشروع) المحكوم بالقانون، وأن يتحول التنظيم إلى مكون سياسي يؤمن بالتداول والتنافس السلمي في الحياة السياسة العامة".
إذا كان هذا المعنى هو المراد بالانفكاك بحسب توضيحات المالكي، فما هي إمكانية وقوعه وتحققه؟
أجاب الكاتب والباحث الأردني مجاهد مأمون ديرانية، بأن "هذا مستبعد حاليا، فقد حرص قادة النصرة على إرسال رسائل متعاقبة تؤكد عزمهم على الاستمرار بهذا الارتباط ورفضهم لفكرة الاستقلال عن القاعدة".
وقال ديرانية لـ"
عربي21" إن هذا الموقف براغماتي بامتياز، وليس موقفا مبدئيا كما يتبادر لبعض الناس، لأن النصرة سوف تفقد عددا كبيرا من عناصرها في الداخل ومن جمهورها في الخارج، لو أنها تخلت عن ارتباطها بالقاعدة".
وأضاف ديرانية أن "جبهة النصرة حريصة على ألا تفقد كوادرها (الذي سيذهبون في هذه الحالة إلى
داعش)، وألا تفقد دعم الجمهور الخارجي "وهو دعم سخي، سواء من الناحية المالية أو الإعلامية"، وفق قوله.
لكن هل ثمة أضرار نتجت عن مشاركة الجماعات المسلحة المنتمية للسلفية الجهادية والمرتبطة بالقاعدة (مثل جبهة النصرة وغيرها) في الثورة السورية المسلحة؟.
طبقا لديرانية، فإن تلك الجماعات "أفادت الثورة جزئيا بقتالها للنظام، لكنها عادت على الثورة بضرر عظيم بسبب أيدلوجيتها الفوقية والإقصائية والتكفيرية، ذاكرا أكبر أضرارها بشقها للصف الثوري، وتفريقها للجسم العسكري إلى فصائل إسلامية وغير إسلامية".
وقال إن "تلك الجماعات غيرت هدف الثورة وحرفته من إسقاط النظام إلى إقامة الدولة أو الإمارة الإسلامية"، وكذلك "استحلالها قتال الفصائل التي تقاتل النظام، ما تسبب في إنهاك الجسم العسكري الثوري".
ولفت ديرانية إلى أن تلك الجماعات "أشغلت الشعب السوري الثائر بمساجلات ونقاشات فكرية ومنهجية مرهقة تسببت في الفرقة وبث الضغائن بين القلوب"، وساهمت "باستعداء العالم وتحويل عنوان الأزمة السورية من "ثورة شعبية على الظلم والاستبداد" إلى "حرب دولية على الإرهاب".
من جانبه، اعترض الكاتب والباحث المصري طارق عبد الحليم، على تعبير "فك الارتباط"، لأنه "تدليس لغوي، بل نقض لبيعة شرعية"، واصفا من يطلقونه بأنهم "يدورون حول المعنى الشرعي بالتحايل اللفظي"، على حد قوله.
وتساءل عبد الحليم: "ما الذي يدفع جبهة النصرة إلى القيام بمثل هذه الخطوة؟ فالائتلافيون السروريون والعلمانيون يأخذون أوامرهم من أمريكا.. أي من خارج سوريا، فما الخطأ في أن يكون هناك ارتباط بين إخوة مسلمين في القاعدة؟ أحلال على غيري حرام علي؟".
وبعد تأكيده أنه ليس عضوا في النصرة ولا في القاعدة و لاغيرهما، وتحفظه على بعض تصرفات القاعدة، أشار عبد الحليم إلى أنه لا يراها "تتدخل في شؤون فروعها في أي مكان"، لافتا إلى أن فكر القاعدة، مع استمراره على منهج العولمة، إلا أنه قد تحوّل فعليا عنها في الآونة الأخيرة في عهد أسامة رحمه الله، وفي عهد أيمن الظواهري".
يبدو أن سؤال "لماذا لا تفكُّ جبهة النصرة ارتباطها بالقاعدة" يصطدم مع بدهيات الأمور وطبعائها، فجبهة النصرة وفقا لعبد الله المالكي لا تملك القدرة على اتخاذ هذا القرار، وهو التخلي عن المرجعية الاستراتيجية للقاعدة في الجهاد المعولم، وليس الانفكاك التنظيمي الإداري لأنه تحصيل حاصل.
وأرجع المالكي عدم قدرة الجبهة على اتخاذ ذلك القرار، ليس لأن الجولاني لا يستطيع الانفكاك عن إمارة الظواهري، "بل هو قادر من هذه الناحية، كما أنه ليس بسبب سطوة وغلبة تيار الغلاة على حساب المعتدلين كما يتصور البعض، وإنما لأن الجميع في التنظيم يؤمنون باستراتيجية الجهاد الدولي المعولم العابر للحدود الوطنية ذات السيادة".
وخلص المالكي إلى القول بأن "جميع السلفيين الجهاديين تقريبا يؤمنون بهذا، وما الفرق بين المتشددين منهم والمعتدلين إلا في الجوانب التكتيكية، وكيفية التعامل مع الأحداث على أرض الواقع من حيث الغلظة واللين".