كتاب عربي 21

كيف يقطع الله المجرمين؟!

ساري عرابي
1300x600
1300x600
احتجّ الذي حاجّ إبراهيمَ في ربّه بأنه إذا كان قادرا على القتل، فإنه بالضرورة متفضل على الأحياء الخاضعين لحكمه بحيواتهم، وهو بهذا الاعتبار يحيي ويميت، وقد كانت هذه الحجّة هشّة إلى درجة دحضها بأيّ آية كونية ظاهرة، ما يعني أنّ الطاغية يعاني بهذا الاعتقاد الهشّ من نوع خاص من انعدام التوازن، لاصطدام وساوس العظمة الداخلية بحقائق الوجود الخارجية، وهذا في ذاته يملك قدرة على تفسير جنونه المدمّر حينما يصدمه الناس بسلوك منافر لاعتقاده.

ولا يخلو طاغية من شيء من تخليط النمرود المرعب، الذي يظلّ وسواسا يتضخم، إلى أن تجرحه حقيقة الوجود الأكثر إيلاما لنفسه المريضة، فهو يعاين في كل يوم الشمس وهي تأتي من المشرق دون تدخل منه، ودون أن يختبر قدرته على الإتيان بها من المغرب، فقد تطبع مع هذا النمط من الحقائق، ولكنه ظلّ خارج اختبار موقف الناس من اعتقاده، وهو الاختبار الأكثر قدرة على إثارة كبريائه المريض، والكشف عن عمق المأساة المريرة، فأمّا إذا وقع في الاختبار، وعاين تلك الحقيقة، وأذهله رفض الناس لطغيانه، فإنّ اعتقاده المخلوط من وساوس القدرة على الإحياء والإماتة وهشاشة الثقة بها، ينفجر فجيعة مدمّرة، تزيده اضطرابا كلما ازداد إجراما.

بيد أن الطاغية وهو يقتل ويستبقي، ويسجن ويستبقي، لا يمارس ما يعزز إيمانه الهشّ بقدرته على الإحياء والإماتة، إذ إن مركّب الجنون المرضي يتعاظم كلما أسرف في الإجرام، وعلى نحو عكسي، فيزداد إيمانه بقدراته "الربوبية" هشاشة كلما حاول إثباتها، "فأراه الآية الكبرى، فكذّب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى"، إنّه مجرد صراخ يائس لتضميد كبريائه الجريح، ولكنه فعليا يمارس الإجرام بمعناه الحرفي، أو كما هو في أصل معناه اللغوي، معنى القطع والصرم، وكأنه ينتقم من هؤلاء الناس الذين لا يدينون له بحيواتهم، ولا يخشون على أعمارهم من بطشه، فأوقع عليهم أقسى ما يمكن أن يقع على البشر.

كان فرعون يقطع أطفال بني إسرائيل عن آبائهم بالقتل، ولكنه كان يتشوق إلى عاطفة الأبوّة، وقد أدركتها فيه زوجه، واتخذتها وسيلة لحماية موسى، عليه السلام، من القتل، ولاحتضانه، "وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.."، وفي المقابل كان هذا حال أمّ موسى لما انقطع عنها ابنها: "وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين"، وهكذا استمرت الصورة تنطوي على مفارقة أليمة، يذوب فيها الطاغية حنانا على أبنائه، ويقطع الأبناءَ من آبائهم، ويطوي الآباءُ قهرا على أبنائهم المفقودين بالقتل أو بالسجن أو بالإخفاء القسري.

حوّل الطغاةُ بلادَ العربِ إلى مراتع لأبنائهم، وملّكوهم الناس يستذلونهم كما يشاؤون، وقد قضى حسني مبارك آخر عشر سنوات من حكمه لا يخامر عقلَه شيءٌ سوى توريث الحكم لابنه الأصغر، وقيل كلام كثير عن حزنه على حفيده الميت، وصادر من قبله معمر القذافي من الناس في بلاده كل النوازع الإنسانية وحصرها لأبنائه، وحوّلهم إلى وحوش لا تشبع، وملّك حافظُ الأسد ابنَه رقابَ الناس، وصار من هوايات هذا الأخير نشر صور لحظاته الدافئة مع زوجه وأبنائه، وبراميلُه المتفجرة تمزّق أطفال سوريا، والسيسي اليوم يجمع ملك مصر لأبنائه، بعدما قتل وسجن وشرّد عشرات الآلاف، وأثناء ذلك كله، فرّق الطغاة المذكورون، وغيرهم من نظرائهم، الآباء عن الأبناء، والأبناء عن الآباء، والأزواج عن الزوجات، والزوجات عن الأزواج، بالقتل، والسجن، والإخفاء القسري، وكانت بيوت الطغاة في الأثناء تعمر بودّهم لأبنائهم، وبيوت المحرومين يعمرها القهر والحزن والأسى على المغيبين المقطوعين.

لم يكتف المجرمون بالزنازين وسيلة لقطع أرحام الناس الذين صدموا الطاغية في إيمانه الهشّ، ولم تعد البنادق وسيلة قادرة على احتواء جنونه المروّع، فلجأ إلى الطائرات والدبابات والصواريخ والبراميل المتفجرة يعلي بها من نشيج جرح كبريائه المتقيح: "أنا ربكم الأعلى"، وقد كان حقّا على الله أن يقطع هؤلاء المجرمين، وفي الحديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شُجْنَةٌ من الرحمن فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله"، وفي الحديث أيضا: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس".

فبأيّ هول يقطع الله هؤلاء المجرمين؟! وكيف يكشف عنهم رحمته بما يكافئ جريمتهم تلك في الحياة الدنيا؟! وأيّ دلالة على نوع الجريمة وما تستحق من العذاب؛ حملها مشهد المجرمين كما صوّره القرآن موشّى بالدلالة على المفارقة التي اقترفها المجرمون في الحياة الدنيا؟!

يقول الله تعالى: "يبصّرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا ثمّ ينجيه". هذا المجرم الذي قضى سنوات حكمه يجمع البلاد والعباد لابنه، وقد شتت في سبيل ذلك شمل المجتمعين من الناس، وفرّق بينهم، وقطّع أرحامهم؛ يودّ يوم القيامة لو حُرق ابنه بدلا منه، وصاحبته، وأخوه، وما أدل على هذا المعنى، من أن أصل معنى الجرم في اللغة القطع، وذلك كما يفيد لسان العرب: "الجرم: القطع. جرمه يجرمه جرما: قطعه. وشجرة جريمة: مقطوعة، وجرم النخل والتمر يجرمه جرما وجراما وجراما واجترمه: صرمه"، و"الصرم: القطع البائن"، ولعل الجرم بمعنى الذنب جاء من هنا، فالمجرم يقتطع ما لا يحقّ له من حقوق غيره، وفي الحديث: "لا يقتطع أحدٌ مالا بيمين، إلا لقي الله وهو أجذم"، والأجذم هو المقطوع، فهذا المجرم كما قطع الناس عن بعضهم في الدنيا، يقطعه الله في الآخرة، وبهذه الصورة التي تقطعه عاطفيا عن أقرب أقربائه إلى نفسه، وكأنّهم عدوّه اللدود. 

ومن كان أمره في مآله القطع، فما أحقّ أن نقطعه في هذه الحياة الدنيا.
التعليقات (5)
أخوك جزائري من فرنسا
الثلاثاء، 22-03-2016 11:04 ص
سعيد جدا لانني وقعت على هذه الكتابة البديعة
مجد
الثلاثاء، 22-03-2016 10:31 ص
رائع شكرا
خالد
الثلاثاء، 22-03-2016 10:15 ص
أحسنت بارك الله فيك
محسن الأحمد
الثلاثاء، 22-03-2016 09:42 ص
فتح الله لك يا أخي جميل جدا جدا جدا
الخواجا
الثلاثاء، 22-03-2016 02:33 ص
مقالة رائعة