كتاب عربي 21

أعداء الوطن ومجانين الثورة

طارق أوشن
1300x600
1300x600
تجمُّع لقوات الأمن المركزي عُهِد إلى أفراده التصدي للمتظاهرين.

المجند 1: إحنا لازم نضرب في المليان.

المجند 2: تضرب مين؟ جايز تضرب واحد في الهوجة ده يطلع أخوك ولا ابن عمك ولا قريبك.

المجند 3: طول ما إحنا معندناش أوامر يبقى ندافع عن نفسنا وبس.

المجند 1: ده فرصتنا علشان نعمل حاجة تنططنا لفوق.

المجند 2: إنتو مزودينها أوي. إنتو إيه إيلي فاتح شهيتكم ع الأزية كده؟

المجند 3: فاهمين غلط. متصورين أن إيلي يضرب أكثر يعجب أكثر ويترقى أسرع.

هو مشهد من فيلم (الهجامة) للمخرج محمد النجار المنتج سنة ،1992 يلخص طريقة اشتغال العقل الأمني العربي وما يتم تلقينه للمجندين والعساكر والضباط مناهجا نظرية أو تطبيقا على الأرض سبيلا أوحدا للترقي الوظيفي.

وفي فيلم (البريء) المنتج سنة 1986 لمخرجه عاطف الطيب، يصل المجند أحمد سبع الليل إلى مركز الاعتقال التابع لقوات الأمن المركزي، حيث تم تجميع عدد من السجناء "المعارضين" للنظام. يفاجأ المجند الشاب، مع أول دخول له إلى ساحة المعتقل، بأصناف الإهانة التي يتعرض لها المعتقلون من إجبار لهم على أكل الرغيف من على الأرض وهم مكتوفي الأيدي.

أحمد سبع الليل: مين دول يا حضرة الصول؟

الصول: دول إيلي مكفرينا وسبب العذاب إيلي إحنا فيه.

أحمد سبع الليل: أيوه، يعني مين هما؟

الصول: دول أعداء الوطن.

أحمد سبع الليل: أعداء الوطن وبتوكلوهم؟ ده اللقمة خسارة في جثتهم. يا نهار أسود.

أعداء الوطن، هي الكلمة المفتاح التي سمعها سبع الليل من ابن بلدته الطالب الجامعي حسين وهدان وهو يشجعه على الالتحاق بالتجنيد الإجباري لمحاربتهم. وهي الكلمة السحرية التي اعتمدها سدنة المعبد السلطوي من الساسة المتخاذلين وخدم الإعلام السلطوي للتحريض على المتظاهرين بميدان التحرير ومختلف الميادين المصرية قبل خمس سنوات. 

نبرة التحريض لم تتوقف منذ ذلك التاريخ حتى أحيانا لنسمع "مذيعا" يهدد كل من يفكر في النزول للاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة أنه سيعود جثة هامدة. ولكي تكتمل "الملهاة" كان لا بد لوزير "العدل" أن يحضر إلى الأستوديو ذاته ليعلن أن غليله لن يشفى إلا بقتل عشرة آلاف إخواني ومن والاهم مقابل كل ضحية تسقط من قوات الجيش والشرطة، محددا سقف الأربعمائة ألف قتيل كحاجز نفسي. وكل ذلك استمرارا للفكر التحريضي الذي بدأه زعيمهم الذي علمهم السحر حين تساءل في خطاب تهديدي: لماذا التظاهر؟ 

كان الرد واقيات ذكرية منفوخة زلزلت عرش "حماة الوطن"، ونشيدا أخرج رأس النظام ومريديه من سكرة "محدش نزل" مختصره: الشعب يريد إسقاط المشير! وواقع اليوم يقول إن لمصر مشيرين اثنين.

أعداء الوطن، هي الكلمة ذاتها التي قد يكون من هاجموا متظاهري التحرير يوم موقعة الجمل الشهيرة سمعوها من محرضيهم فانطلقوا إلى الميدان لتحريره من الأعداء. فكان أن نقلت شاشات التلفزيون العالمي ملحمة/فضيحة من ملاحم/فضائح التاريخ العربي المعاصر تواجه فيها الفريقان بالخيول والجمال والحجارة والمقالع، وكأن التاريخ توقف عند لحظة الحروب القبلية الغابرة بأسلحتها البدائية، في الوقت الذي كان الأمل معقودا في نقلة مستقبلية ترتقي بالعرب إلى "دولة المواطنة" لا غير. لكن الواقع أثبت أنها مجرد "دولة مجانين".

في فيلم (مجانينو) للمخرج عصام الشماع، إنتاج سنة 1993، يدخل صبحي، ذو التوجهات الدينية، ومعه صبي العالمة على الدكتور آدم ومأمور المستشفى حلمي والمناضل الشيوعي السابق بهنس بعد أن انقلبت أحوال مستشفى المجانين رأسا على عقب، وصار الدكاترة أجن من النزلاء باستثناء آدم "العاقل" الوحيد المتبقي. كان حلمي وآدم يناقشان أولويات "الحكم الجديد" بعد أن أعلنوا الثورة على قوانين المستشفى وحولوها إلى دولة مستقلة.

صبحي: السلام عليكم يا أخ آدم. أريد أن أشارك في الحكم.

صبي العالمة: إذا شارك صبحي أنا كمان حشارك في الحكم.

صبحي: اخرس يا صبي العالمة. أنا عايز أشارك في الحكم يا أخ آدم، ولا تنس أننا إخوان سلاح وضربنا عدونا مع بعض بالمقاليع وآن الأوان أن نقتسم السلطة.

صبي العالمة: وأنا كمان.

صبحي: اخرس يا فاسق يا زنديق.

آدم: إنت عاوز إيه يا صبحي؟

صبحي: عايز انتخابات وتبقى إنت إيلي تحت وأنا إيلي فوق. ده شرع الله يا أخ آدم ومعي برنامج.
صبي العالمة: أنا كمان عندي بروغرام يهوس. نجيب كم مزة كده من عنبر الحريم يرقصوا ونجيب العساكر إيلي بره يتفرجوا ويدفعوا.

حلمي: يا جلال! (أحد أتباع حلمي)

جلال: أوامرك يا زعيم.

حلمي: خدهم يا جلال.

آدم: فيه إيه يا حلمي؟

حلمي: لازم نحمي الثورة من أعدائها.

آدم: مفيش حد حيدخل الزنازين.

صبحي: شاطر يا آدم. مادام مش حتحبسنا تبقى شاطر. نبدا الانتخابات بقا؟

آدم: لأ. فيه مليون حاجة لازم تتعمل. الدوا حينفذ والأكل كمان، ولا نسيتو أنكم عيانين؟ حتى إيلي طلطشوا برشام حلمي لازم يتعالجوا قبل الرأي والرأي الآخر.

صبحي: أنا معترض.

صبي العالمة: وأنا كمان معترض.

صبحي: اخرس يا صبي العالمة. وبحذركم كلكم، إوعوا تنسوا ربنا أحسن ربنا ينساكم.

يخرجان.

حلمي: متستهترش بيهم يا زعيم. لازم الزعيم يكون قلبه من حديد، يده متتهزش وهي بتذبح والمذبوح ميطلعلوش صوت.

آدم: المهم عندي العيانين يا حلمي.

بهنس(الذي لم ينطق كلمة طوال الحوار): طيب، ومرام؟

آدم: حخرجها.

ينطلق بهنس فرحا.

مرام هي مديرة المستشفى التي فتنت بهنس بجمالها واعتقلها حلمي مع أول إشراقة للثورة قبل أن يتزوجها بعد ذلك باختيار ورغبة منها.

بهنس لا يزال "مؤمنا" بالشيوعية وإن كانت له قراءة انتهازية لها. فبينما كان آدم وأحد نزلاء المستشفى يستصلحون أرض الساحة لزراعتها، يصل بهنس إلى حيث الحدث.

بهنس: إنت خيالك واسع آوي يا دكتور. بتحارب طواحين الهوا.

آدم: مش إنت اشتراكي يا بهنس بتاع العمال والفلاحين؟
بهنس: طبعا، والاشتراكية جاية يعني جاية.

آدم: طب متعمل ثورة يا أخي بإيدك وتيجي تشتغل معانا.

بهنس: لأ. أنا كادر سياسي منظم. ليا دور طليعي في قيادة الشعب لكن لا أمسك فاس ولا مكنة.

وبينما كان "مجانين الثورة" يتنابزون بالألقاب ويتآمرون على بعض لاقتسام غنيمة السلطة، تصل دفعة جديدة من "أعداء الوطن" إلى المعتقل الصحراوي لأمن الدولة، فتبدأ حفلة الاستقبال المعتادة من ضرب بالكرابيج. سبع الليل كان هناك يحارب بكل ما أوتي من قوة فسقط كرباجه على ابن بلدته حسين وهدان. يصرخ سبع الليل في زملائه ورؤسائه أن يتوقفوا عن الضرب.

سبع الليل: حسين أفندي ابن العم وهدان لا يمكن يكون من أعداء الوطن.. أبدا أبدا..

لحظة صمت رهيب تسود ساحة المعتقل تشي ببداية فهم وإدراك. لكن وصول العقيد توفيق شركس أعاد الأمور إلى نصابها ورمى بسبع الليل وحسين وهدان داخل إحدى زنازين المعتقل.

حسين وهدان: ضحكوا عليك يا سبع الليل. إيلي هنا مش أعداء الوطن. عارف يعني إيه وطن يا أحمد؟
أحمد سبع الليل: يعني.. يعني..

حسين وهدان: وطنك هو بلدك. وعدو بلدك له شكل ثاني غير شكلك. كلامه غير كلامك. عدوك عايز يسرقك وينهبك. يفرح إذا أنت بكيت. ويشبع لما أنت تجوع. كل إيلي هنا أهلك وناسك يا أحمد.

أحمد سبع الليل: يا نهار اسود. ده أنا قتلت واحد منهم وقال لي أنت حمار... لكن إيه إيلي جابكم هنا؟ وبيعملوا فيكم كده ليه؟

حسين وهدان: علشان إحنا لي فهمنا يا أحمد.

مجانين الثورة لم يفهموا بعد..
التعليقات (0)