مقالات مختارة

حروب العشائر العراقية.. تفكك وانهيار الدولة؟

داود البصري
1300x600
1300x600
وسط حروب العراق المتطاحن، الذي يعيش اليوم أشد أيامه بؤسا ومهانة وتمزقا، ومن خضم نيران الحروب الطائفية المشتعلة، وحملات الانتقام والتشفي السائدة في الساحة العراقية، تبرز ظاهرة جاهلية متنامية تعبر عن صورة مستقبلية مرعبة لبلد كان في يوم ما يمثل أملا للعرب، وقبسا للتطور الحضاري، فإذا به ينكص اليوم ليغوص في غبار التاريخ، ويتيه شعبه في روايات الخرافة وأساطيرها.

تلك الظاهرة هي الحروب العشائرية البائسة التي عادت بقوة وبوحشية مفرطة لتجهز على ما تبقى من النسيج الشعبي العراقي الذي أصابه دمار كبير منذ مرحلة الحصار الدولي على العراق أوائل تسعينيات القرن الماضي بعد مغامرة غزو دولة الكويت عام 1990 مرورا بمرحلة الاحتلال الأمريكي التدميري، ثم المرحلة الراهنة، حيث الحروب الطائفية والأهلية المتنقلة التي تشكل لوحة دموية سوريالية مثيرة للغثيان في بلد فقد على المستوى الميداني كل عناصر الأمن والأمان، وتحول لرجل المنطقة المريض، وفي ظل نظام سياسي غير مستقر كان عنوانا للفوضى المهلكة، ولتسلط القيم الطائفية الرثة التي أجهزت بالكامل على المشروع الوطني العراقي الشامل الجامع المانع. 

لقد تكررت في الآونة الأخيرة وبشكل مثير للدهشة حروب العشائر الساخنة في المنطقة الواقعة في شمال مدينة البصرة!، وهي منطقة تشهد نزاعات عشائرية من نوع غريب ومتكرر ومعبر أصدق تعبير عن سقوط وتهاوي هيبة الدولة ومركزيتها بعد أن تسلحت العشائر بأسلحة نوعية جعلها تنقل خلافاتها للشارع وتقطع الطريق الدولية، بل إن معاركها البينية أنتجت قتلى وأسرى ورهائن في مشهد ساخر من مشاهد الكوميديا العراقية السوداء، فالعشائر النازحة من الأهوار في تسعينيات القرن الماضي باتت تنافس على الأرض العشائر المقيمة في تلك المناطق!، وبات النزاع على الأراضي والنفوذ مدخلا لحرب أهلية ضد نوعية من نوع جديد ومتميز!، فعشائر (الكرامشة) الشرسة دخلت منذ انهيار الدولة العراقية عام 2003 في معارك ساخنة ضد عشائر (الحلاف) و(البطاوطة) و(الدبيسات)!، ومورست عمليات اغتيال أثارت القلق في الجنوب العراقي، وهزت أسس الاستقرار الهش أصلا!

في الواقع فإن العراق برمته يعيش اليوم أسيرا لواقع اجتماعي متخلف تمثل في تدمير الرابط الوطني والعودة القوية لرابطة العشيرة التي تحمي وتمنع، وتهاوت بالكامل أسس الدولة الوطنية الحديثة أمام قيم التخلف وعاصفة الاضمحلال الحضاري والتراجع الاجتماعي الذي يعيشه البلد وهو يئن من نتائج عملية سياسية كسيحة بل تدميرية أجهزت على منجزات بناء الدولة الوطنية المتراكم منذ عام 1921 وحتى عام السقوط 2003؟ لذلك فإن معارك العشائر وحروبها المتجددة والساخنة هي مجرد واجهة تؤكد عمق ودرجة حالة التراجع الحضاري والانزواء تحت سطوة وسلطة وحماية العشيرة بدلا من الدولة!

وهو واقع مؤسف تكرس بشكل مكثف وبات يشكل واقعا ليس من السهولة بمكان الإفلات من تبعاته!، ومع الانشغال الحكومي المرهق في إدارة معارك متنقلة وشرسة ضد تنظيم الدولة وغيره تبرز مشكلة تسلح العشائر بالسلاح الثقيل ثم التقاتل فيما بينها لتعمق من أزمة المجتمع العراقي ولتضيف لصورة إدارة الصراع الداخلي أبعادا مقلقة تصب في اتجاه بعثرة الدولة العراقية ووضع الأسس لفرض أوضاع تقسيمية وخلق مناطق نفوذ عشائرية تنهي الدولة وتؤسس لفوضى مطلقة وشاملة من نوع جديد، وهو ما يذكرنا بثلاثينيات القرن الماضي حينما تمت الاستعانة بالعشائر لترتيب وإدارة مشاكل وملفات داخلية مما خلق الاضطراب التام في الدولة العراقية وقتذاك، حجم الخسائر البشرية المتصاعد في الحروب العشائرية باتت تشكل قلقا حقيقيا على بلد عربي مركزي تردت أوضاعه لدرجة الوصول لصراعات وغزوات تعيدنا لعصر ما قبل بناء وتكوين الدولة الوطنية؟

ماذا كانت تفعل إذن الحكومات العراقية السابقة التي فشلت في الوصول لتوافق وطني ولو ضمن أبواب ومساحات أهل المذهب والدين الواحد؟

حروب العشائر كما يبدو من ملامحها العامة وصورتها الكالحة، هي البديل القائم لحالة المجتمع في ظل انهيار الدولة! فهل أن العراق وفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين على أبواب مرحلة ظلامية سوداء جديدة من التفتت والتمزق؟

ذلك هو التساؤل، وتلك هي المأساة!

عن صحيفة الشرق القطرية
0
التعليقات (0)