مقالات مختارة

لن تقهر القدس يا فاطمة لأنها بقلوبنا

هيفاء زنكنة
1300x600
1300x600
كتبت هيفاء زنكنة: لم تفارقنا القدس يوما. ما كان لبدر شاكر السياب نسيانها "والقدس ما للقدس يمشي فوقه صهيون بين الدمع والأشلاء"، ولا لأحمد مطر غير الاعتذار منها "يا قدس يا سيدتي معذرة فليس لي يدان، وليس لي أسلحة وليس لي ميدان، كل الذي أملكه لسان"، ولم يسلم أي حاكم عربي، ملكا كان أو أميرا أو رئيسا، من غضب مظفر نواب. نحن نكتب ونسجل "كي لا يضيع الملمس الخارق لأناس صنعوا بعملهم اليومي ودمهم المبارك تاريخ شعبهم"، يقول سعدي يوسف. مع محمود درويش وسميح القاسم على رأس قائمة، امتزج الشعر والدم الفلسطيني بالعراقي مؤسسا الهوية الواحدة لجيلنا. آملين أن نعيش لنرى مستقبلا مختلفا، مؤمنين بأن من حق أولادنا علينا أن يعيشوا بحرية وكرامة. فكيف تركنا القدس، هذه المرة، لوحدها؟ 

من القدس الجليلة، الصامدة، كتبت إلي فاطمة عبيدات، المعلمة المقدسية الشابة، التي كانت تقضي ساعات، كل يوم، للوصول من القدس حيث تسكن إلى رام الله لحضور ورشة "الصحافة الثقافية" التي أدرتها بمركز السكاكيني، منذ عامين. للزمن والمسافة، بفلسطين المحتلة، معان تختلف عن بقية العالم. معان يفرضها وجود الاحتلال العنصري بمعابره، ونقاط تفتيشه، وقواته التي تتسلى وتلتذ بإهانة وقتل الفلسطيني. تقول ست فاطمة: "عم بكتبلك من وسط حالة العزل التام عن العالم الخارجي في القدس، كل شارع لدينا مقفل بسواتر إسمنتية، ممنوع نمشي أو نسوق أو نشتغل أو نخرج من بيوتنا، يتم إعدام كل مقدسي من قبل أي مواطن إسرائيلي في القدس، لدينا حالة من التردي في القدس تفوق مدى لغتي، أتمنى يكون الإعلام عندك ببريطانيا بفرجيكِ شو صاير لنا في القدس. أكتبي عنا.

إحكي عنا في القدس. طالبات المدارس كمان تم إعدامهن. صاروا يقتلونا ويتهمونا ويهدموا البيوت ويطردونا من القدس ويمنعوا تسليم جثامين الشهداء. مش قادرة أعبر لك عن حالة الموت والركود والوحدة يلي إحنا فيها. ادعيلنا. إحنا بحاجة للحماية الدولية وتحرك المؤسسات التي تعنى بالإنسان. لا أحد يتحرّك معنا".

كتبت فاطمة لتؤكد ما كتبه د. أحمد جميل عزم، الأستاذ في جامعة بير زيت، عن تزييف الحقيقة: "بدأ الإسرائيليون بتزييف عمليات طعن، وأفعال مقاومة. مثل ادعاء مستوطنين أن فتاة مدرسة في القدس تحمل سكينا لطعنهم، وأُطلق الرصاص عليها… وكذلك قصة الشاب الذي كان محتجزا لدى الشرطة الإسرائيلية ويكيلون له الإهانات، وعندما لم يعد يستطيع الصبر على الإهانات والتنكيل، هب يدافع عن نفسه، فأردوه برصاصات كثيرة".

هذه شهادات حية من أرض بات النضال فيها متجذرا كأشجار الزيتون. ويعيش أهل القدس، كبارا وصغارا، نساء ورجالا، كمقاتلين، في الخطوط الأمامية، للدفاع عن مدينتهم، مدينة كل العرب والمسلمين.

فالمحتل يريد الهيمنة على المدينة، قلب فلسطين، بأي شكل كان، يساعده في تنفيذ سياسته سلطة محكومة باتفاقية باتت تعرف، بين الشباب الفلسطيني، بأنها عورة يحاول الساسة الذين وقعوها سترها. تقف خلف السلطة أنظمة عربية تجتمع في قمم تقرر، فينزل المولود كما يصفه النواب "نصف عورة/ ونصف فم/ مبارك.. مبارك/ وبالرفاه والبنين/ أبرقوا لهيئة الأمم". ثم تنبثق من وجوه المساومات لجان ولجان و"حي على اللجان"، ينشد أحمد مطر.

في هيئة الأمم، يسري قانونان. الأول للدول القوية والثاني للدول الضعيفة. حيث تصبح جريمة الإبادة ضد الفلسطينيين مجرد "نزاع بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني" ثم يسدد الفيتو الأمريكي الضربة القاضية على أي قرار يحمل نفسا إنسانيا وأخلاقيا لصالح فلسطين. 

هكذا تبقى تلميذات ست فاطمة ومدرستها معرضة لاقتحام قوات الاحتلال بأنواعها. لنقرأ شهادة ست فاطمة عن يوم عادي في مدرستها: "ححكيلكم كيف سكرت الشبابيك لأحمي بناتي، وسديت الباب مثلي مثل كل معلمة، أساسا مكنتش بعرف شو صار لغيري، لأنه برقبتي كان 28 طالبة. انخنقنا ونحنا تحت زخ قنابل الصوت والغاز والصوت، وجابوا سيارة المياه العادمة يلي بترش مياه كيميائية قاتلة، جمّعت طالباتي بزاوية بعيد عن الباب والشبابيك، لأنه صار فيه حالات اختناق وإغماء، طالبة من طالباتي صابتها حالة هيستيرية وركضت لعندي، آثار أصابعها على ساعدي باقية، حكتلي وهيه بتصيح، مبديش أموت يا مس، أنا خايفة ما تتركيني". ولأن الفلسطيني يحب الحياة "اذا ما استطاع إليها سبيلا"، تهدأ ست فاطمة من روع تلميذاتها قائلة: "بعد سنين حتكبروا وتتخرجوا، ولما أشوفكم حتكونوا تحكوا لأطفالكم وطفلاتكم، نحنا ومس فاطمة كنا على تراب القدس العظيم، صامدين على مقاعد الدراسة، لأنه بالعلم نحنا بنحيا، رح تكبروا وتتذكروا إنه هاي الأرض ما بيسكنها إلا بشر من طينة خاصة، طينة إرادة الحياة".

أكاد أرى وأنا أسجل هذه الشهادة شاعرنا محمود درويش يفتح "باب الحديقةِ كيْ يخرُجَ الياسمينُ إلى الطّرقاتِ نهارا جميلاَ". أرى، أيضا، كما رأى العالم كله، جريمة قتل شاب جهارا وأمام أجهزة الإعلام. هكذا اصبحنا، جميعا بلا استثناء، شهودا على جريمة اغتيال حياة بريئة، فأين هي منصة الشهود لنقف وندلي بشهادتنا ضد الجناة؟ كيف انحدرت القيم والأخلاق إلى حد بتنا نتمكن فيه من النوم ويقظتنا تغطيها الدماء؟ أليس الصمت مشاركة بالجريمة؟ 

ماذا عنا؟ هل بإمكاننا أن نقترب، نحن من نعيش خارج الأرض المحتلة ولا نملك غير القلم سلاحا، من أفعال الصمود والمقاومة والشهادة بمفردات التضامن، بالقصائد، بالتوثيق وتسجيل الشهادات؟ تقول لي عراقيتي المعجونة عجنا بالحق الفلسطيني: قد لا ترتقي المفردات إلى مستوى الفعل ولكن الصمت يعني الاستسلام والخنوع والقبول بمسح الهوية وتزييف الحقيقة.

ووقوفنا متضامنين مع الحق الفلسطيني والبحث عن سبل نضال وتضامن واجب ومسؤولية مع إدراكنا بان ما حافظ على فلسطين، رغم جراحها، حتى الآن، هم أهلها. سلاح المرابطات المدافعات عن حرمة الأقصى هو التكبير. وما صان القدس، حتى الآن، غير عشق أهلها لها. لهوائها، لتربتها، لصخرتها، لرمزيتها، لتاريخها. قدسيتها التي تستمدها من أهلها الذين يبررون دفاعهم عنها واستشهادهم في سبيلها قائلين ببساطة مذهلة: لأنها القدس. كيف تدحر مدينة يحملها أهلها بقلوبهم؟

(عن صحيفة القدس العربي، 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2015)
التعليقات (0)