قضايا وآراء

ثقافة تفاح الضرار عند نسيان التين والزيتون

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
ربما حدثت النفس نفسها يوما فقالت: هل هناك عمار بيني وبين جسدي؟ هل هناك توأمة بيني وبين جسدي؟ فلا غرابة أن تجد النفس نفسها مفصولة عن جسدها ودون عمار!

هناك إذ بحدث تتذكره يجعلها تعاود النظر قبل أن يرتد إليها بصرها خاسئا وهو حسير، عندئذ تكتشف أن هناك عمارة واستخلافا أضاعتهما بينها وبين جسدها الأكبر، وكأن كسوف شمس الأمس جعلها تجدد النظر فترى الضحى يعشش في أعماقها فيتجلى النهار ثم يغشى الليل فإذا الفجر يقول: يا نفس قومي وانهضي إنك خلقت بجسدك موحدة لله الواحد الأحد، فعمري الأرض وعمري الكون بأنفاسك، أنت بجسدك ذاتك وجسدك الأكبر "أمتك" التي فيها خيريتك إلى حين يومك.

تلك هي نفس لوامة في حركة تفكر واندفاع وتغيير وتقييم، فتهتدي للأقوم، وتدرك أنها خلقت لتكون في أحسن تقويم… هي نفس في ديدنها باحثة عن طبيبها ومحضر ترياقها ومحرر أبحاثها ومهندس مسكنها ومضجعها وصانع زادها…

وهناك نفس ابتليت بثقافة "تفاح الضرار" ونسيت التين والزيتون وطور سينين، فلن تكون في أحسن تقويم، ولكن أي تفاح هذا؟ 

ذلك هو تفاح من يبث السم في العسل؟ إنه مبعث أغنية في مطلعها "ازرع زيتون ازرع ليمون ازرع تفاح.. لا تخلي الظالم ببلادي يهدا ويرتاح، إحنا ثورتنا سلمية.. بسمونا إرهابية.. مقاومتنا شرعية من دون سلاح" وعنوان تلك الأغنية "من دون سلاح والتي بثتها فضائية فلسطين - التلفزيون الرسمي للسلطة الفلسطينية. 

نواجه عدوا مدججا بالسلاح بأغنية "بدون سلاح"، وأي سلاح لهذا العدو الذي لا حدود لمدده وتقنيات من يمده به ويطوره، ذلك ليغتصب الإنسانية ويقتلعها بالعنصرية الفريدة في أرض ليست أرضه ويهودية أرض لا يملك أصلا ولا منطقا ولا منطلقا لها.

لا شك أن ذلك لا ينطلي على البليد، ولا على الطفل الوليد، بل فقط على ذلك الذي كالحمار لا يحمل إلا أسفارا أتعبته؛ ليس من ثقل وزنها، ولكن من عدم أهلية حملها ولا إدارتها، فتراه يترنح يمنة ويسرة، وكأن عموده الفقري قد أصابه التهابا تنكسيا لا علاج له إلا أن يبتر جذعه فيقعد عاجزا ينتظر الوسيلة لنقله من مكان إلى أخر. ومن فضلة من هنا أو هناك تقيه شر الجوع والقوارض والمبيدات.

لقد ظلم التفاح وظلم الحمار!! ما أجمل تفاحك يا أرض التين والزيتون ومهد المسيح عليه السلام، وأرض الإسراء والمعراج ومهبط الرسالات؟
 
لسنا هنا في خوف على أجيالنا أن تنطلي عليهم تصعير الخدود بالورود وتلوين الشفاه بالحمرة المسعورة التي تناورك إلى مخدعها فتحرق ذاك الجسد بعد أن أزهقت توأمته مع ذات النفس الفتية في فطرتها، عندما ضلت متخذة إلهها هواها، فكانت ممن ظلم نفسه وظلم أمة وأجيال حلم الغاصب أن يتمكن منها عهودا لم تستطع له كل آلات القتل والتشريد وإزهاق الأرواح والممتلكات ومعاناة العاني "الأسير" في غياهب السجون والزنازين والبعد عن الوالدين والزوج والولد والأحباب.

مع كل هذا، لم يفلحوا في النيل من إرث فتح عمر وصلاح الدين؛ لأنهم لا يدركون أن المؤمنين لأماناتهم وعهدهم راعون، وهم المفلحون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون…
 
هؤلاء المفلحون يدركون معنى قول حبيبهم المصطفى عليه السلام: "ائتوه"، ومن لم يستطع أن يأتيه "فليهدي له زيتا يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه".
 
لم يأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتيه بثقافة تفاحهم، وتفاح التين والزيتون وطور سينين، والبلد الأمين بريء من ذلك التفاح الذي تنطع مغني كلماته "مقاومتنا شرعية من دون سلاح". اجعلوا أسلحتكم في أروقتكم؛ لتستخدموها في تقطيع تفاحكم بعد أكلة مسخن أو جوقة من عسل مصفى على أعتاب أهوائكم التي هي أشد وأنكى، وهي من تحقن السم في العسل.
 
لا بد لنا أن نقول كلمة، ولن نحيد عنها أن هناك أمة وأجيالا تفهم وتعي، ولا يغرها زراعة تفاح في غير موضعه الأصيل، ولا أقصد هنا أرض التين والزيتون، ولكن مخدع المصدرين لثقافة التفاح في غير أحسن تقويم.
 
كلوا تفاحكم، واتركوا لنا تفاحنا الأصيل الذي تربى على التين والزيتون في أحسن تقويم!
 
كلوا تفاحكم فهو ضرار، مثل مسجد ضرار، ظاهره حلو ومذاقه علقم، فهل تعلمتم ما فعل رسول الهدى بمسجد الضرار؟ ألا تعلمون أنه تحول مكبا لنفايات يثرب الحبيبة، وذلك في عصره منذ أكثر من أربعة عشر قرنا قبل أن تؤسس مكبات النفايات في عصرنا الحديث هذا.
 
كلوا من تفاحات "أبو صالح"؛ خيري حاتم في أنشودته التي جاء فيها "يا أبو صالح اتغربنا ما نسينا كرم التفاح.. بنار الغربة اتعذبنا وياما ابكينا على اللي راح.. هينا كبرنا وشيبنا ولسا معنا هالمفتاح.. يذكرنا بريحة هالدار وللعودة يضل عنوان.. بتذكر يا أبو صالح.. بطاحونة أبو راجح لما هالطير الصالح.. بيهدي على كفوف الطحان".
 
تفاحك يا "أبو صالح" هو تفاح "ريحة الدار وللعودة يضل عنوان"… تفاحك يا "أبو صالح" هو تفاح التين والزيتون لطريق "أحسن تقويم"… تفاحك يا "أبو صالح" هو لقاح وبالمرصاد لـ"تفاح ضرار" وثقافة "ضرار". 
 
كم حاول غيركم وفشل، وكم حاول من هو أعتى منكم وفشل؟ ألا ندلكم على السر وعلى الخطة التي إن اتبعتموها تفوزون. إنها معرفة سر النجاح وسر تأسيس النجاح. تعلموا آية سر النجاح وسر تأسيس النجاح، لا بل الفلاح وقانون الفلاح في الدنيا والآخرة في محكم التنزيل وهادي البشرية إلى الصراط المستقيم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدا ضِرَارا وَكُفْرا وَتَفْرِيقا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدا لَمَسْجِد أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْم أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) التوبة)
 
هل أدركتم أن سر الفلاح أن تؤسس لأعمالك وبنيانك على التقوى إن أردت أن تفلح ويفلح عملك وبناؤك؟ ذلك كي لا ينجرف في جرف هار لا حدود له، هل أدركتم معنى أن تؤسسوا على التقوى، أم هي ليست في أجندتكم، بل ليس في مناط أجندتكم؟ هل أدركتم يا أصحاب ثقافة "تفاح الضرار" أنكم لن تفلحوا أبدا في مدرستكم وتجارتكم التي تبور؟ 
 
هل أدركتم أن ثقافة "تفاح الضرار" لن تفصل تؤامة الجسد عن نفسها التقية، فلا عمار ولا استخلاف، ولا أمن ولا أمان ولا وطن ولا مقدسات إلا بها ومعها؟ هل أدركتم أن "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" هي جواب قسم "والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين"؟ فهل يكون القسم إلا في عظيم وجوابه الذي هو في سره ومكمنه؟

هل أدركتم أنكم تزرعون في تربة غير تربة بلاد التين والزيتون؟

 حفظ الله لنا قيمنا وعهودنا وأكرمنا بفهم سننه في الكون وسر النجاح والفلاح وحفظنا من ثقافة "تفاح الضرار".. اللهم أمين.

 * رئيس مجموعة أبحاث هندسة البرمجيات

 جامعة غرب إنجلترا -بريستول- المملكة المتحدة
التعليقات (4)
خضر ابراهيم حرزاللة
السبت، 26-09-2015 11:39 ص
جزاك الله خيرا يا دكتور محمد . كلام في قمة البلاغة والمضمون . فأنت بحق عالم و فَقِيه. مع كل ذلك فان عدونا هو اشرس الأعداء وأشدهم عداءا للمسلمين . فكيف نغفل عن هذه الحقيقة كيف؟ القوم الجبارين وعلى الأخص ذوي الامر منهم هم الصم البكم العمى الذين لم يعوا ان ما بقى من وطن يسير نحو الهاوية . وان لا وطن في التاريخ قد تحرر في الفنادق وليس في الخنادق. لعن الله الكرسي وخصوصا ان كان مريحا لان من يجلس عليه لن يتركه أبدا الا بأمر رباني او بطلقة مثلوم. لك محبتي القلبية والله يرعاك خضر حرزاللة
د خالد مبسلط
الجمعة، 04-09-2015 10:59 م
شكرا على المقال الراءع والهدف النبيل
الجمعة، 04-09-2015 10:49 ص
مقالة رائعة وممتازة وهي على الوجع الذي نحن فيه ولا تحسبن اننا بعيدين عن الماسي بقدر معاناتنا من يوم ولدنا ونحن بكامل جوارحنا بالمعاناة و يكفينا اننا نعيش وفوقنا كفيل كالعبيد وكالبغال وتجرنا ساقية ويكفينا اننا ولدنا وسنموت ونحن لا نملك شبر. ارض باسمنا. والله المستعان
د خالد مبسلط
الجمعة، 04-09-2015 01:20 ص
مقال راءع.ولكن واقع الكثير من ابناء جلدتنا ينطبق عليهم من يهن يسهل الهوان عليه في احسن الاحوال والا فهم يبعيون كل شي وليس الوطن من اجل مصالحهم.