قضايا وآراء

في اعتصام رابعة.. ذكريات لا تُنسى

مجدي مغيرة
1300x600
1300x600
ما إن تتخطى الحاجز الفاصل لتدخل اعتصام رابعة حتى تشعر أنك انتقلت من عالَمِ الأرض إلى عالَم آخرَ هو عالَمُ السماء.

انتقلت إلى عالَم طالما بحث عنه الفلاسفة في مدنهم الفاضلة التي تخيلوها في أذهانهم، وسجلوا ما تخيلوه في كتبهم، عالَم ارتقت فيه أخلاق المعتصمين جميعا، وطاولت في رقيها عنان السماء، وجاوزت بسموها اهتمامات أهل الأرض.

في هذا العالم تساوى الجميع، ولا تكاد تعرف الفرق بين غني وفقير، ولا وزير وغفير، فالجميع ينام في خيمة واحدة بجوار بعضهم البعض، والجميع يحرص على خدمة الجميع، والجميع يتواضع للجميع.... يتحلقون حول بعضهم، وما إن يبدأ التعارف حتى تجد الخبير المختص بجوار الفلاح، بجوار البقال والمعلم والطالب والأستاذ الجامعي وعامل المصنع، وبائع الرصيف..... الصغير والكبير.... الرجل والشيخ.... الشاب والطفل........... يأخذك العجب!!!...... كيف اجتمع هؤلاء؟ وكيف زالت الفوارق بينهم؟! ومن جمعهم؟! وما تلك الألفة بينهم كأنهم يعرفون بعضهم البعض منذ سنوات طوال؟!.

تجد الفلاح الريفي البسيط... بجلبابه المعروف ذي الأكمام الواسعة، والعمامة البيضاء على رأسه، يقود مسيرة صغيرة تجوب خيام المعتصمين، يردد فيها بقوة عبارات تحثهم على الصمود، وعدم الرجوع إلا بعودة السيد الرئيس والدستور والمجالس النيابية المنتخبة!!! 

في اعتصام رابعة، ترى لأول مرة في حياتك المرأة الريفية البسيطة بزيها الريفي التقليدي، تجلس في خيمتها مع النساء من مختلف الأعمار والطبقات، وتردد بقوة شعارات ضد الانقلاب، وتطالب بعودة الشرعية...... منذ متى وهذه المرأة تهتم بمثل هذه المطالب؟!

في اعتصام رابعة كان الطفل -من شدة الزحام- ربما انفلت من يد أمه، وتلتفت الأم فلا تجد ابنها، لكنها لا تقلق لغيابه، ولا يستبد بها الخوف عليه، فهي توقن تماما أنها سوف تسمع بعد قليل من مكبرات الصوت على المنصة، من ينادي باسم طفلها الموجود عند المنصة لتأتي وتستلمه.

من فقد أوراقه الرسمية.... من فقد موبايله..... من فقد متاعا من أمتعته لا يكلف نفسه بالبحث عنها في هذا الزحام الشديد، لأن من عثر عليها سيسلمها عند المنصة للأمانات المفقودة، وتظل هناك حتى يأتي صاحبها ليأخذها.

كنا نقف في طابور الحمام..... أمامك ما لا يقل عن عشرة أو أكثر من الأفراد حتى يأتي عليك الدور لتدخله، وفي لحظات الانتظار هذه لم تكن تشعر بملل ولا تأفف، ولا بطول انتظار، فحديثك العذب مع المنتظرين يجعلك لا تشعر بشيء من هذا أبدا.

إذا جاء وقت الإفطار أو وقت السحور وأنت بعيد عن خيمتك، فلا تقلق... اجلس حيث انتهى بك المكان، فستجد الكثيرين يرحبون بك، ويقدمون لك الطعام والشراب هنيئا مريئا.

كنت تجد بعد الإفطار ووقت السحور من يمشي في الطرقات حاملا لحلويات رمضان ومشروبات رمضان، ومن أراد شيئا من ذلك مد يده وأخذ منه، دون طمع أو شره.

كان بائع الخضروات يأتي بعربته وخضاره، وقد وضع سعر كل صنف في ورقة كرتونية، ووضع الميزان بجوارهم... ثم يترك كل ذلك ويذهب لقضاء بعض حاجاته، دون أن تكون له عين تحرس بضاعته، فهو موقن أن من أراد شيئا سيأخذه، ويترك له ثمنه لا يبخس منه شيئا.

وكان صاحب البقالة يجلس داخل بقالته، والبضائع كالجبل في الخارج من كثرتها وبخاصة الماء والعصائر، يأخذ منها المعتصمون ما أرادوا، ويدخلون لصاحب البقالة لينقدوه ثمنها، فيقبض الثمن دون أن يرى ما أخذوه، فهو يعلم تماما عفتهم عن الحرام، وزهدهم فيه.

فإذا ما ذهبت إلى ميدان رابعة ليلا لتستمع إلى الفقرات الممتعة ما بين حديث لشيخ أو تحليل لسياسي، أو تجربة لوزير خاضها لأول مرة في حياته مع أطهر من عرفهم من رجال مصر، أو نشيد من صوت عذب، أو فقرة فكاهية يقدمها شباب مبدع... رأيت وأنت تستمع لكل ذلك من يحرص أن يقدم لك الشاي أو العصير أو الماء البارد... يقدم لك ذلك بالمجان وهو فرح مسرور.

فإذا ما أتى وقت الصلاة رأيت الجميع صفوفا، لا يتخلف منهم أحد إلا لعذر، كنت تجد الجميع يصلي العشاء والتراويح، ثم يستمعون إلى بعض المتحدثين على منصة رابعة، وقد ينام بعضهم ليستريح قليلا من عناء مسيرة شارك فيها نهارا وهو صائم، وسار فيها عدة كيلو مترات لا يبالي بحر الشمس، ولا بطول الطريق، ولا بشدة العطش، ولا بما أصابه من حجارة قذفه بها بلطجية النظام، وربما أصابت تلك الحجارة رجلا قدَّم يوما عونا لذلك البلطجي أو عالج له طفلا، أو أعطاه مالا، أو فَكَّ عنه كربا عاني منه يوما ما.

في رابعة، وفي النهضة اجتمع صفوة أهل مصر، اجتمعوا لينصروا حقا، ويستردوا صوتهم الذي وضعوه في صناديق الاقتراع، ويعلنوا كلمة حق أمام مغتصب ظن أن المدفع والدبابة سترهبهم وتخرس ألسنتهم.

اجتمعوا وكان القرآن بأيديهم، وسجادة الصلاة على أكتافهم.

هؤلاء الأطهار هم من أطلق عليهم الانقلاب رصاصاته المضادة للطائرات، كأنما خشي ألا تقتلهم رصاصات الكلاشينكوف.

هؤلاء الأطهار هم من أشعل جنود الانقلاب النار في أجسادهم، وهم أحياء.

هؤلاء الأطهار هم من جرفتهم الجرافات وهم جرحى، ووضعتهم في حفر، وأهالت عليهم التراب وهم أحياء.

هؤلاء الأطهار هم من كانت جرافات الانقلاب ترفع جثثهم الملفوفة في الأكفان، لتلقيها في صناديق القمامة لتذهب بها وتدفنها في الصحراء كما تُدفن النفاياتُ، دون مراعاة لإنسانية، ولا اعتبار لقيم، ولا اهتزاز لضمير.

لقد فعلوا ما فعلوا، ولم يعلموا أن تلك المذبحة ستكون لعنة عليهم في الدنيا قبل الآخرة...

ستكون لعنة عليهم وعلى من أيدهم ومن ساعدهم، ومن رضي بما فعلوا.

لم يعلموا أن تلك المذبحة ستكون رمزا يلهم الأحرار في كل زمان وفي كل مكان...

سلام عليك يا رابعة.. سلام على شهدائك.. سلام على جرحاك.. سلام على كل حر شارك في مسيرتك.
التعليقات (1)
ابو خالد الاردن
الأربعاء، 12-08-2015 07:38 ص
مقال رائع ويدل على ان الشعب المصري هو شعب مسلم مجاهد وليس شعب الرقاصات والعسكر الفاسدين....لك الله ياشعب مصر واذا كان الظلم الان ظاهرا فلن يدوم وسيذهب الظالمون الى مزبلة التاريخ ان اجلا ام عاجلا....وما ذلك على الله بعزيز

خبر عاجل