قضايا وآراء

في دلالات الأزمنة

عمرو عادل
1300x600
1300x600
يرتبط شهر رمضان في ذهن الكثير من الناس ارتباطا مضللا بالانتصارات الحاسمة فقط في تاريخ الأمة؛ ولا جدال أن الانتصارات التاريخية للأمم هي أحد أهم عوامل فخرها وعزها؛ وينبغي علينا الاعتزاز بها؛ فالماضي المجيد يمكن أن يكون دافعا لبناء حاضر أكثر مجدا أو على الأقل الدفع لبناء مستقبل مستلهما روح ذلك الماضي المجيد؛ ولكن لا ينبغي علينا خداع أنفسنا بالربط المضلل بين شهر رمضان والانتصارات.

ويصنع هذا الربط المضلل أزمات كبرى وخاصة عندما تكون انتصارات الماضي محاولة لملء فراغ الفشل الشامل الذي يحيط بمجتمع ما؛ وهروب من الهزيمة الشاملة إلى حالة من الانتشاء الزائف بالعودة إلى التاريخ المجيد بعيدا عن الحاضر المهين. وهذا يأتي دائما في حالات الانهيار الحضاري لمحاولة صناعة حقائق زائفة بالربط غير المنطقي بين المقدمات والنتائج.

فشهر رمضان هو شهر موقعة بدر الكبرى أول انتصار في تاريخ الإسلام؛ وهو شهر الانتصار في معركة عمورية بقيادة الخليفة المعتصم؛ هو شهر الفتح الأعظم فتح مكة الذي حسم الصراع لصالح قوى الإسلام.

هو أيضا شهر اعتصام رابعة العدوية؛ تلك الأيام التي كانت تسيل فيها الدماء التي كانت تنتظر انتصار رمضان الذي عرفوه في بدر وفي الفتح وفي غيرها من أيام الله؛ ولكن الانتصار لم يأت -أو هكذا نظن- وأتى بدلا من "الانتصار" آلاف القتلى برصاصات من كل اتجاه.

بالتأكيد علينا أن نعيد حساباتنا ولكن هناك أسئلة أخري تفرض علينا المأساة الإجابة عليها.

1 - ما هي الهزيمة؟

تعرف الهزيمة لغة على أنها الانهزامُ في القتال والانكسار والخسران؛ وكما أري أن الهزيمة الشاملة لا تتحقق إلا عندما يعترف المنهزم بهزيمته ويقرها ويكف عن المحاولة أو يستمر في محاولته بنفس الطرق التي هُزِم بها؛ فاستمرار المحاولة مع تغيير قواعد المعركة وإعادة قراءة المشهد دليل على أنك لم تنهزم بعد؛ فربما تخسر معركة ولكنك تصر على استمرار القتال.

ما حدث في معركة حنين كان حالة هزيمة ولكنها انتهت سريعا عندما استعاد فيها المسلمون مقدماتهم الصحيحة وأدركوا سنن النصر الحقيقية وعلموا أن الكثرة دون سنن النصر لن تأتي بنصر.

2 - هل كانت كل معارك المسلمين في رمضان تنتهي بالنصر؟

يجيبنا التاريخ بالنفي؛ فمعركة حنين التي أعجب المسلمين فيها كثرتهم كانت في نهاية شهر رمضان وهزم المسلمون بها؛ والمعركة التي خاضها العثمانيين على أسوار فيينا والتي غيرت مجرى التاريخ وهزم فيها الجيش العثماني كانت في رمضان. الحروب الطاحنة بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية كان منها في رمضان؛ معركة شماهي الأولى والثانية؛ وقع فيها عشرات الآلاف من الطرفين دون أن يمنع شهر رمضان المسلمين من قتال بعضهم البعض.

إذا رمضان بالضرورة ليس شهرا للمعارك التي تنتصر فيها حتما؛ فهو لا يمتلك مفتاحا للنصر؛ ولا الصوم يمثل قيمة مضافة للمسلمين عن غيرهم؛ فالإفطار أولى في القتال أثناء شهر رمضان؛ فروى التِّرمذيُّ، عن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنْه قال: "غزوْنا مع رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم غزوتَين: يوم بدْر، والفتْح، فأفطرْنا فيهِما". 

فلا توجد دلالات للزمان بتحقيق النصر؛ فهذا شهر رمضان شهر هزائم وانتصارات؛ والزمان ليس له من القوة التي تغير السنن الكونية؛ فالنصر له أسبابه التي لا تتعلق بأي زمن كان ولا بأي مكان كان.

لم يستطع اسم ميدان رابعة العدوية حماية أحد من رائحة قنابل الدخان ولم يكن شهر رمضان درعا لرصاصات الجرينوف والكلاشنكوف.

3 - هل ما حدث برابعة العدوية هزيمة

ربما كان هذا السؤال أصعبهم فالماضي موجود في كتب التاريخ وما علينا إلا العودة إليها لنعلم ماذا حدث وماذا قيل؛ أما تلك الأحداث التي عايشناها وسط الدماء ونحمل في أعناقنا ثأرا لهؤلاء الذين تلقوا رصاصات بدلا منا؛ فهي أحداث صنعناها ونعيشها؛ ولكن مع صوت طلقات الرصاص وكل شهيد يسقط وكل استغاثة تنطلق من سيدة أو طفل؛ مع رائحة حرق الشهداء ولحظات اشتعال الميدان أزال الدخان المتصاعد غبارا كثيفا كان عالقا في فضاء عقولنا وأعيننا؛ وانقسم الجميع إلى مهزومين ومنتصرين؛ فلم تكن مجزرة رابعة هزيمة للجميع ولا نصرا للجميع.

فقد انهزم من انتظر انتصار رمضان وكأن الشهر الكريم من سنن الله في النصر؛ انهزم من رأي أنها النهاية ويجب على الجميع الاستسلام؛ انهزم من ظن أن رؤيا أو حديث نفس قادرا على تحقيق نصر دون امتلاك أسبابه؛ إنهزم من ظل هكذا يعيش في معادلات الماضي وتوازناته ولم يُزِل الدخان المتصاعد من الميدان المحترق غبار السنين الخادعة.

ولكن بقي هناك منتصرون؛ هؤلاء الذين أدركوا أن العودة لسنن الله في الانتصار هي الحل الوحيد؛ والذين أدركوا أن شهر رمضان لن يأتي بنصر لمجرد أنه رمضان؛ والذين أدركوا أننا كنا في كهف عميق والخروج من هذا الكهف هو الواجب الذي لا يمكن النجاح بدونه.

الذين أدركوا أن المعركة ليست كما كانوا يقولون لنا ولكنها معركة مستمرة منذ مئات السنين وها نحن ذا وضعنا قدمنا على أول طريق النصر بمعرفتنا من العدو.

الذين أدركوا أن برناردينو وأشتون وكارتر ونتنياهو وأوباما هم أصل الصراع وأن أصحاب الزي الكاكي هم وكلاءهم وتابعيهم؛ وكما فعلوا مع عرابي ورجاله بجنود انجليز بجنسية انجليزية؛ فعلوا معنا بجنود أمريكان بجنسية مصرية. 

المنتصرون هم الأمل والمنهزمون هم العقبة في طريق الخروج من الكهف العميق. 

لن ننتصر في رمضان لأنه رمضان ولكن سننتصر في أي شهر كان عندما نتبع سنن النصر التي نعرفها. وعندما يؤمن المنتصرون أنهم سينتصرون عندما يخرجون من هذا النفق العميق.
التعليقات (1)
رضا بودراع
الثلاثاء، 07-07-2015 03:31 م
الدكتور عمرو عادل يكاد يكون من القلائل الذين جمعوا بين الفكر الأكاديمي وفقه السنن الكونية المطابقة للسنن الشرعية .. مقال موفق