مئة وستون ألف متفرج كان عدد من تابعوا المغنية العالمية جنيفير لوبيز بمناسبة حفل افتتاح مهرجان موازين لدورة هذه السنة. ليس الرقم هو ما يهم في الأمر بل إن الحفل نقل مباشرة على شاشة القناة الثانية المغربية، وهي قناة تابعة في المبدأ لوزارة الاتصال، ومن خلالها لحكومة عبد الاله بنكيران.
لم تخيب جنيفر لوبيز وفرقتها الظن، وقدما عرضا ما كان ليمر مرور الكرام. ظهرت لوبيز بلباس داخلي قصير، وكذا عضوات فرقتها، كما فعلت جيسي جي السنة الماضية، وتراقصن بإيحاءات جنسية صريحة، وكل ذلك علنا وبـ"المباشر".
إلى هنا لا إشكال في الموضوع، لكن تصادف أن الحفل جاء بعد ثلاثة أيام من بيان لوزارة الاتصال أعلنت فيه عن منع عرض فيلم "الزين اللي فيك" للمخرج نبيل عيوش، بالنظر إلى "ما تضمنه من إساءة أخلاقية جسيمة للقيم وللمرأة المغربية، ومس صريح بصورة المغرب".
وزير الاتصال مصطفى الخلفي اعتبر القرار "سياديا". في حالة حفل جنيفير لوبيز، لا قدرة للحكومة "الإسلامية" على إشهار ورقة القيم والأخلاق، بالرغم من أن أعضاءها كانوا قبل اعتلاء الكرسي الوزاري يعتبرون المهرجان مجرد عرض "بورنوغرافي"، قبل أن يطبعوا مع الأمر.
فمهرجان موازين مهرجان "سيادي" ودعوة جنيفير لوبيز إليه قرار "سيادي"، ولا سيادة تعلو عليهما وإن كانت "شعبية"، علما أن وزراء ومنتخبو الأغلبية الحكومية لا قدرة لهم على جمع مئة وستين ألف متفرج في أي تجمع خطابي يعقدونه في الحاضر كما المستقبل. وقرارات الحكومة "السيادية" لا تسري إلا على فيلم عيوش وقبله فيلم "خروج الآلهة" الذي لم يسمح بعرضه في القاعات الوطنية إلا بعد قبول المخرج العالمي ريدلي سكوت حذف مشهد من الفيلم نزولا عند رغبة أصدقائه المغاربة.
في بدايات وصول حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الأغلبية الحكومة، كان وفد برلماني من الحزب في زيارة لغزة ومصر، وفي طريق العودة تصادف وجودهم بالطائرة مع بث فيلم "سبايدرمان".
وفي لحظة تقبيل البطل للبطلة ثارت ثائرة البرلمانيين، وعلى رأسهم عبد العزيز أفتاتي، ضد المشهد "الخادش للحياء"، وحولوا الطائرة لساحة وغى دفاعا على حق المسافرين في أفلام "نظيفة" كادت تعصف بالرحلة وركابها. نزل الوفد بالمغرب، ونسي الجميع فصول المعركة، وعادوا لحياتهم الطبيعية، وكأن شيئا لم يكن.
بعد بث السهرة "المشهودة"، طالب قياديون بالحزب الأغلبي وزير الاتصال، المنتمي إلى الحزب ذاته، بالاستقالة كما وجهوا رسائل استنكار إلى رئيس الحكومة، وطالبوه بالتدخل لوقف بث سهرات مماثلة بالتلفزيون الرسمي.
الواقع أنها مجرد لعبة تبادل أدوار ليس إلا، فكل قنوات التلفزيون الرسمي تتجند طوال أسبوع المهرجان لنقل فعالياته وسهراته، وتعدل من خارطة برامجها استعدادا للحدث السعيد. وليس الخلفي ولا غيره من يستطيع منع البث، وهو الذي فشل وكل الحكومة في تطبيق بنود دفاتر التحملات التي تجمع الحكومة بالقنوات التلفزيونية.
نبيل عيوش بالمناسبة ليس مخرجا ولا منتجا عاديا، بل هو واحد من أبناء "النظام system". والدولة تعول عليه منذ سنوات، وهو العضو المعين في المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، في تأطير الرأي العام من داخل القنوات العمومية ذاتها التي يفوز سنويا بحصة الأسد من صفقات برامجها وطنية كانت أو جهوية.
هنا يصبح قرار منعه في السينما، حيث لا يتعدى عدد صالات العرض على كل التراب المغربي أربعين قاعة، وفتح الأبواب أمامه في التلفزيون الذي يدخل كل البيوت دون استثناء، قرارا ممنوعا من الصرف.
نبيل عيوش يعلم جيدا أن قرارا مثل هذا يتعدى مدير المركز السينمائي الذي أسر في لقاء إذاعي، استنجد فيه باللهجة العامية المغربية، ربما لأول مرة، وهو صاحب اللسان المفرنس، أنه وجد الفيلم "واعر"، أي ممتازا، بعد أن شاهداه جنبا إلى جنب في مهرجان كان الأخير. كما أن وزارة الاتصال أعجز من أن تتخذ قرارا مثل هذا دون العودة إلى أصحاب القرار الفعلي.
ولأنه عالم بالكواليس، فقد كان رد فعله هادئا جدا خصوصا، وأن المنع من العرض صدر دون أن يكون قد طلب هو رخصة السماح بعرض فيلمه بالقاعات المغربية، كما صدر خارج القانون المعمول به حيث يعهد بإصدار تراخيص الاستغلال التجاري للأفلام ومنعها إلى لجنة خماسية بالمركز السينمائي لم تجتمع في حالة "الزين اللي فيك"، ولم يشاهد أعضاؤها الفيلم من أساسه. وفي حال لجأ المخرج إلى القضاء الإداري "فسيستمتع" الجمهور المغربي بالفيلم دونما حاجة إلى التلصص على المقاطع المسربة على اليوتيوب.
استعادة مسار نبيل عيوش في السينما المغربية يظهر أن المنع كله زوبعة في فنجان. بدأ الرجل أعماله الطويلة بفيلم "مكتوب"؛ حيث اهتم بحدث فارق في المغرب، ممثلا في قضية رجل المخابرات الداخلية الحاج ثابت الذي اعتقل وحوكم بالإعدام على خلفية فضائح اغتصاب جنسية كان يقوم بتصويرها، وفيه قدم مشهدا لامرأة عارية في الحمام.
بعدها انتقل لموضوع الأطفال المشردين في فيلم "علي زاوا"؛ حيث كان الحوار مستلهما من لغة المشردين، وقدم فيه أيضا مشهدا جنسيا ولو بطريقة "فنية".
وعلى وقع نجاح الفيلمين، اختار عيوش الاستغلال الجنسي للأطفال والشذوذ موضوعا لفيلم "لحظة ظلام"، وفيه انتقل إلى مرحلة إبراز العضو الذكري واضحا لا لبس فيه. وقد جمع هذا الفيلم كل توابل الفساد؛ حيث أنه كان مشروعا تلفزيونيا ممولا من تلفزيون "أرتي" الفرنسي الألماني، قبل أن يحوله المخرج للجنة دعم الأفلام بالمركز السينمائي كسيناريو، وهو الذي كان فيلما جاهزا، وحصل على دعمها، كما دعمته القناة الثانية المغربية دون أن تتمكن من عرضه إلى اليوم، ودون أن يشاهده المغاربة في القاعات أيضا.
بعده أخرج فيلم "كل ما تريده لولا"، قبل أن ينتقل إلى حدث آخر مفصليا في التاريخ المغربي باستلهامه أحداث تفجيرات الدار البيضاء في السادس عشر من مايو 2003، وفيه قدم مرة أخرى لغة أهل الهامش ومعه مشهد جنسي مقزز لاغتصاب طفل لطفل آخر.
واليوم عاد مع فيلم عن دعارة المغربيات والخليجيين بمدينة مراكش، بكل ما حملته المقاطع المسربة من مشاهد وألفاظ جعلت الفيلم يطغى على النقاش المجتمعي والسياسي والحقوقي بالمغرب، فتظاهر ضده الساسة، ودبج آخرون عرائض تضامن تحذر من الاعتداء على حرية الفكر والإبداع، كما تباكى المساهمون في إنتاجه على جو الترهيب والتخويف الذي يعيشونه...الخ.
الواضح أن عيوش يعرف جيدا كيف يصنع الضجة حول أفلامه، بما يمنحه فرصا أكبر للمشاركة في المهرجانات. لكن المنع الذي يتعرض له اليوم يتوافق مع الذهنية الغربية التي تشارك في تمويل أعماله، فالحكومة التي تضطلع بتسيير الشأن العام بالمغرب "حكومة ملتحية تسعى لإرساء دعائم فكر مؤدلج، إقصائي ورجعي مستهدف لحرية الخلق والإبداع".
نجحت الخلطة ونجح عيوش -كما العادة- من تحقيق اختراق جديد. أما من سارعوا إلى منعه دون احترام للضوابط القانونية، فقد وضعوا أنفسهم في موقف حرج، ومنحوه فرصة الانتصار عليهم وعلى ما تبقى لهم من ماء وجه وعذرية سياسية بالضربة القاضية، وبالقانون، لو هو قرر المضي قدما في هذا المسعى. ليبقى السؤال المحير هو: من منح المخرج رخصة التصوير؟
من المعروف أن تحريك أي كاميرا مهنية في المغرب يحتاج إلى الحصول على ترخيص من المركز السينمائي المغربي بعد استيفاء جميع الشروط، بما فيها الاطلاع على سيناريو العمل المقترح.
في حالة "الزين اللي فيك" قدم المخرج الفيلم مرتين للجنة الدعم، ورفضته، بما يبين أن السيناريو كان متوفرا لمصالح الجهة المانحة للرخص. هنا تكمن مسؤولية الدولة ومصالحها، وليس بخطأ المنع يمكن تدارك خطأ الترخيص.
الإساءة للمغرب وللقيم ثابتة في كثير من الأفلام الأجنبية، التي سمحت الدولة المغربية بتصويرها بالبلد، مقابل ملايين الدولارات التي تدرها كمداخيل إنتاجية، تحرك العجلة الاقتصادية لكثير من القطاعات الاقتصادية والجهات الجغرافية بالمملكة، تماما كما الدعارة التي سبق لبرلمانية من حزب الاستقلال أن اعتبرتها في جلسة مساءلة برلمانية لرئيس الوزراء "تساهم في اقتصاد البلاد، ويجب أن تكون لدينا الجرأة للإقرار بذلك".
عدد كبير من تلك الأفلام أساء للمرأة والرجل والطفل المغاربة، بل لنظرائهم في عدد من الدول العربية التي اتخذ المغرب خلفية ديكورية للتصوير بدلها، بل تعدى الأمر إلى الإساءة المباشرة للدين الإسلامي الحنيف ولقيمه ومبادئه ورجالاته.
واليوم حين يشهر المغرب ورقة "الإساءة للمرأة المغربية وللقيم ولصورة البلد"، فهي حركة متأخرة لا تمنح لصانعيها حتى شرف المحاولة في ظل مشاهد متواصلة من الإساءات تتدفق صورها يوما عن يوم، لعل أبرزها ما أسماه وزير الاتصال داخل البرلمان يوما بـ"الماخور المكسيكي" كناية عن المسلسلات الأمريكية اللاتينية التي صارت وجبة يومية في كل قنوات القطب العمومي المغربي، قبل أن يحاول تدارك الموقف حين كاد الأمر يتحول إلى أزمة ديبلوماسية بين البلدين.
الأمريكية اللاتينية جنيفير لوبير عرت المواقف الملتبسة مجددا، وأعلنت بكل ما استطاعت إليه سبيلا، عريا ورقصا وإيحاءات، أن العالم قرية كونية لم يعد فيها للمنع من مكان.
في الأسابيع الأخيرة، منعت تلميذة في فرنسا من ولوج مدرستها؛ لأن تنورتها طويلة أكثر من اللازم، ما يهدد "المبادئ العلمانية" للدولة.
وفي الجزائر، لم يتأخر الرد؛ إذ منعت طالبة من اجتياز امتحان بجامعتها لأن تنورها أقصر من المطلوب بما يهدد القيم والأخلاق.
أما في سوريا بشار الأسد، فقد صدر قرار رقابة البرامج في التلفزيون الرسمي بمنع عرض مسلسل "عناية مشددة" على محطاته، والسبب "عدم توافق العمل مع المعايير المعمول بها لدى الرقابة لإجازة العرض"، وأن "إجازة التصوير لا تعني بالضرورة منح الإذن بالعرض".
بيان تلفزيون النظام السوري الشمولي أكثر "إقناعا" من بيان وزارة الاتصال المغربية؛ حيث لا حرب أهلية ولا صراع على السلطة ولا مجازر أو مواجهات.
لأجل كل هذا، أظهر قرار المنع المغربي كل "القبح الذي فينا" عكس عنوان الفيلم الممنوع "الزين اللي فيك/الجمال الذي فيك"، وهو بذلك ممنوع من الصرف كما الإعراب.