كتاب عربي 21

علاقة الثقافي والاجتماعي بالمخرج السياسي للأزمة الليبية

السنوسي بسيكري
1300x600
1300x600
تذهب معظم التحليلات التي تناولت الشأن الليبي إلى مناقشة الأزمة الراهنة من مدخلها السياسي، وهو مدخل صحيح، لكن الخطأ يكمن في عزله عن المؤثرات المختلفة الداخلية والخارجية.

قلنا في مقالات سابقة إن الأطراف الخارجية الإقليمية والدولية صارت أكثر تأثيرا على مجريات الأحداث اليوم من الأطراف المحلية بمكوناتها وتنوعاتها كافة، لكن ما كان للعامل الخارجي أن يأخذ مداه الكبير في صناعة الأحداث، وتوجيهها كما هو مشاهد اليوم دون استجابة الداخل الليبي للتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، ومن هنا يبرز الارتباط بين العوامل المؤثرة، ومن هنا تظهر خطورة العوامل الداخلية في تعقيد الوضع.

وبالعودة إلى تطورات المشهد السياسي منذ اندلاع الثورة، ومن خلال تقصي أثر العوامل المختلفة في التأثير على المسار السياسي في أطواره كافة، يتضح أن البعد الاجتماعي والثقافي كان لهما أبلغ الأثر في تأزيم الأوضاع، وفي تهيئة الأجواء للاختراقات الإقليمية والدولية.

ويتفق المحللون والمراقبون بل وحتى شريحة واسعة من الفئة الأقل تعليما ووعيا، بأن تدني الوعي الذي من مظاهره الانجرار وراء ما يطرح ويعلن عبر الشاشات، وعلى فضاءات التواصل الاجتماعي دون تحقق أو تثبت، والتعصب والقابلية للنزوع الجهوي والقبلي والاثني والحزبي، شكل أرضية خصبة للصراع السياسي، وساهم في إرباك الوضع إلى الدرجة التي وصل إليها الآن.

بالقطع كان للأخطاء التي وقعت فيها النخبة السياسية التي تولت إدارة الشأن العام منذ فبراير 2011 إسهامها في وقوع ردود فعل سلبية من دوائر ومكونات اجتماعية ومجتمعية مختلفة، ومن أمثلة ذلك ردود الأفعال الرسمية غير المدروسة، التي ظهر حدتها في التعاطي مع مظاهر الغلو على المستوى النخبوي والشعبي، لكن حجم واتجاه ردود الأفعال لم يكن متناسبا مع الأخطاء، بل كخطاب وممارسات النخبة ومن خلفها الرأي العام منطلقة من تفسيرات مبالغ فيها، ومشحونة بكمية كبيرة من العنف والكراهية، وقادت إلى مواقف وممارسات خطيرة لا يمكن تفسيرها إلا بتدني الوعي، الذي نقصد به عدم القدرة على تفسير الأحداث في إطارها والابتعاد عن التفسيرات ذات النزعة الجهوية والقبلية والإثنية وحتى الحزبية، والتعامل معها بالقدر المناسب دون جنوح إلى عنف لفظي أو سلوكي.

لقد أدى تدني الوعي العام والقابلية للغلو في تفسير الأحداث والمواقف، والعنف في التعاطي معها دورا أساسيا في رواج خطاب نخبوي يغرق في المبالغة، ويتعمد قراءة المواقف والأحداث الرسمية وغير الرسمية بشكل متعسف، لأجل صناعة رأي عام ينساق وراء أهداف ومصالح هذه النخبة.

وبمراجعة كافة مظاهر النزوع الجهوي والقبلي والإثني والحزبي الحاد التي كشرت عن وجهها خلال الأعوام الثلاث الماضية، يظهر أن هناك نخبة هي من أبرزها، ودندن حولها إلى أن أصبحت ظواهر بفعل القابلية الثقافية والاجتماعية، وإلى درجة باتت تشكل أبرز عوامل اللاستقرار وأحد أسباب الاستقطاب الراهن، ويمكن أن تكون الأرضية التي على أساسها يتحرك من يرغبون في تأزيم الوضع ودفع البلاد باتجاه الانقسام.

بل إن دعوات ومشاريع سياسية وجهوية وأيديولوجية ما كانت لتلقى رواجا بسبب الشبهات التي تحوم حول عرابيها، أو بسبب ارتباطاتها الخارجية غير البريئة، لولا حالة الاستقطاب والتفكك التي تغذت على قلة الوعي والقابلية للتعصب والاستعداد للوقوع في آفات الكراهية والعنف في التعامل.

وإذا سلمنا بهذا المسلك في تفسير بعض من مظاهر الأزمة الراهنة، فإن المعالجة لا ينبغي أن تقتصر على الحل السياسي، بل يجب أن توازنه بمقاربات تعيد بعض التوازن للعقل الليبي من خلال عقلنة الخطاب، والابتعاد عن الاستعداء والتفسيرات المغرقة في الغلو إلى أن يسمح الاستقرار بالشروع في المعالجات ذات المدى الأطول، التي ترتكز على وسائل تتعامل مع أصل الداء وتركز على جذور المشكلة. 
التعليقات (0)