كتاب عربي 21

نقطة ضوء.. تلوح من بعيد

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
في ما يروى ماركيز عن المحرر بوليفار في روايته الجنرال في متاهته، أنه حوصر ذات ليلة في مستنقع مع بقية باقية من جنوده القلائل. ولكنه في حضيض الاندحار العسكري تنبأ واقفا على حصانه في قلب المستنقع بكل معاركه القادمة مع المستعمر الإسباني حتى تحرير أمريكا اللاتينية كلها. وقد كان له ما رأى. كانت لحظة وجد صوفية منقطعة عن العقل العقال عقل الحسابات السياسية الضيقة والنخبوية التي تدور في المكاتب المغلقة وبأوامر من السفارات العتيدة. ولدي الإحساس الغامر بأن التونسيين في لحظة انكسار ثورتهم ينتظرون محررا بقلب كبير وبعقل لا يخنع للكواليس. فهل يكون المرزوقي وهو يعد لمؤتمر حراك شعب المواطنين هو المحرر المنتظر ؟

المرزوقي رجل غير نمطي. 

عندما كانت المعارضة التونسية زمن الدكتاتورية تخفض سقوفها النضالية لتحتفظ فقط بحقها في الأكسجين كان المرزوقي  يصرخ بأن النظام لا يَصْلُحْ ولا يُصْلُحْ. و كان يطرح خطط التمرد الشعبي في أماكن متعددة في وقت واحد. كطريقة ناجعة لإسقاط النظام. وكان العقلاء جدا ينعتونه بالجنون والمزايدة الثورجية. في المحصلة لم تكن الثورة التونسية إلا تنفيذا لخطته في الانفجار الفجئي الجماعي وإن لم يكن هو القائد الميداني للتحركات لكنه روحه المنفلتة كانت حاضرة. وفي حسابات السياسة والإدارة خفض الرجل بدوره السقف وقبل بالانتقال الديمقراطي عبر الحفاظ على المؤسسات. لكنه في مركز الرئيس قدم صورة الرئيس الزعيم الشعبي القريب من الناس وفتح باب القصر للتواصل اليومي مع الناس. منعه القانون المؤقت لإدارة البلد من الانطلاق كزعيم مختلف فقبل الشراكة لكن صورة السياسة والسياسي بعده تغيرت إلى غير رجعة.

واليوم تزداد صورة السياسي الشعبي صفاء بعد أن استعاد سلفه المنتخب بأصوات الموتى والمال الفاسد كل شكليات الرئيس الذي يعزل نفسه تكبرا عن الشارع وعن مطامحه. فبالفحم تلمع الجواهر.

 ما يجري الآن في إدارة البلد جعل الكثيرين بمن فيهم صحافيين ناصبوا المرزوقي العداء وسخروا من شكله ومن طريقته في الكلام يتندمون (حقا أو باطلا) على نموذج المرزوقي الخطيب المقنع في المنابر الدولية والسياسي المنحاز إلى هموم الناس والساعي في خدمتهم. لكن هل يكفي ذلك لإعادة بناء زعامته وتأهيله لقيادة البلد ثانية؟.

إطلاق الحراك  في لحظة عز مقهور.

 ليلة إعلان نتائج الانتخابات والإقرار بالنتيجة رغم دلائل التزييف الفاضحة ترجل المرزوقي بشجاعة الحريص على البلد وعلى وحدته وكان القهر جليا في عيون أنصاره ولكنه أطلق مبادرة سياسية جديدة تذكر بوقفة المحرر في المستنقع. كان هناك شعور مرٌّ بالهزيمة ولكن سيطر شعور غامر بالأمل خلقته الحملة العفوية لانتخابه فقد خاض حملة غير نمطية وجاءه الناس كتلا متراصة بلاش فلوس. التطوع والإقدام كان ميزة حملته وقد ذهب فيها إلى كل مكان وخاطب الناس بلغتهم وكانت لحظة جددت علاقته بالناس ورؤيته للسياسة التي تنجز بينهم لا فوقهم من وراء حجاب.

منذ تلك الليلة ظلت الفكرة تتفاعل وتتخذ شكلا لم يتبلور بعد ولكنه قبل أن يخرج للعلن بدأت المكائد والتعطيل. لقد تبين للكثيرين أن الرجل ليس فردا معزولا ولا حالما غير واقعي. وقال كثيرون يوجد أمل  توجد بارقة يمكن الاهتداء بها. فالأمل هواء للتنفس والناس بعد أربعة أشهر من حكم حزب النداء وصل الناس إلى يقين يائس أن هذا الحزب ومهما وسع قاعدة تحالفاته ليس إلا استعادة فجة لحزب التجمع في الأشخاص وفي أسلوب الحكم وفي غياب المشاريع المتوافقة مع مطالب الثورة الاجتماعية التي انتهت إليه بانتخابات خططت لها السفارات وصوَّت فيها الموتى.

يعقد المرزوقي يوم 25 أفريل 2015 مؤتمرا تحضيريا لمشروعه الذي يريده أكثر من حزب آخر أو حانوت سياسي صغير يمجد زعامته الشخصية أو يعده لتبوء منصب إداري يغنم منه مكانة ودخلا وبعض الظهور الإعلامي. يقدم المرزوقي مشروعا مختلفا. يتبلور عبر مسارات قانونية لبناء مشروع من ثلاث محاور:

أولها ثقافي ينطلق من قراءة في بؤس المشهد الثقافي القائم ونخبويته وانعزاله لذلك يقترح مشروعا روسويا شعبيا واسعا يجدد الثقافة ويحررها من التبعية للنماذج المفروضة باسم حداثة مزيفة وباسم أصولية منغلقة. مشروع ثقافي يخرج النقاش والعمل الثقافي من التضاد المزيف بين الأصالة والحداثة.

 ويخرج فيه الخلق والإبداع الفردي والجماعي من دائرة رد الفعل إلى الفعل والخلق والابتكار. 

وثانيها مدني جمعياتي مستقل عن السياسي اليومي ومنغرس بدوره في الحاجة الشعبية إلى التأطير والتحفيز على الفعل المدني بما يحول أحلام الناس ورؤاهم إلى مشاريع تنموية قابلة للتجسيد في الواقع وليس مجرد مطالب ورقية ترفع إلى سلطة معزولة غائبة تركنها في الرفوف ولا تستجيب لها. 
وثالثها سياسي حزبي يعيد شحن السياسة بقيم أخلاقية إيثارية تترفع عن المغنم وتعمل وسط الناس على تجسيد مطالبهم التي لخصها الدستور في مشروع الحكم المحلي الذي يعيد للناس سلطتهم وقرارهم على حياتهم اليومية فلا تخطط لهم في المركز. مشروع يقلب هرم السلطة على رأسه فتصير القاعدة تتحكم في مصيرها دون تفكيك الدولة. وهي عملية لإعادة التوازن بين مواقع القرار عسيرة وشاقة لكنها واعدة بتأسيس حقيقي للديمقراطية على أنقاض تجربة الحكم المركزي النابليوني الكولبرتي التي سارت عليها الدولة التونسية منذ تأسيس الفعل السياسي الحديث. 

مشروع المرزوقي لا يخلو من تلك النفحة الحالمة التي يَسِمُها الواقعيون جدا بغير الواقعية بل بالخيالية المغالية في الأحلام. نعم هي كذلك وأي مشروع تأسيسي غير حالم؟ ينطلق المرزوقي دوما وهذا خطه الفكري من نقد اللحظة التي تستعيد نفسها بكسل دائري مغلق انه يكسر الدائرة ويخرج منها.
 
المشروع السياسي والثقافي والمدني التونسي وصل إلى نهايته وأجهزت عليه الثورة رغم أنها لم تكن ثورة حاسمة بالمعني العسكري. لم يعد مشروعا قادرا على التقدم. لقد فقد القدرة على التخيل وتطوير نفسه من الداخل فهو لا يصلح ولا يصلح إلا بالخروج منه إلى غيره. نقضا وإعادة بناء. وإذا كان هناك من دليل على سلامة رؤيته فهو عودة التجمع الميت في ثوب حزب جديد بأشخاص محروقين سياسيا وأخلاقيا. وعجزه في الأشهر الأربعة الأولى على تقديم أية فكرة جديدة متميزة عما كان قبل الثورة وقابلة للبقاء  بجهد جديد هذا فضلا عن غياب الشباب الذي أنجز الثورة عن هذا الحزب الميت سريريا.

هل ينجح المرزوقي؟

في لحظة التأسيس يظهر الأمل والحلم لكن تتجلى العوائق وما أكثرها. العوائق ليست في الفكرة ذاتها فالأفكار تختبر في الطريق. و تثبت قوتها أو تجدد نفسها بالنقد لكن مشروع المرزوقي مخيف. من نواح كثيرة. أولها أنه يطرح ضرورة أعادة التفكير في النموذج السائد والتفكير عملية مرهقة للأذهان الكسولة.

لأنها تكشف المسافة القادمة التي على الكسول أن يعبرها نحو هدفه لذلك ينحو إلى الإبقاء على الوضع الذي هو عليه نَزْعًا إلى المجهود الأدنى. كل الذين سيرون في مشروع المرزوقي دعوة للتفكير المرهق سينعتونه بالحالم وغير الواقعي كما فعلوا دوما. وفيهم الكثير من أنصاره الذين يتخفون تحت برنس المرزوقي ليدفعوا في اتجاه الحانوت السياسي الصغير ليتموقعوا في انتظار غنيمة ما. إنهم في الحقيقة يبررون عجزهم ولا ينقدون المشروع الذي يتحدى كسلهم الروحي والفكري. هؤلاء هم نخبة البلد الكسولة التي خضعت للدكتاتورية وقبلت بعودتها خوفا على مكاسبها ومواقعها التي حازتها بالكسل لا بالجهد. وهم أنفسهم الذين افرغوا الثورة من مطالبها العميقة وحولوها إلى زيادات في الرواتب والعطايا.لذلك فمشروع المرزوقي يهدد النخبة ويرعبها لأنه يضعها بين خيارين عسيرين: التجدد أو الموت.

وثانيها أن المشروع يغري فئات واسعة من الناس من الشباب والفقراء الذي خسروا دوما أمام مركزية السلطة ومشاريعها المسقطة وبقوا خارج المشاركة في القرار ونتائجه. وهم الذين وقفوا في حملة المرزوقي بلاش فلوس وهناك احتمال كبير وعليه دلائل أنهم لم ينفضوا بعد من حوله وإنما يتريثون في انتظار استكمال الأشكال القانونية للتأسيس الثقافي والمدني والسياسي. هؤلاء هم الذي بدأ البعض يطلق عليهم بعد شعب الحراك. وهم ذخر الثورة الحقيقي. الذي نقدوا المشاريع القائمة ويتشوفون إلى مشروع جديد. وهنا مرة أخرى ترتعب النخب الحزبية خاصة التي ترى في الحراك تسونامي سياسي سيجرف قواعدها والمؤلفة قلوبهم من حولها. ولذلك تتوالي المؤشرات على بوادر احتراب ضد الحراك.

ستعطله في مراحل التأسيس لكن الكيد سيرتد على أصحابه رغم أن الحراك مفتوح عليهم ولهم ويدعوهم إلى التشارك في تأسيس بلد جديد. وسيعترف الكثيرون للمرزوقي بصواب الرؤية لكن بعد فوات الأوان. يوم 25 افريل سيلقي المرزوقي حجرا ثقيلا في مستنقع السياسة الآسن وسيتابع الكثيرون دوائر الفعل المنطلقة من فكرة حالمة متحدية كفكرة المحرر بوليفار.
0
التعليقات (0)