مقالات مختارة

من آل أحمد إلى نتنياهو: المقاومة الشرقية

وسام سعادة
1300x600
1300x600
المفكّر الإيراني جلال آل أحمد (1923 – 1968) حالة. هو الآن قامة ثقافية تعتد بها الجمهورية الإسلامية في إيران وتصدر طوابع البريد لتحيي ذكراه، وقد تجدّدت هذه الذكرى مع الفعاليات التي أعقبت وفاة زوجته الأديبة سيمين دنشور قبل ثلاثة أعوام. هو رمز من رموز المساجلة ضد التغريب الثقافي، والمصطلح الذي ابتكره في كتابه المعدّ لهذا الغرض عام 1962، «غربزدكي»، أو «التسمّم بالغرب»، استعاده معنى ومبنى الإمام الخميني لاحقاً. وبما أنّ آل أحمد كان رائداً في زمانه في العناية والتعريف بأفكار جمال الدين الأفغاني ونشر تراثه، جاز اعتباره حلقة وصل مهمة بين أفكار الجامعتين الإسلامية والآسيوية، وبين مقولات الثورة الإسلامية، كيف لا، وهو الذي نظّر مطوّلاً إلى كون علماء الدين هم الفئة الأقل تضرّراً من «سموم الغرب» في المجتمع. 

ناصب جلال آل أحمد المشاريع التحديثية التغريبية التي كان يقوم بها شاه إيران أشدّ العداء، لكنّه حمّل المسؤولية أساساً للنموذج الذي بناه مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، وحاول لاحقاً آل بهلوي في إيران، ومحمد علي جناح في الباكستان، الاقتباس منه وتعثّروا. دعواته لطلب العلم في الهند واليابان بدلاً من توجيه البعثات للغرب، مساجلاته ضد التصنيع والتمدين، ودفاعاً عن زراعة بلا تراكتور، وعن الحِرف اليدوية وفي طليعتها حياكة السجاد، تستعيد نوعاً ما دعوات موهنداس غاندي في كتابه «هند سواراج»، على ما يلفت نظرنا إليه الكاتب الهندي بانكاج ميشراً في كتابه «من ركام الامبراطورية – التمرّد ضد الغرب وإعادة بناء آسيا». 

احتاج جلال آل الأحمد لنموذج محقّق في زمانه يستند إليه، ويدعو – إن لم يكن لتعميمه – فعلى الأقل للاستلهام منه. وجد ضالته بعد قليل من ذيوع كتابه ضد سموم الغرب، وكان يوزّع وقتذاك في السرّ بين طلاب طهران، فهو جزء من الدعاية المضادة لنظام الشاه الموبوء بالسمّ «التغريبي». 
ففي شباط 1963، سيقبل جلال آل أحمد وزوجته سيمين الدعوة لزيارة دولة إسرائيل والسياحة في ربوعها، لا سيما الشمال. في إسرائيل رأى جلال إيران التي يحلم بها، إيران المستقبل. بل رأى شرقاً يلفظ الامبراطورية الغربية ويتحرّر، يمتدّ من «طوكيو حتى تل أبيب». نشر يومياته الإسرائيلية لاحقاً تحت عنوان «السفر إلى أرض إسرائيل»، أو بالفارسية «بولاية إسرائيل».

بعض من الصفحات يحتوي على الامتداح الأشدّ سذاجة لتجربة القرى التعاونية «الكيبوتزات»، ذلك أن إقامة أسبوعين في مستوطنة «اياليت هاشاهار» ستجعله يرى في العمل اليدوي الزراعي الجماعي فيها، وفي القيم الأخلاقية العملية المعتمدة، تطبيقاً حيّاً لفلسفة أفلاطون. وفي بعد أقل سذاجة، رأى جلال آل أحمد أنّ اسرائيل هي نموذج لبناء التضامن السياسي على أسس تختلف عمّا تقوم عليه الدول في الغرب، ودعا لبناء التضامن السياسي في إيران أيضاً، على أساس ديني، وقال إنه يفضّل «كشرقي» النموذج الإسرائيلي على سواه من النماذج التي تجتهد في كيفية التعاطي مع الغرب، فإسرائيل، بحسبه، «تطوّرت من دون أن تفقد هويتها»، تطورت ضد «الغربزدكية».

لاحقاً، سينسب نصّ إلى جلال آل أحمد، مكتوب بعد هزيمة 1976، ويتّهم إسرائيل بخيانة قضية الشرق ضد الغرب، لكنّه، إذّاك سيحمّل مسؤولية الهزيمة، وانحراف إسرائيل، للأنظمة الرجعية العربية. ثمة جدل حول أصالة هذا النص لجلال، فهناك في إيران من يرى أنه من تدبيج أخيه شمس، في ظروف انتصار الخمينية. إلا أن صامويل تروب، مترجم رحلة جلال آل أحمد، في كتاب صدر العام الفائت بالإنكليزية تحت عنوان «الجمهورية الإسرائيلية»، يرى أنّ هذا النص الذي تحوّل إلى الفصل المزيد على الرحلة هو بالفعل لجلال، إنما كجواب على رسالة وجّهت إليه بعد حرب 1967. 
في الترجمة الإنكليزية، يبدو صامويل تروب كمن يبشّر برحلة جلال آل أحمد إلى إسرائيل في الستينيات كأفق لوعي شرق – أوسطي جديد، إن يكن في إسرائيل أو في إيران. لكن هذه السفرة تبقى طرفة في تاريخ المقاربات والمقولات التي عجّت بها المنطقة.

من بمستطاعه اليوم أن يصدّق أن كاتباً إيرانياً مرموقاً وزوجته الأديبة الرصينة حجّا إلى إسرائيل، ليس من قبيل حب الاستكشاف أو العلاقات العامة، إنما باعتبارها حصناً في مواجهة الامبريالية الغربية؟ 
لكن هذا ما حدث بالفعل على ما تتقاطع معظم المراجع على تبيانه. جلال آل أحمد زار إسرائيل بوصفها الحصن الحصين في مواجهة الامبريالية الغربية، وبوصفها الغد الشرقي المشرق لإيران حين تنزع عنها سموم الغرب. 

بعد سنوات قليلة على وفاة جلال آل أحمد، كانت إيران تتبنى رسمياً أفكاره المعادية لـ«الغربزدكية»، إنما هذه المرة من بوابة اعتبارها إسرائيل أسوأ ما أتانا من هذا الغرب، وليست نموذجاً مقاوماً له.
لكن إسرائيل نفسها، أخذت تطوّر داخلها أشكالاً أخرى من النقمة على «الغربزدكية»، ليست تشبه أبداً تلك الكيبوتزية الصهيونية الاشتراكية التي شغف بها جلال وسيمين، بل على العكس، على قاعدة نيوليبرالية اقتصادية جامحة. في الانتخابات الأخيرة، خاض بنيامين نتنياهو معركته ضد اثنين هو أيضاً: الامبراطورية الغربية والفلسطينيين. المعسكر الذي ائتلف ضده وفشل، قدّم نفسه على أنه يحمل آثار الرومانسية الاجتماعية الصهيونية القديمة (التي شغف بزيارتها جلال آل أحمد)، وأنّه منسجم مع الامبراطورية الغربية وقيمها وسياساتها أكثر. انتصر بنيامين نتنياهو، على طريقته، على «الغربزدكية»، وعلى رأس القضايا العالقة بينه وبين أمريكا والغرب مسألة إيران ومشروعها النووي، «الغربزدكي» هو أيضاً.



(نقلاً عن صحيفة القدس العربي)
التعليقات (0)