كتاب عربي 21

الجهادية التونسية بعد غزوة "متحف باردو"

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
لم يكن الهجوم الذي تبناه تنظيم "الدولة الإسلامية" في العاصمة تونس بتاريخ 18 آذار/ مارس 2015 باستهداف متحف باردو حدثا "عاديا"، لا من حيث الجهة المنفذة وهوية المنفذين وآلية التنفيذ، ولا من حيث طبيعة المكان المستهدف وتوقيته، فضلا عن هوية ضحاياه وجنسياتهم، فقد أسفرت العملية عن مقتل 23 شخصا بينهم 20 سائحا، وإصابة أكثر من 50 جريحا.

في الوقت الذي كانت الأجهزة الأمنية التونسية تبحث عن طبيعة العملية وهوية المنفذين وأعدادهم والجهة المسؤولة عن الهجوم، كانت إذاعة "البيان" الناطقة باسم تنظيم الدولة الإسلامية من مقرها في مدينة الموصل تقدم بيانا لا لبس فيه عن الهجوم، وقد جاء في بيانها: أن مقاتلان يتبعان للدولة الإسلامية وهما "أبو زكريا التونسي" و"أبو أنس التونسي" انغمسا في المتحف الذي يقع في المربع الأمني للبرلمان التونسي وهما يحملان أسلحة رشاشة وقنابل يدوية وتمكنا من قتل وجرح العشرات من "رعايا الدول الصليبية"، ووصفت الهجوم بـ"الغزوة المباركة"، وأكدت على "أن ما رأيتموه اليوم أول الغيث باذن الله.. ولن تهنأوا بأمن أو تنعموا بسلام وفي الدولة الإسلامية رجال كهؤلاء لا ينامون على ضيم".

أما موقع "إفريقية للإعلام"، الذي بايع تنظيم الدولة الإسلامية، وكان قبل ذلك يتبع كتيبة "عفبة بن نافع" الفرع التونسي للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فقد نشر تفاصيل العملية عقب الهجوم  تحت عنوان مثير "يوم عادي"، حيث قدم رواية تفصيلية لسيناريو العملية التي وصفها باعتبارها "عمليّة بسيطة، قام بها موحّدان مسلمان مؤمنان ضعيفان، قدّما نفسيهما قربانا في سبيل الله، بتمويل خاصّ"، وأشار البيان إلى أن عملية باردو تبين "هشاشة وجبن بوليس وعسكر الكفر وفشلهم الأمني الحادّ"، و"سهولة إختراق أكثر مكان محصّن ومؤمّن في كلّ تونس مقر المجلس الكفريّ المحاط بثلاث ثكنات عسكريّة ومقرّ المخابرات العسكريّة، في قلب العاصمة تونس، والمحروس بمختلف الفرق والتجهيزات" و"بعد عمليّة رصد بسيطة لم تتجاوز عشر دقائق" للمكان و"خاصة سهولة إيصال السّلاح وإدخاله إلى العاصمة مع ذخيرته"، وأكد البيان على أن مثل هذه العمل "لا يحتاج تخطيطا كبيرا ولا مساعدات من داخل العدوّ ولا تمويلا"، فقط "مجرد 2 كلاش وأربع رمّانات يدويّة وبعض الرصاصات" وهو امر "لا يتجاوز ثمن المجموع 4 ألاف دينار فقط".

على الرغم من إعلان السلطات التونسية الرسمية أنها تمكنت من منع وقوع مزيد من الضحايا، إلا أن الوقائع تشير إلى أن سبب عدم سقوط المزيد من الضحايا هو نفاذ ذخيرة المهاجمين وهما: ياسين العبيدي وحاتم خشناوي والأول معروف لدى أجهزة الأمن، فقد انتظرت الأجهزة الأمنية ساعات طويلة قبل أن تتدخل، الأمر الذي سوف يستدعي طرح أسئلة جادة حول كفاءة المنظومة الأمنية وماهية قدراتها في مواجهة تجديات أمنية حقيقية في حال تنفيذ هجمات منسقة.

أحد أهم الاستنتاجات التي تثيرها عملية متحف باردو، تقع في إطار فهم تحولات الجهادية التونسية، والتي تشهد انقسامات حادة في مسارها التاريخي، فقد كشفت العملية عن بروز تيار مؤيد لنهج تنظيم الدولة الإسلامية كان لا يزال يقتصر تأييده على المنصات الجهادية الإعلامية في فضاءات الإنترنت، كما حدث مع موقع "إفريقية للإعلام"، الذي كان يتبع "كتيبة عقبة بن نافع" المرتبطة بالقاعدة، وقد أعلن بيعته لأبي بكر البغدادي في 21 تشرين ثاني/ نوفمبر 2014، وكذلك موقع "شباب التوحيد للإعلام" الذي ظهر في 4 آذار/ مارس 2014، وهو موقع كان يتبع جماعة "أنصار الشريعة"، وعلى الرغم من ذلك لم يتشكل أي كيان باسم "ولاية القيروان"، وهي دلالة على عدم اكتمال البنية الأساسية اللازمة لظهور فرع للدولة الإسلامية في تونس رغم وجود أكثر من (2400) جهادي تونسي يقاتلون إلى جانب التنظيم في العراق وسوريا، فضلا عن وجود عدد من الجهاديين في الولايات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا.

لعل أهم الأسباب في تأخر ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في تونس هو خصوصية التجربة الجهادية التونسية، فقد غلب على جهاديي تونس تاريخيا المشاركة في ساحات وجبهات القتال في إطار "الجهاد التضامني"، الذي يرتكز على مفهوم "جهاد الدفع"  كواجب كفائي في حال تعرض بلد إسلامي للغزو والاحتلال، إذ تعود تشكل الجهادية التونسية إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، مع الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية التونسية" على يد عدد من الشباب، والتي قامت بعدد محدود من العمليات البدائية البسيطة، وسرعات ما تفككت، حيث التحق بعض أفرادها بصفوف "المجاهدين" في أفغانستان إبان الغزو السوفياتي، ومع انسحاب السوفييت من أفغانستان، وبروز حركة طالبان عام 1994، عمل جهاديي تونس في أفغانستان على تأسيس "معسكر التوانسة"،  وكان من مؤسّسيه سيف الله بن حسين المكنى بـ"ابو عياض التونسي"، وقد انضم عدد من التوانسة إلى تنظيم القاعدة بزعامة بن لادن، حيث نفذ جهاديين من التوانسة عملية اغتيال قائد التحالف الشمالي أحمد شاه مسعود قبل هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 بيومين،  ثم قامت مجموعة مرتبطة بالقاعدة بتنفيذ هجومفي 11 نيسان/ إبريل 2002، الذي لحق بكنيس الغريبة (معبد يهودي) في جزيرة جربة (بمحافظة مدنين جنوبي البلاد)، وقتل فيه 14 شخصا، منهم 6 سياح ألمان و6 تونسيين وفرنسي واحد، كما أصيب فيه أكثر من 30 شخصا.

مسارات الجهاد التضامني التونسي كانت لافتة في كافة الصراعات فالمشاركة التونسية كانت حاضرة في جبهات عديدة خلال التسعينيات من القرن الماضي في طاجيكستان والشيشان والبوسنة، والجزائر، ومع الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 شارك جهاديي تونس في القتال إلى جانب فصائل المقاومة العراقية وخصوصا تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بزعامة أبو مصعب الزرقاوي، ومع عودة مجموعة من الجهاديين إلى تونس ظهرت مجموعة جهادية مسلحة عام 2006 أطلقت على نفسها "جند أسد بن الفرات" تهدف إلى إقامة الدّولة الإسلاميّة وتطبيق الشّريعة، وقد نفذت المجموعة عملية "سليمان" نهاية 2006، حيث شهدت هذه المنطقة مواجهات عنيفة بين المجموعة وقوات الأمن والجيش انتهت بمقتل 12 عنصرا من المجموعة، وعنصر أمني وعنصر عسكري، واعتقال العشرات.

عقب نجاح الثورة التونسية 2011 والإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، تم الإفراج عن مجموعة من الجهاديين بعفو من الحكومة الانتقالية التونسية في آذار/ مارس 2011، وكان من بينهم سيف الله بن حسين المكنى أبو عياض التونسي، وهو ممن شارك في تأسيس "الجماعة التونسية المقاتلة في أفغانستان"،  حيث ظهرت جماعة "أنصار الشريعة" في تونس، ويُعتبر مؤتمر مدينة القيروان، يوم 11 أيار/ مايو 2011، والذي ضمّ عددًا أعضاء وأنصار من التيار الجهادي التونسي يقدَّر بحوالي 15 ألف شخص، محطة مهمة في تأسيس "أنصار الشريعة"، وعلى الرغم من تأكيد أبو عياض على أن تونس "ليست أرضاً للجهاد بل أرضاً للدعوة،  وأن الجماعة لا تحمل السلاح، وأن الإعلام قد عمد إلى تشويه آراء الحركة، إلا أن الجماعة شاركت في عدد من الأعمال العنيفة في إطار سياساتها المتعلقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي أيلول/ سبتمبر 2012 هاجمت عناصر من الجماعة وبعض المنتمين للتيار الإسلامي السفارة الأمريكية رداً على الفيديو المعادي للإسلام تحت عنوان "براءة المسلمين"؛ وقد قُتل العديد من المواطنين التونسيين وأُصيب العديد من الآخرين جراء أعمال العنف.

في 27 آب/ أغسطس 2013 أعلنت السلطات التونسية تصنيف جماعة "أنصار الشريعة"، "تنظيما إرهابيا"، كما صنفتها الولايات المتحدة كحركة إرهابية في كانون ثاني/ يناير 2014، وبحسب السلطات الرسمية فإن عددا من أعضاء جماعة  "أنصار الشريعة" ضالعة في التمرد المسلح القائم في "جبل شعانبي" على الحدود مع الجزائر، وهي تحمّل الجماعة مسؤولية اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير 2013، والبرلماني محمد البراهمي في 25 تموز/ يوليو 201.

إذا كانت جماعة أنصار الشريعة لم نعلن انتمائها رسميا لا إلى تنظيم القاعدة ولا الدولة الإسلامية، فإن كتيبة "عقبة بن نافع" تعلن تبعيتها لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وقد ظهرت المجموعة إعلاميا  لأول مرة في كانون أول/ ديسمبر 2012، وبحسب وزارة الداخلية التونسية يعتبر الجزائري خالد الشايب المكني بـ"لقمان أبو صخر" المسؤول الأول عن الجماعة، أما مراد الغرسلي، فهو أبرز قيادي تونسي في قيادة الكتيبة، وقد نفذت المجموعة المتحصتة في منطقة الشعانبي مجموعة من العمليات أسفرت عن مقتل أكثر من (95) من عناصر الجيش والشرطة. 

يبدو أن الجهادية التونسية قد دخلت في مسارات مراجعة نهجها التاريخي المتعلق بالجهاد التضامني، وهي مترددة بين الجهاد النكائي الذي يتبعه تنظيم القاعدة، والجهاد التمكني الذي يقوده تنظيم الدولة الإسلامية، فالعمليات التي تقودها كتيبة عقبة بن نافع تستند إلى تصورات تنظيم القاعدة الخاصة بحرب الأنصار وكسب الحواضن الإجتماعية وإقتصار عملياتها على قوى الجبش والأمن، أما خلايا تنظيم الدولة الإسلامية فهي تستند إلى منطق الحروب الجديدة والسيطرة المكانية واستهداف كل الأفراد والمؤسسات التي تتبع الدولة والنظام، ففي كانون أول/ ديسمبر 2014، أعلن أبوبكر الحكيم وهو فرنسي من أصل يقاتل في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، من خلال شريط مصور مسؤولية التنظيم عن مقتل شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهدد بمزيد من العمليات، إذ يقول:"باذن الله سوف نعود ونغتال الكثير منكم.. والله لن تعيشوا مطمئنين ما دامت تونس لا يحكمها الاسلام"، وبهذا فإن حقبة الجهاد التضامني التونسي توشك على الزوال ليحل مكانها جهاد النكاية والتمكين.
التعليقات (0)