قضايا وآراء

داعش.. أو "فرانكنشتاين" العمل الجهادي

عبد الحميد أبوزرة
1300x600
1300x600
في الرواية الشهيرة يقوم طالب طب مهووس وذكي بجامعة ركسبورك اسمه فيكتور فرانكنشتاين بإجراء تجربة على جزء من النسيج البشري فيكتشف أنه قادر على إحيائه، فيبدأ فيكتور بجمع أطراف وقطع طرية من جثث بشرية حديثة الدفن ثم يخيطها بشكل غير متناسق، التجربة تنجح في إحياء هذا المسخ لكنه يفاجأ بأن مخلوقه الجديد غاية في القبح والضخامة والعنف ومتعطش للقتل. يهرب مسخ فرانكنشتاين ويعيث فسادا وقتلا في سكان البلدة.. تنتهي الرواية الشهيرة بموت فيكتور في القطب الشمالي محاولا قتل مسخه الذي سينتحر ملقيا بنفسه في النيران.

الشاهد من الرواية هو إظهار قدرة الإنسان على خلق الظواهر العنفية المشوهة فكرا وفعلا والويلات التي تسببها من حروب وقتل وأحقاد.

لا يخفى على الناظر حجم العنف الموجود في المنطقة العربية الإسلامية والذي تنوعت أسبابه ودوافعه من عنف وإرهاب تمارسه أنظمة على شعوبها أو على فئات من شعوبها، أو العنف الممارس من الاحتلال الأجنبي على شعوب المنطقة، أو العنف الممارس من طوائف تجاه أقليات أو العكس. وما زاد جرعات العنف هو فشل بعض ثورات الربيع العربي وظهور حالة ردة عن هذا الربيع.

ظاهرة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام أو ما يصطلح عليه إما اختصارا أو قدحا اسم "داعش"، وما طرحته بعد توسعها وتضخمها المفاجئ لجميع المراقبين والمختصين في زمن قليل (سيطرتها في أقل من سنة على 20%من سوريا و40% من العراق)، شكل علامات استفهام وتعجب للخبراء قبل الناس العاديين.

سنحاول في هذا المقال أن نجيب عن بعض الأسئلة:

كيف ظهرت داعش وما سر قوتها وتوسعها؟ من أين تستمد داعش تمويلها المادي والبشري حتى استطاعت السيطرة على مساحات كبيرة تضاهي دولا وتعبر حدودا؟ وما مصدر وغاية كل هذا العنف والقتل المصور والمعولم؟ ما مستقبل داعش التنظيم والدولة، وداعش الفكرة والمشروع؟

الأب غير الشرعي لداعش هو تنظيم القاعدة بقيادته التاريخية لأسامة بن لادن وأيمن الظواهري الذي تكون وهو يحمل في ذاته أسباب انهياره. فبعد هجمات 11 سبتمبر وقصف الولايات المتحدة لمعسكرات تدريبه في أفغانستان وقتل أو أسر أغلب قياداته وأعضائه، أصبح هذا التنظيم مجرد فكرة أو عنوان تلبسه الخلايا الجهادية في كل دول العالم. لكن الحدث الذي سيغير مجرى الأمور وسيبعث الروح في هذا التنظيم هو الغزو الأمريكي للعراق، الذي سيشكل قبلة الحياة للفكر الجهادي والفرصة الذهبية التي سيغتنمها المؤسس الثاني أبو مصعب الزرقاوي ليبايع تنظيم القاعدة – المُدمَر مسبقا - باحثا له عن غطاء أيدولوجي أو ماركة مسجلة ليمارس ويستقطب باسمها جهاديي العالم.

سرعان ما ستظهر السمات الأولى للتنظيم الجديد والتي ستصدم العالم:

-  الطابع الصلب والحدة الفكرية والأيدولوجية للتنظيم.

-  تغليب الطائفية والقطع التام مع كل المخالفين ولو كانوا يمارسون نفس العمل الجهادي.

-  الانقلاب على المرجعيات الجهادية ورد تعليماتها.

-  احتراف تصوير القتل والإعدامات بأبشع الطرق أمام كاميرات عالية الدقة والإخراج الفني.

-  البرغماتية والانتهازية في انتقاء الأعداء والمهادنين.

ترجع هذه الحدة والغلظة الشديدة مع المخالفين من الطائفة الشيعية أو كما تسميهم داعش (الروافض طائفة شرك وردة) ومع الصحوات وقوات البشمركة التي تسميهم بـ (المرتدين) وباقي الجهاديين والجيش الحر (البغاة)، إلى فتاوى وكتابات منظريها وأهمهم: أبو بكر ناجي وأبو عبد الله المهاجر فقد تأثر التنظيم بكتاب "مسائل في فقه الجهاد "حيث كفر فيه "المهاجر" الأنظمة التي تحكم بالقانون الوضعي وكفر معها الشعوب الراضية بهذا الحكم، ودعا إلى الغلظة وقطع رؤوس الكفار والمحاربين لما سيؤثر في أنفس المشاهدين ويبث الخوف فيهم حسب اعتقاده، ودعا فيه أيضا إلى احياء سنن النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحرب مثل السبي أي أسر الأطفال والنساء وبيعهم أو توزيعهم على أفراد التنظيم وإحياء سنة حد الحرابة في من يحملون السلاح ضد الدولة الاسلامية وساكنيها لأغراض إجرامية بقطع أطرافهم عن خلاف ثم صلبهم في الأماكن العامة.

كما رأينا فإن داعش مرحلة جديدة في الفكر الجهادي المعاصر خرجت من أدبيات وأساليب الجهاد الأفغاني وتنظيم القاعدة ثم تجاوزته مخالَفة وتطويرا مستفيدة من الظرفية السياسية للوطن العربي ما بعد الثورات وللاحتقان الطائفي في منطقة العراق والشام حيث تمددت وتضاعفت ولكن في "المساحات الفارغة" عسكريا وسياسيا فهذه المناطق لم تكن تعرف حركات إسلامية إصلاحية تعطي البديل السياسي والديني وسوريا بشار الأسد أصدق الأمثلة فقد حارب نظامها ولعقود طويلة كافة أشكال الحركات الاسلامية وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين والجماعات التي تشبهها وحارب النظام الأسدي حتى "السلفية العلمية أو الإصلاحية " فكان الفراغ هو أفضل بيئة لانتشار فكر داعش وتمدده.

مثل المسخ فرانكنشتاين الذي أطرافه وأجزاؤه مُلصقة وغير متناسبة، فكذلك داعش فعقلها مركب من طبقات مختلفة للفكر الجهادي: أفكار سيد قطب في الحاكمية والجاهلية، وأدبيات عبد الله عزام في أممية الجهاد وتطبيقاته على الواقع وساحات الجهاد، ثم طبقة أسامة ابن لادن وأيمن الظواهري لتضاف إليها أدبيات فقهاء "داعش" أبو بكر ناجي وأبو عبد الله المهاجر.

ومثل فرانكنشتاين الضخم الجسد والكبير العضلات لكنه يتحرك بعرج واضح وترنح، فإن داعش جمعت عضلات قوتها العسكرية من مصادر متباينة سياسيا وفكريا:

 جنود من مجاهدين قادمين من أكثر من 80 دولة وأغلبهم في العشرينيات من العمر ليس لهم أي تجربة عسكرية أو تكوين شرعي، وتحالفت مع أبناء العشائر السنية العراقية الساخطة على الإهمال والتهميش من حكومة بغداد الشيعية وسياساتها الطائفية.

واستقطبت ضباط وخبراء عسكريين من الجيش العراقي وظفوا خبراتهم في التخطيط والقيادة، وحتى في تطوير الأسلحة لصالح هذا التنظيم.

مثل أي تنظيم "داعش" يسير بدماء تجري في عروقه وتضخ من قلبه نحو باقي عضلاته، دماء داعش مثل دماء المسخ فارنكنشتاين أتت من مصادر متعددة هنا هي الدعم المالي التي تتيح له تجهيز غزواته وإعداد أسلحته التي فاقت البنادق الرشاشة السوفياتية الصنع للجيش العراقي بل وصلت إلى الأسلحة الثقيلة من دبابات ومدرعات وصواريخ مضادة للطائرات وصواريخ سكود، وحتى إعطاء أجور مالية لجنود التنظيم وتعويضات لأسر من "استشهد" منهم.

يقف وراء هذا التدفق المالي المحكم جهاز إداري متطور، فبعد تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق والشام" سنة 2006 تم الاعلان عن وزارته المالية الأولى أو بيت مال التنظيم الذي يتم ملؤه من مصادر أهمها:

-  تبرعات وهبات أثرياء الخليج وأموال الزكاة والصدقات.

-  أموال البنوك والمؤسسات المالية التي استولى عليها التنظيم خلال اجتياحه للمدن.

-  أموال الفديات التي تسلمها مقابل إطلاق الرهائن الغربيين.

-  عائدات النفط الذي يتولى التنظيم بيعه بمساعدة مافيات التهريب.

أهم ما يميز تمويل هذا التنظيم هو تعدد مصادره المالية وتعقيد وتطور جهازه الإداري التي أتاح له مراكمة أموال ضخمة تفوق ميزانيات بعض الدول (يقدر بعض المتخصصين أن ميزانية داعش تقدر بـ 200 مليون دولار!!).

ينتهي مسخ فرانكنشتاين منتحرا في القطب الشمالي بعدما أذاق الناس ويلات القتل والتدمير، أما داعش فلن يكون مستقبلها أو نهايتها انتحارا عسكريا في الأجل القريب على الأقل، فكل العوامل السياسية في المنطقة ما زالت تؤشر على استمرار العنف الطائفي والعنف السياسي بين الأنظمة الحاكمة والشعوب أو الجماعات المعارضة، وهذا العنف هو السبب الذي تعتاش به داعش وتستمد به أسباب بقائها، بالاضافة إلى إرادة الدول المؤثرة في المنطقة على استعمال داعش في تصدير أزماتها السياسية واستعمالها كرحى حرب بالوكالة.
التعليقات (0)