كتاب عربي 21

هل يكون اليسار التونسي بيضة القبان في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
يتساءل الكثير من المحليين عن دور اليسار التونسي المحتمل في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية، ويرجحون أن يكون هو الكفيل بتعديل المسار الثوري، الذي يأملون أن ينتهي بانتخاب رئيس من خارج منظومة النظام القديم؟ 

ولكن هذا السؤال يتجاهل أو يخفى جهلاً بطبيعة هذه الكتلة السياسية ودورها وتاريخها الطويل في الوقت نفسه، الذي يبالغ في حجمها وعديدها وتماسكها؛ لذلك نعتقد أنه من الضروري النظر في طبيعة هذه الكتلة الاجتماعية وتحليل مساراتها، لنتبيَّن الدور الذي ارتضته لنفسها منذ زمن طويل.والذي نعتقد أنها ستواصله في الأيام والشهور القادمة ما لم تتجدد القيادة والأطروحات.

اليسار التونسي ليس كتلة واحدة برأس واحدة

اليسار فرق مختلفة، ولها رؤوس متعددة، وتاريخ مختلف، وأهمها:

أولاً، اليسار الفرنسي، وهم كتلة حزب المسار المتحولة من حركة التجديد المتحولة من الحزب الشيوعي التونسي، الذي عاد للظهور منذ سنة 1981، في إطار تسويات سياسية، عند بدء حملة استئصال الإسلاميين، وهؤلاء يتزعمون خطاب الحداثة، ويدافعون عن نموذج اللائكية الفرنسية، باعتباره النموذج الوحيد لللائكية.

وقد كان موقفهم دوماً مساندة السلطة والعمل معها والرضا بالقليل من أعطياتها، وهدفهم الأول استئصال الإسلاميين وتجفيف منابعهم وقد أثثوا معارضة بن علي الكرتونية، ومكنوه من وجه ديمقراطي مزيف، ومكنهم من مفاصل الفعل الثقافي والتربوي في أجهزة الدولة لتأسيس حداثة معطوبة، تقوم على أساس تغريبي غير وطني ومعاد للعروبة. ورغم بعض التمويه الاجتماعي في الخطاب، إلا أنهم أسهموا مع بن علي في تفكيك الدولة الاجتماعية الموروثة من الستينيات.

إنهم يسار الكفيار بامتياز (ويسميهم البعض بحزب فرنس) وليس لديهم أي امتداد شعبي، بل هم نخبة حضرية  تفتخر دوماً بشهاداته الفرنسية، وقد ثبت انقطاعهم عن الشعب  من خلال خسارتهم الماحقة في انتخابات 2014 التشريعية؛ حيث لم يفوزوا بأي مقعد نيابي فتجلى موقعهم النخبوي الذي سينتظر أعطيات السلطة القادمة، كديدنهم دوماً زمن الديكتاتورية خاصة وأنهم يشكلون الوجه الظاهر لحزب النداء. 

اليسار الاحتجاجي والنقابي 

وهم مكونات الجبهة الشعبية التي تشكلت بعد الثورة من أكثر من 15 حزب ومستقلين من خارج أحزاب اليسار. هم في غالبهم من رجال التعليم ومن الموظفين والمهن الحرة و(المحاماة والطب)، وليس بينهم فئات عمالية مؤطرة رغم أن عامود الجبهة الشعبية هو حزب العمال.

يدربون عادة في الثانويات ثم في الجامعة وينتشرون في الوظيفية العمومية، وهم ورثة اليسار الاحتجاجي للسبعينيات، الذي استبدل المجابهة بمبدأ وتقنيات التسرب داخل المؤسسات، وهو الأمر الذي يشتركون فيه مع يسار الحداثة.

وتبلغ كتلتهم الانتخابية الصماء أكثر من 120 ألف ناخب، وقد راهنوا وبشكل متأخر على تقديم حمة الهمامي رئيساً، لكنهم رغم دعم مالي مشبوه  ظهر في الأيام الأخيرة  من الحملة الدعائية، إلا إنهم لم يصلوا إلى مضاعفة كتلتهم الانتخابية. وهم الآن في موقع الحائر الخائر القوى. بين الانحياز إلى النظام القديم ممثلاً في حزب النداء ومرشحه الباجي السبسي، أو الوقوف على الحياد في مرحلة مفصلية لا مجال فيها للحياد.

يوجد خارج هذين الفصيلين غير المحتربين الآن، بعض وجوه اليسار المستقلة عن كل تنظم وانتماء لكنهم شتات، لا يمكن تتبع مواقفهم وإن كان غالبهم أقرب إلى اليسار المثالي المتهم بالفوضوية، يقدمون توصيفاً دقيقاً للمرحلة،  ولكنهم لا يتجرؤون على الانحياز للحد الأدنى الديمقراطي. الروح التروتسكية المهيمنة على كثيرهم تجعل نضالهم عدمياً حتى الآن. 

وفي العموم فإن فضائل اليسار المختلفة لا تشكل كتلة انتخابية صماء وذات وزن معدل في المراحل الحرجة، وإن كان تمكنهم من النقابات يعطيهم قدرة كبيرة على التحريض و السيطرة، لكن دون عمق جماهيري حقيقي.

اتجاهات تصويت اليسار  في الدورة الثانية للرئاسيات في تونس

هذا هو سؤال المرحلة وقد ظهرت دعوات كثيرة من أنصار الدكتور مرزوقي، تلح على الجبهة (قيادات وقواعد) على الانضمام إلى حملته وتوجيه التصويت له.

ورغم أن البعض يستشعر ميولات قاعدتهم الانتخابية خارج العاصمة بالخصوص إلى التصويت إلى الدكتور منصف مرزوقي، لكنهم مرتبكون بسبب عائق إيديولوجي لم يفلحوا أبداً في تجازوه، وهو عائق الاقتراب من الإسلاميين الذين يتبين أنهم قريبون من حملة الدكتور المرزوقي.

هذا العائق عمل دائماً على توسيع الصدع بين اليسار بكل فصائله والإسلاميين، ولو اعتدلوا وقدموا آيات الدخول في الدولة المدنية. هذا العائق منع دوماً التعاون النضالي أيام الجامعة، ثم انتقل إلى الشارع السياسي وترسخ بعد الثورة.

وقد استثمر اغتيال بلعيد والبراهمي لتوسيع الفجوة ومنع كل احتمالات التنسيق. وقد تجدد هذا الرفض بظهور وجوه سلفية في حملة المرزوقي، لتتخذ ذريعة إضافية للنكوص عن دعم حملة المرزوقي. وعملت حملة الباجي على إبراز ذلك لتنفير اليسار، وخاصة شعب الجبهة من كل تقارب محتمل مع المرزوقي.

هل اليسار يملك قوة تعديلية فعلية في الشارع ؟

سيكون من الإجحاف القول بأن اليسار بكل فصائله لا يساوي  شيئاً، ولكن سيكون من المبالغة القول إنه هو القوة الثالثة  المعدلة  في سياق انتخابي ثنائي. لذلك نميل إلى تنسيب الوجهتين.

فاليسار موجود لكنه ليس يساراً واحداً، وشقه الفرنسي منحاز منذ زمن للنظام القديم ويعمل به وله، ولا يمكنه إلا أن ينتهي هناك برنامجاً ومصيراً؛ فلا تعويل عليه في دور تعديلي مهما كانت المعطيات الميدانية.

ولكن نعتقد أن قواعد كثيرة (لكنها لا تعد بالآلاف) من شباب اليسار الريفي والمفقر، الذي لا علاقة له بيسار الكفيار أو البوبو كما يوصف في فرنسا، ستتجه بوصلتها إلى التصويت للدكتور المرزوقي برغم ما قد يصدر إليها من تعميمات قياديه بخلاف ذلك.

خاصة إذا علمنا أن زعيم الجبهة الشعبية لم يعد ذا حظوة لديها بعد حملة الدعاية بمال مشبوه، سبب حرجاً كبيراً لهذه الفئات ذات المنحدرات الشعبية المفقرة والعاطلة عن العمل في الغالب. وسيكون في بعض تصويتها عقاب لزعيمها المشبوه والفاقد للنخوة؛  إذ بعد أن قبل تزكية من حزب المرزوقي لترشيحه، يقف متردداً في إعلان رد الجميل له، فجسد لدى قواعده نكوصاً غير ثوري بقبول التزكية ونكوصاً أخلاقياً بعدم رد الجميل طبقاً لأخلاق البدو. وهذا يجري على قواعد كثيرة  من  الشباب العروبي المتمسك بعداء حقيقي للنظام القديم.

كما نعتقد أن  غنيمة المشاركة في السلطة لكوادر الجبهة الشعبية، ستكون عاملاً محدداً للخيار الانتخابي في الدورة الثانية. فالجبهة حزب برلماني ولديها مطامح مشاركة في السلطة.

وهي تترصد موقف حزب النهضة  لكي  تزايد بعدم المشاركة إذا شارك، ولكي تخالفه الموقف كالعادة إذا لم يشارك. ولحزب النداء (الباجي) إمكانية المساومة الانتخابية بعرض سياسي من داخل السلطة التنفيذية. وسيكون هذا عاملاً محدداً في الموقف والانحياز.

عندما يتكلم قيادة الجبهة ليلة  الخميس 27 نوفمبر، سيعلنون دعم  الباجي قائد السبسي، و ينهون فترة مخاض الفيل، لنجد الفار الحقيقي .لذلك نقول إن بيضة القبان لن تكون الجبهة الشعبية مهما جمعت من أصوات الناخبين في الدور الأول، والتعويل عليها هو جهد ضائع من حملة المرزوقي.

ستكون بيضة القبان الحقيقية هي  تحفيز من لم يصوت في الدورة الأولى للمشاركة، فضلاً عن الذين أغواهم الهاشمي الحامدي بخطابه الشعوبي  والعروشي في الأرياف (منطقة الوسط بالخصوص).

وسيؤدي التردد إلى وضع اليسار أمام حقيقته الفاجعة، وهي غياب العمق الشعبي المعدل لليسار التونسي.
التعليقات (0)