مقالات مختارة

الانتشاء بالإمارات على طريقة فريدمان

بيلين فيرنانديز
1300x600
1300x600
(كتبت بيلين فيرنانديز): يمضي الكاتب الشهير في نيويورك تايمز في غيه القديم مصوراً الإمارة القمعية على أنها قوة ثورية ونموذج يحتذى به في العالم العربي.
 
في عام 2011، قام ثوماس فريدمان، الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز – والمعروف بإمبرياليته وتحريضه على الحرب، وبنزعته الاستشراقية، ومواقفه الاعتذارية عن إسرائيل، والحامل لعدد آخر من الصفات غير الحميدة، بوضع قائمة بأسماء "القوى غير الجلية جداً" التي وقفت وراء الانتفاضات العربية التي بدأت بإشعال بائع الخضار المتجول، التونسي محمد بوعزيزي، النار في نفسه في أواخر العام السابق.
 
اشتملت قائمة هذه القوى على باراك أوباما، وغوغل إيرث، وإسرائيل، والألعاب الأولمبية في العاصمة الصينية بيجينغ، ورئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك سلام فياض. وبحسب ما أملاه عقل فريدمان، فإن كل واحدة من هذه الكيانات الخمسة ساهمت بطريقة أو بأخرى في خلق وعي جماهيري عربي بأن الحياة يمكن أن تكون أفضل حالاً في ظل ترتيبات سياسية أقل اضطهاداً.
 
في ردها الذي لا يقدر بثمن على هذه المجموعة المختارة، اقترحت الصحفية البريطانية المصرية ساره كار عدة إضافات إلى القائمة، مثل موقع شبكة التسوق المنزلي وشنب فريدمان نفسه. وتعليقاً بالذات على سخافة فريدمان، إذ يختار إسرائيل لتكون ضمن القائمة، كتبت كار تقول: “إذا كان المصريون قد تأثروا بشيء مما يجري في إسرائيل، فلعلها قدرتهم على مقارنة ما يعانونه من اضطهاد في بلدهم بذلك الاضطهاد الذي يتعرض له الفلسطينيون على أيدي الإسرائيليين.”
 
في هذه الأثناء، يبدو أن هذيان فريدمان بشأن دور غوغل إيرث في إلهام الجماهير بالثورة اعتمد بشكل كلي على مقالة كانت قد نشرت في الواشنطن بوست عام 2006 حول رجل بحريني اسمه محمد، يقال إنه بحث عن بلده من خلال موقع الإنترنت المذكور. ما الذي اكتشفه محمد؟ لقد وجد أن عائلة آل خليفة السنية تملك كل أنواع القصور والمساحات الواسعة والفارغة من الأراضي، بينما الأغلبية الشيعية الفقيرة في البحرين محشورة في مساحات ضيقة مكتظة.
 
المثير للانتباه أن فريدمان تمكن من التغاضي عن هذه المعلومة البسيطة حينما تفاخر عام 2007 بتناوله البيتزا في مطعم برفقة الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى آل خليفة، والذي سبق أن أشاد به كائلاً له المديح على أنه "ولي عهد البحرين المبدع".
 
يذكر فريدمان تفاصيل زيارته مع ولي العهد البحريني إلى مطعم صغير في البحرين ضمن مجلد ضخم بعنوان: "ساخنة، مسطحة، ومكتظة"، يدعي فريدمان أنه ألفه عن البيئة، يكشف فيه النقاب عن أنه "عرف وأحب لسنوات طويلة" ولي عهد البحرين، الذي يشهد له بأن مؤهلاته التقدمية يعززها ما شاهده في المطعم. والذي شاهده هو فتاة، يقول إنها ابنة امرأة محجبة، كانت تجلس على طاولة مجاورة لطاولتهما، وكانت "ترتدي ما يرتديه المراهقون الأمريكان، وكان على كتفها الأيسر ما يشبه الوشم".
 
إذن، مثل هذا النظام القمعي الذي جثم على صدور الناس ما يزيد عن قرنين من الزمن، لا يمكن بحال أن يكون سيئاً مادام يسمح بازدهار المظهر "المناسب" للإنسان العربي حسبما يراه فريدمان: عربي يتناول البيتزا، ويضع الوشم على بدنه ويشبه في ملبسه وتصرفاته واستهلاكه الإنسان الأمريكي.
 
فعلتها دبي
 
إذا ما أخذنا بالاعتبار عشق فريدمان لمظاهر الثروة الفاحشة (بدءاً ربما بمسكنه هو) فلا ينبغي أن يكون مفاجئاً لنا أن نعلم أنه، ومنذ زمن طويل، من أشد المعجبين بمملكة أخرى في المنطقة: هي إمارة دبي.
 
رسالته الصحفية الأخيرة المنشورة في نيويورك تايمز بعنوان "هل فعلتها دبي؟" تتكون من قصيدة مدح لهذه الإمارة وما حققته من أمجاد، فيما يبدو أنه ملحق لقائمته التي نشرها عام 2001 حول "القوى غير الجلية جداً". والإنجاز الذي ينسبه فريدمان إلى دبي هو الجهد الذي يدعي أنها قامت به لتسبب الصحوة العربية، فهي – أي دبي – "جوهرة التاج" في دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تعدّ بدورها واحدة من المعاقل القليلة "للنظام والعفة" في المنطقة، و"المكان الذي بإمكان الشبان العرب من كل المنطقة أن يفدوا إليه ليحققوا طموحاتهم، ويثبتوا قدراتهم في مجال الفن، والإعلام، والتعليم، والتكنولوجيا المبتدئة – ضمن شركات على أعلى المستويات في العالم –من خلال ثقافتهم هم ولغتهم هم، وفي الوسط الديني الخاص بهم، يختارون بحرية ما يرغبون في تناوله من أطعمة وما يحبون سماعه من موسيقى وما يحلو لهم ارتداؤه من ملابس".
 
بالطبع ليس كل "شبان العرب" قادرين على القدوم إلى دبي، إذا ما أخذنا بالاعتبار العوائق الهائلة التي تحول دون ذلك، سواء من الناحية الاقتصادية أو القومية أو الدينية. كما أن الثقافة ليست أول ما يخطر ببال المرء حينما تقع عيناه على المولات (مجمعات التسوق) المهولة.
 
فيما عدا ذلك، من المذهل حقاً أن هذا الوصف يأتي ضمن الفقرة ذاتها التي يقر فيها فريدمان بأن "دولة الإمارات العربية المتحدة وإمارة دبي عبارة عن أنظمة حكم ملكي مطلق لا تسمح بالمعارضة أو بحرية حقيقية للصحافة". يبدو أنه يمكن للمرء أن يحقق طموحاته ويثبت قدراته بشكل كامل حتى لو كان محروماً من حقوقه الأساسية.
 
يعمد فريدمان بشكل طبيعي جداً إلى التقليل من وطأة الأمر، مفضلاً الاستمرار في سرد حكايته الخرافية، قائلاً: "كلما وفد المزيد من الشبان العرب على دبي، أو شاهدوها على شاشات التلفاز عن بعد، كلما تساءل المزيد ثم المزيد منهم: لماذا لا يوجد لدينا مثل هذا في بلادنا نحن؟".
 
وكما هو معهود عن فريدمان من انعدام المنطق فيما يسرد، يمضي إلى المدى الذي يطري فيه بنعت "هدام سياسياً" على المكان ذاته الذي قرر لتوه أنه لا يتسامح إطلاقاً مع وجود أي معارضة سياسية، معتمداً على حقيقة أن "دبي أثبتت أن بإمكان العرب أن يبنوا مثل سنغافورة" – والمعروفة هي الأخرى بنظامها المضطهد للناس، ومع ذلك ينظر إليها بحبور.
 
ولو أن فريدمان كلف نفسه مؤونة منح اهتمام أكبر لما قد يدور بخاطر العرب المفترضين في حكايته، لربما وجد أن "هذا" الواردة في السؤال المطروح بصيغة "لماذا لا يوجد لدينا مثل هذا في بلادنا نحن؟"، قد تشير إلى تعذيب المعارضين، واضطهاد فئات دينية معينة، والإساءة الممنهجة للعمال الوافدين والرقابة الشديدة.
 
وبذلك، قد تقود الاستجوابات الذاتية من قبل العرب إلى خلاصة على المنوال التالي: "لحظة من فضلك! كل هذا موجود لدينا، كل ما نحتاج إليه الآن هو قاعة تزلج مغلقة حتى يبدو الأمر كما لو أنه لا تشوبه شائبة".
 
تعذيب تقدمي
 
بالمناسبة، في اليوم ذاته الذي رأى فيه عمود فريدمان النور في نيويورك تايمز، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً بعنوان "لا يوجد حرية هنا: إسكات المعارضة في الإمارات العربية المتحدة"، توثق فيه "كيف ألقت السلطات الإماراتية جانباً سجل قواعد القانون الدولي لتصم وتسجن الناقدين السلميين لها؛ مستخدمة أحاكماً تساوي المطالبة بالإصلاح بجريمة تهديد الأمن القومي".
 
ورد في التقرير أن النشطاء الإماراتيين "يتعرضون بشكل روتيني للتنكيل وللاختفاء القسري والتعذيب والمعاملة المهينة"، وأن الإنسان يمكن أن يعاقب بالسجن على مجرد تغريدة في تويتر. ولعل السيد فريدمان يهتم بشكل خاص وعلى وجه التعيين بأن السلطات الإماراتية تستخدم كافة الأساليب المتاحة لاجتثاث أي مؤشرات على المعارضة السياسية أو الانتقاد أو المطالبة بالإصلاح، وذلك منذ الانتفاضات الشعبية التي عمت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الأمر الذي يؤكد تارة أخرى أن دبي ما كان لها بأي شكل من الأشكال أن تكون المحفز على انطلاق ذلك الحراك.
 
أن يسمح لفريدمان بأن يغلف الدعاية للحكومات القمعية بما يدعي أنه تحليل مستقل، وأن ينشر ذلك على صفحات صحيفة أمريكية مرموقة، من الطبيعي أن يثير كل ذلك أسئلة مهمة حول أخلاقيات قطاع الإعلام. ولكن، لماذا يسمح بأن يسخر فريدمان وشركاه جنوداً لدى الإماراتيين في المقام الأول؟.
 
بادئ ذي بدء، تعدّ دولة الإمارات العربية المتحدة زبوناً رئيسياً لدى مصنعي الأسلحة الأمريكية، وحليفاً مهماً للولايات المتحدة في مجهوداتها الحربية الحالية.
 
ثم إن المادية الطاغية التي تميز ذلك البلد تصب في خانة العولمة النيوليبرالية – وهي المنظومة التي تعمل نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية خدمة لمصالحها كما يحرص فريدمان باستمرار على تذكيرنا.
 
ولكن ثمة مكسب آخر في غاية الأهمية من الانتشاء بالإمارات: إنها تشتيت الانتباه بعيداً عن القضية الفلسطينية؛ فحسب ما يقوله فريدمان: "الدول العربية التقدمية تريد أن تبني شرعيتها ليس على الكيفية التي تواجه بها إسرائيل، ولكن على الكيفية التي تعُدُّ فيها شعوبها جيداً للمستقبل". وعليه، فإنه إذا كان المستقبل هو من النوع الذي تشطب فيه جرائم إسرائيل مثل التطهير العرقي وسرقة الأراضي من سجل التاريخ، فإن دبي تكون قد قامت بعمل مذهل.
 
رغم أن الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل لا تحتفظان فيما بينهما بعلاقات دبلوماسية رسمية، إلا أن مقالاً نشرته صحيفة الفاينانشال تايمز في عام 2013 أشار إلى أن دبي "واحدة من الطرق الرئيسية للتجارة بين الخليج وإسرائيل"، وأن تجار الماس الإسرائيليين "يسافرون إلى دبي ومنها، مستخدمين جوازات سفرهم الإسرائيلية بموافقة من السلطات في البلدين".
 
كما تلفت المقالة النظر إلى برقية من البرقيات التي سربها موقع ويكيليكس، ويعود تاريخها إلى عام ،2009 ورد فيها النص تحديداً أن الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل "يجري بينهما حوار مباشر حول القضايا الإقليمية والأمنية".
 
ليس من المصادفة إذن أن يعمد فريدمان باستمرار إلى وعظ الفلسطينيين وتقريعهم لفشلهم بزعمه في "تحويل غزة إلى دبي بدلاً من تحويلها إلى طهران" – دون أن يوضح كيف للغزيين أن يتمكنوا من بناء مثل دبي، بينما هم باستمرار تحت القصف الجوي والحصار والعقوبات.
 
الثورة والواقع
 
في عموده الأخير، يحاول فريدمان إضفاء شرعية على تعصبه للإمارات العربية المتحدة من خلال الاقتباس عن رجل أعمال فلسطيني يقول إنه قابله مؤخراً في دبي، والذي قال له إن "دبي هي عاصمة الربيع العربي – فالثورة الحقيقية بدأت ههنا".
 
وبحسب هذه الشخصية المزعومة "لم تبدأ الثورة لأنهم كانوا يبغون الحرية والديمقراطية، وإنما بدأت في عقل الإنسان العربي العادي الذي رأي الدليل في دبي على أننا بإمكاننا أن ننجز ما هو صعب، وأننا يمكن أن ننجز ذلك بأعلى المستويات في العالم … وبدرجة عالية من التسامح".
 
كما تمكن فريدمان من اقتناص جوهرة من سلام فياض – رئيس الوزراء الفلسطيني السابق، دمية إسرائيل النيوليبرالي، وأحد أبطال قائمة القوى الثورية لعام 2011 – الذي أخبره أنه بفضل دبي فإن "الناس تعلم ماذا يعني أن يكون المرء مواطناً الآن في كل مكان". إلى جانب كونها غير مفهومة بالكامل، من المفترض أن مثل هذه العبارة لن تحظى بالتصديق عليها من قبل العمال الأجانب الذين تساء معاملتهم في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولا من قبل الفلسطينيين الذين ولدوا هناك، ولكنهم يحرمون من الحصول على الجنسية الإماراتية.
 
في جنة النعيم كما يراها فريدمان، الاضطهاد هو الثورة، ولكن، فيما لو قدر "لثورة حقيقية" أن تندلع، فسيكون فريدمان ومعه دبي على رأس قائمة من تلتهمهم ألسنة لهيبها.
 
بيلين فيرنانديز هي مؤلفة كتاب "ثوماس فريدمان: المبعوث الإمبريالي"، من منشورات دار فيرسو. كما أنها تكتب في مجلة "جاكوبين".

( عن ميدل إيست آي)
التعليقات (0)