اقتصاد عربي

"فاتكا" يخترق "السرية المصرفية"

مصرف لبنان - ارشيفية
مصرف لبنان - ارشيفية
بعد نحو 58 عاماً على تطبيق قانون "السرية المصرفية" التي ساهمت بازدهار القطاع المصرفي والنمو المتقدم للاقتصاد الوطني، بدأ لبنان برفع هذه "السرية" عن حسابات حاملي جوازات السفر الاميركية والبطاقة الخضراء (Green Card)، تنفيذاً لقانون الامتثال الضريبي (فاتكا) الذي تفرض الولايات المتحدة بموجبه وبالقوة الاقتصادية ، سيطرتها على القطاع المالي العالمي.

وأعلنت الإدارة الأميركية عن رضاها لتجاوب لبنان السريع في تطبيق قانون "فاتكا"، وأبدى دانيال غليزر نائب وزير الخزانة والمسؤول عن ملف العقوبات ومكافحة غسل الأموال، ارتياحه المطلق إلى عمل المصارف اللبنانية، مشيدا بدور أجهزة الرقابة لدى البنك المركزي، كذلك وصف المجلس الدولي للضرائب في واشنطن (IRS) لبنان بأنه من الدول السباقة في اتخاذ الاجراءات اللازمة لتطبيق القانون الاميركي.

وتشمل هذه الاجراءات تحديث المعلومات العائدة لزبائن المصارف، وأهمها توجيه سؤال رئيسي اذا كان العميل يحمل جواز سفراً اميركياً أو البطاقة الخضراء، وفي حال الإيجاب، يبلغه المصرف المعني بانه يخضع  لقانون "فاتكا"، وعليه أن يوقع على نموذج إذن برفع "السرية المصرفية" عن حساباته، وارسال المعلومات المفصلة إلى وزارة الخزانة الاميركية، واذا رفض التوقيع، يضطر المصرف إلى إقفال حساباته ووقف التعامل معه، أما في حال أجاب العميل على السؤال بالنفي، أي أنه ليس اميركياً، وبما أن كل المعلومات سترسل الى الادارة الاميركية، وفي حال تبين أنه "كاذب"، وهو اميركي، عندها يحال ملفه إلى هيئة التحقيق الخاصة في البنك المركزي لتطبيق العقوبات بحق العميل المخالف، وتصل عقوبة عدم الاقرار المالي من دافعي الضرائب إلى نحو 100 الف دولار أو نسبة 50% من رصيد الحساب غير المصرح عنه، إضافة إلى العقوبات والغرامات التي يمكن أن تفرض لعدم دفع الضريبة المستحقة، وتختلف العقوبة بحق المصارف أو المؤسسات المالية المخالفة، حيث تصل إلى حجز 30% من قيمة الأموال الناتجة من عملياتها في الولايات المتحدة.

المصارف العربية

إذا كان لبنان سباقاً إلى التعاون الدولي، وهو جزء من الوطن العربي، فإن المصارف العربية ليست أقل منه حماسة، وقد أنجزت تسجيلها بنجاح من خلال البوابة الالكترونية للقانون الأمريكي على موقع مكتب الايرادات الضريبية على الانترنت، في حين أعلن عدد من الحكومات الخليجية والعربية مثل البحرين والسعودية عن توقيع اتفاقات ثنائية مع الحكومة الاميركية لتطبيق القانون، وقد ظهرت المصارف الخليجية على أول قائمة أصدرها مكتب الايرادات مطلع يوليو 2014 للمؤسسات المالية الأجنبية المشاركة في برنامج قانون "فاتكا"، ما يعكس مدى التطور المالي والتقني الذي حققته البلدان الخليجية في مجال الخدمات المصرفية والمالية ومواكبتها لمختلف التطورات النقدية والمالية العالمية.

وبما أن الامتثال للقانون الاميركي ينطوي على تكاليف تشغيليه كثيرة ناجمة عن تعديل اجراءات فتح الحسابات الجديدة ومتابعتها ومراقبتها والتدقيق بها، وأنظمة معالجة المعاملات واجراءات التعرف الى الزبون التي تستخدمها المصارف الاجنبية، وتكاليف التوعية وانشاء وحدة خاصة بالامتثال للقانون يعمل فيها موظفون اكفاء وذوو خبرة وغيرها، فقد تحرك كثير من المصارف العربية لدى المصارف المركزية لإقناع حكوماتها بالدخول في اتفاقات مباشرة مع الخزانة الاميركية لتنفيذ القانون، ولذلك فضلت الحكومات الخليجية التوقيع على اتفاقات مع الحكومة الاميركية ما سينعكس ايجاباً على مهمات المصارف المحلية في الالتزام بالقانون، خصوصاً أن المصارف المركزية الخليجية كانت رائدة دوماً في ادخال التشريعات والقواعد التنظيمية العالمية الجديدة، كما أن التنوع في الصناعة المصرفية الخليجية يحتم التعامل معها وفق احدث القواعد المصرفية، ما يسهل عمل المصارف العاملة ويمكنها من مواصلة أداء ادوارها الحيوية، وهذا النموذج سبق ان طبقته دول اجنبية مثل بريطانيا وايرلندا والمانيا واسبانيا والنرويج وايسلندا وسويسرا والمكسيك والدانمارك، وهناك 60 دولة تفاوض للدخول فيه، وهو يتطلب أن تؤدي الحكومات المحلية دوراً أكبر في تطبيق القانون من خلال توقيعها بدلا من المصارف اتفاقات التعاون مع الحكومة الاميركية.

ولكن في الوقت الذي بدأت فيه المصارف العربية تطبيق قانون "فاتكا" ، تسيطر على الادارة الأمريكية هواجس مقلقة تتعلق بعمل "المصارف المراسلة"، ولا سيما حيال الشكوك بعمليات مشبوهة تمر عبر بعض المصارف الصغيرة التي لا تتمتع باعتمادات كبيرة ، واستناداً الى تقرير غرفة التجارة الدولية ، فقد رفضت اكثر من 68% من العمليات مع المصارف المراسلة، اضافة الى إغلاق حسابات مصرفية عدة، كما أن كثرة القوانين والتشريعات الصادرة عن السلطات الاميركية ، وضعت ضغوطاً كبيرة على المصارف العربية، وخصوصاً على قطاعي الالتزام والمخاطر، اذ يتوجب على مدير الالتزام أن يتابع ويدقق بشكل كبير جميع العمليات المصرفية والودائع لكي يتحقق من سلامتها ، والتأكد من انها تتوافق مع قوانين مكافحة تبيض الأموال وتمويل الارهاب والامتثال الضريبي ، وبدأت الادارة الاميركية وضع آليات جديدة لمراقبة اداء المصارف العالمية ، ومنها " المصارف المراسلة " ، وفرضت حظراً على المصارف التي لا تتمتع برأسمال كبير يضمن لها البقاء خارج اطار الصفقات المشبوهة .

ولذلك تقرر ان يتم مناقشة هذه التطورات في المؤتمر العربي الاميركي الذي سيعقد في نيويورك في يومي 14 و 15 تشرين الأول/ اكتوبر 2014، وهو مخصص للبحث في ملف العلاقات بين المصارف العربية والمصارف الاميركية، خصوصاً بعد اقفال الكثير من حسابات المصارف العربية من بعض المصارف الاميركية، تحت ضغط المتطلبات المستجدة لبعض القوانين والانظمة الصادرة عن السلطات الاميركية.

وتبرز أهمية هذا المؤتمر من خلال اهمية قادة المؤسسات المشاركين فيه، ومنهم الرئيس التنفيذي للبنك الاحتياطي الفيدرالي توماس باكستر، ونائب وزير الخزانة الاميركية المسؤول عن ملف العقوبات دانيال غليزر على راس عدد من كبار المسؤولين عن منطقة الشرق الاوسط  ووسط اسيا في صندوق النقد الدولي، وعدد من كبار القادة المصرفيين العرب، وسيكون المؤتمر فرصة سانحة لممثلي المصارف العربية للجلوس مع صانعي ومنفذي القرار الاقتصادي والمالي في الولايات المتحدة، والذين يخططون السياسيات التي تتحكم بالأسواق المالية العالمية ، وشرح وجهة النظر العربية في مختلف القضايا المطروحة.

 تغيير خارطة الاستثمار

على الرغم من التزام الدول العربية والمصارف العاملة لديها بكشف "السرية المصرفية" عن حسابــات الأمريكيين في الخـارج عن طريق إذن فـردي مـن العميل المعني، فهي تواجه قلقاً كبيراً من مخاطر تداعيات الضربة الموجعة التي تلقتها اهم ميزة يتغنى بها كثير من دول العالم التي تعتمد عليها لجذب رؤوس الاموال، الامر الذي قد يؤدي الى تغييرات كبيرة في تنقل الودائع وخارطة الاستثمارات العربية والعالمية، لا سيما وان البعض يصف اختراق قانون "فاتكا" لـ "السرية المصرفية" هو اختراق سيادي لقوانين العديد من الدول .

ولعل لبنان هو أول المتضررين من اختراق "سريته المصرفية" التي بدأ تطبيقها في العام 1956، وساهمت في تقدمه وازدهاره المصرفي والاقتصادي طوال السنوات الماضية، حتى تمكن من استقطاب اموال ساهمت بمضاعفة ودائع جهازه المصرفي إلى 140 مليار دولار، وحجم موجوداتها إلى 160 مليار دولار، أي ما يعادل نحو أربعة أضعاف حجم اقتصاده البالغ 40 مليار دولار.

أما بالنسبة لسويسرا والتي جعلتها "السرية المصرفية" ملاذا ضريبياً بامتياز لسنوات طويلة، فتعرضت لهزة قوية، جراء الضغوط الأميركية قبل تطبيق قانون "فاتكا" وبعده، وقد تراجعت القيمة الاجمالية لأموال رجال الاعمال الأجانب المودعة في المصارف السويسرية إلى 200 مليار فرنك فقط، من نحو 800 مليار فرنك كانت قبل خمس سنوات، ويقدر محللون القيمة الاجمالية التي عادت إلى اوطان المودعين مقابل ضمانات بعدم مسها بنحو 350 مليار فرنك، ويتوقعون خروج نحو 70 مليار فرنك اضافية من خزائن المصارف السويسرية الى وجهات خارجية حتى نهاية سنة 2014، مع الاشارة أيضا "إلى تراجع عدد المصارف العاملة في سويسرا من 185 مصرفاً في العام 2008 الى 151 مصرفاً حالياً، ويتوقع أن ينخفض أكثر بنسبة تتراوح بين 20 و 25 في المئة في السنوات المقبلة.

وإذا كان قانون "فاتكا" سيكون له مفعول إيجابي على صندوق الضرائب الأميركي وقد تأتي بإيرادات تقدر بأكثر من 800 مليار دولار على مدى السنوات العشر المقبلة، فإن بعض الدراسات أشارات إلى أنه قد يكلف القطاع الخاص الأميركي مبالغ كبيرة تتجاوز هذا الرقم المقدر استيفاء لدى مصلحة الضرائب، مع التأكيد على أن تراجع الاستثمار المباشر في الولايات المتحدة والذي يمثل تراكم 3.7 تريليون دولار ، سوف يتأثر سلباً في نمو الاقتصاد وجذب الشركات الاجنبية للاستثمار داخل اميركا، وفي ظل حرية تنقل رؤوس الأموال من الداخل إلى الخارج، فضلاً عن اجواء يعاني فيها الاقتصاد الأميركي من بطء في النمو ونسب بطالة غير مرضية ومن ارتفاع العجز التجاري المتزايد، كلها عوامل تقول بان قانون "فاتكا" جاء في وقت غير مناسب.

ومع استعداد الآلاف من حاملي جوازات السفر الأميركية، للتنازل عن جنسيتهم تهرباً من قانون "فاتكا" ، لا بد من التوضيح أن ذلك لا يسقط عنهم الضرائب المستحقة عليهم حتى تاريخ تنازلهم عن الجنسية الأمريكية، بل سيطلب منهم دفع كل المستحقات اضافة إلى الفوائد والغرامات.
التعليقات (0)