قضايا وآراء

ذكرى "مجزرة " مرت في صمت!

شعبان عبد الرحمن
1300x600
1300x600
رغم أنها مازالت تقرع الآذان بصرخاتها عاماً بعد عام، وعلى مدى اثنين وثلاثين عاماً، إلا أن ذكرى تلك المجزرة مرت دون أن يتحرك لها جفن في عالمنا العربي! 

لم يكلف أحد نفسه دقيقة صمت حداداً على ضحاياها.. قلوب تحجرت، وضمائر شبعت موتاً، وإنسانية باتت تلبس معاطف سميكة من الإنسانية تخفي تحتها بركاناً من الوحشية.. ضمير أنظمة ماتت، وقلوب حكومات تنبض بالعار، وإنسانية نظام دولي سقطت وتمرغت في الوحل..

وشعوب عربية لا تكاد تفيق من مجزرة حتى تسقط في أخرى، فباتت غارقة في الدماء على أيدي حكامها وبني جلدتها وتحت إشراف ومباركة نظام دولي يرفع شعار حقوق الإنسان وهو في الحقيقة يرعى عملية إبادة الإنسان! 

هكذا مرت الذكرى الثانية والثلاثين لمذبحة "صبرا وشاتيلا" دون أن تظفر بكلمة من محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، فالرجل منهمك في تقديم مرافعة إعلامية - يندى لها جبين التاريخ – يدين فيها مقاومة شعبه الباسلة مقابل تبرئة ساحة الصهاينة من المجزرة الكبرى الأخيرة في غزة! 

فكيف ينطق بكلمة عن "صابرا وشاتيلا" وقد سكت عن كل المجازر، بل ويرفض حتى الآن التوقيع على "اتفاقية روما" التي تسمح للطرف الفلسطيني بتقديم "نتنياهو" وعصابته للجنائية الدولية.. فهل الرجل الذي يقف درعاً واقية للكيان الصهيوني من المحاكمة الدولية سيتذكر مجزرة ارتكبها ذلك الكيان قبل اثنين وثلاثين عاماً؟!

ولهذا ينام ضحايا "صبرا وشاتيلا" – وضحايا كل المجازر - في قبورهم تاركين القصاص لرب الأرض والسماء من بني جلدتهم الذين تواطئوا، وبني صهيون الذين أجرموا ومازالوا يعيثون في الأرض فساداً. 

هناك.. وعلى أرض "صابرا وشاتيلا" تجولت مرتين خلال زيارتين منفصلتين للمخيم بالضاحية الجنوبية في بيروت.. المرة الأولى في المساء حين فوجئ صديقي المحترم بطلبي زيارة مخيمي "صابرا وشاتيلا" قبل أن نذهب للعشاء، قال لي: لن تستطيع أن ترى معالم المخيم؛ لأن الأضواء فيه تكاد تكون منعدمة.. قلت له: نكتفي بالتجوال في شوارعه.. وهناك أخذ صديقي وهو أستاذ جامعي محنَّك يشرح خريطة المجزرة بكل تضاريسها، ووقف بي عند الشارع الذي قدمت منه القوات الصهيونية لتحاصر المخيم ومداخله ولتسهل لقوات الكتائب اللبنانية المجرمة ارتكاب المجزرة الكبرى. 

في الزيارة الثانية، كنت ضمن وفد صحفي توجه لزيارة المخيم في صباح يوم مشمس.. فتجولت مع مرافقي طويلاً بين جنبات المخيم، واستقرت بنا الحال داخل المقبرة التي تضم تحت ترابها شهداء المجزرة..

 المخيم.. مجتمع بشري يغص بعشرات الآلاف من الفلسطينيين.. كتل بشرية تتكدس داخل كتل أسمنتية حيث المسموح به فقط هو أبسط حقوق الحياة.. لا مزيد من المساحة لتواكب زيادة السكان.. ولا حقوق مواطنة من تعليم أو عمل، بل ولا حق في مقبرة للدفن.. فقط المسموح هو البقاء هنا على أي وضع.. 

المسموح لك أن تتنفس فقط وتدبر كل أمورك، ورغم ذلك فقد تحولت تلك البقعة إلى حياة تنبض بالحركة والعمل، وتحولت أسواقها إلى أرخص الأسواق في لبنان بفضل ما جلبه سكانها إليها من بضائع ومواد غذائية وورش بدائية وبقية ضرورات الحياة.. 

هنا يقصد الناس ذلك المخيم ليوفروا ضرورات حياتهم بنصف السعر تقريباً.. هنا مجتمع فلسطيني أرادوا له اليأس والموت البطيء؛ فأصر سكانه على صناعة الحياة.. هكذا في كل مخيمات الشتات أرادوها لهم مقابر؛ فإذا هي تنبض بالحياة ويعيش أهلها حياة الانتصار.. هنا "غزة" وفي كل مخيم "غزة" حيث الإرادة والانتصار!.

أتجول بصعوبة في أزقة ذلك المخيم حتى أصل إلى مقبرة ضحايا "صابرا وشاتيلا" التي تقع في أحد أطرافه. لا تكاد تشعر بأن هناك مقبرة، فقد رص الباعة بضاعتهم أمام بوابتها وعند أسوارها.. كل شيء اختلط.. أحياء يصارعون الحياة ويصنعون الأمل، وبينهم أحياء عند ربهم يُرزقون، يذكِّرون الجميع بالجريمة الوحشية، ويقدحون زناد القلوب غضباً وحزناً وإصراراً على الاستعصاء على الفناء.. وذلك هو شعب فلسطين أينما حلَّ. 

في فجر السادس عشر من أيلول/ سبتمبر 1982م، وظلامه الدامس كانت ترتيبات المجزرة قد اكتملت، وكانت بوادرها قد بدأت ظهر يوم 15/9/1982م، وانتهت مساء 18/9/1982م، بدأتها وحدات الاستطلاع من قوات جيش الاحتلال الصهيوني الغازية بقتل 63 مدنياً فلسطينياً في اليوم الأول، ولتنسحب تلك الوحدات وتسلم مهام استكمال ارتكاب المجزرة لأدوات الاحتلال من جهات لبنانية، كما قال الكاتب والصحفي الفرنسي "آلان منراغ"، مؤلف كتاب "أسرار الحرب على لبنان"، ليقتحم المخيم 350 عنصراً في 16/9/1982م فيرتكبوا وعلى مدار 43 ساعة واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين بحق النساء والأطفال والشيوخ من المدنيين العزل، ذهب ضحيتها أربعة آلاف وخمسمائة شهيد من بين 12 جنسية، حسب شهادة الكاتب الأمريكي "رالف شونمان" أمام لجنة أوسلو في تشرين الأول/ أكتوبر 1982م، و484 من الضحايا لا يزالون بحكم المخطوف أو المفقود، ولم يعد أي منهم حتى الآن حسب المؤرخة الفلسطينية د. بيان نويهض الحوت في كتابها "صابرا وشاتيلا أيلول 1982م"، وتدمير جزء كبير من المخيم.

الكاتب الأمريكي "نعوم تشومسكي" حمَّل أمريكا المسؤولية، فهي من "أعطت الضوء الأخضر لـ"الإسرائيليين" باجتياح لبنان في العام 1982م".

نسي الجميع المجزرة أو تناسوها لكن شعب ماليزيا لم ينسها فعقد "محكمة ضمير" في 20/11/2013م بالعاصمة (كوالالمبور) حيث أثبتت على العميد "عاموس يارون" ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية بصفته القائد العام "الإسرائيلي" ذا السيطرة العسكرية على مخيمي "صابرا وشاتيلا" إبان الاحتلال الصهيوني للبنان في شهر أيلول/ سبتمبر من العام 1982م ، وذلك بتسهيله وعلمه بالأمر، وسماحه بارتكاب مجزرة على صعيد واسع بحق قاطني المخيمين المذكورين؛ الأمر الذي يشكل خرقاً لكل الاتفاقيات والقوانين الدولية. 

وعلى الرغم من أن المحكمة كانت محكمة ضمير وحكمها لا يتمتع بأي قوة تنفيذية، فإن المحكمة قد وضعت حيثيات الحكم والمحاكمة بين يدي المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن، للاستفادة والبناء على مضامينها في ملاحقة مجرمي الحرب من الصهاينة، لكن ذلك ذهب أدراج الرياح مع دعوى قضائية في بلجيكا عام 2003م كادت تضع "شارون" في قفص الاتهام، لكنه فلت بقيام الحكومة البلجيكية بتعديل بعض قوانينها حتى لا تكون هناك ملاحقة لمرتكبي المذبحة.

ونامت القضية – ومازالت - في الأدراج مثلما ينام ضحاياها تحت أطباق الثرى.. ولا نامت أعين الجبناء! 
التعليقات (0)