كتاب عربي 21

هزيمة العدوان على جبهة الشعوب

حسام شاكر
1300x600
1300x600
شرعت دعاية الاحتلال في قصف غزة منذ اصطناعها مشهد الأمهات الباكيات وتمريره عبر العالم ليفترش صدارات الصحف. بدا مفاجئاً هذا الاستصحاب الخاطف للدموع وربطه المتسرِّع بغزة وتحميلها المسؤولية عن عملية الخليل. لم يكن مفهوماً تماماً كيف قويت أمّهات ثلاث على الانخراط في جولات دعائية حملتهن إلى قلب أوروبا، ليتحدّثن أمام الإعلام العالمي ومجلس حقوق الإنسان، رغم انشغالهنّ المُفترَض بخيوط الأنباء عن أولادهن.

وكما توالى في تاريخ الصراع، فإنها الدموع التي تُنذِر بالعدوان، والمشاهد التي تسبق القصف، والتسويغ المُفتعَل للفتك بالبشر. لكنّ دعاية الاحتلال استنفدت مخزونها سريعاً، وبرهنت الجماهير أنها يَقِظة حتى في موسم الانشغال بالعطلات والانصراف إلى كأس العالم والتثاقل عن التظاهر.

المؤشرات الأساسية للموقف على جبهة الشعوب، تفيد بأنّ الاستجابة الجماهيرية للتنديد بالعدوان جاءت خاطفة وكثيفة ومتعاظمة. فمنذ الساعات الأولى للعدوان اكتظّت ميادين العالم بالمتظاهرين، ثمّ تزايدت الفعاليات الجماهيرية المناهضة للعدوان عدداً وتعاظمت حشداً، فأخذت تتوزّع على مئات النقاط على امتداد القارّات. 

حشود تتظاهر كلّ يوم مع استمرار العدوان، وفئات جديدة تنضمّ إلى الساحات التي تغرق بسيول بشرية أغضبتها المجازر البشعة. يعي هؤلاء شيئاً فشيئاً أنّ الفظائع التي تقترفها آلة الحرب الإسرائيلية قد حظيت بالتجهيز والتمويل على نفقة دافعي الضرائب في الأنظمة الديمقراطية، فكتب بعضهم بلسان حال أوباما: "نحن لا نتفاوض مع الإرهابيين، بل نموِّلهم".

من كان يتوقع سنة النكبة أن تكسب فلسطين كلّ هؤلاء بعد سبعة عقود، وأن تمتلئ لها الميادين في مونتريال وشيكاغو ونيويورك وساوباولو وسيدني، وفي لندن ودبلن وأمستردام وبرلين وفيينا، وأن يُحظَر التظاهر في باريس بعد امتلاء الميادين بمناهضي الاحتلال، وأن تشهد اسكندنافيا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا عشر مظاهرات في يوم واحد أو يزيد، وأن تنتفض الجماهير لأجل فلسطين في قارّات العالم من كيب تاون إلى ريكيافيك، وصولاً إلى جنوب آسيا واليابان؟!.

لهذا كلِّه مغزى مهم، أنّ فلسطين لم تعد أسيرة المفهوم التقليدي الذي يصوِّرها قضية شعب وأرض وحقوق مغتصبة. فما يزيد على هذا التجريد أنها قضية قيم حاكمة ومبادئ أساسية بالنسبة للإنسانية جمعاء. فاستمرار القبول بنظام الاحتلال في فلسطين متمتعاً بالإسناد الخارجي والغطاء الدولي يعني شرعنة الظلم والقهر وتسويغ الاستغلال والهيمنة على الشعوب، بما يدحض قيم العدل والحرية وحقوق الإنسان والمساواة بين البشر. 

ثمّ إنّ استمرار الاحتلال ينتهك الحقّ في الحياة والأمن، والحقّ في الغذاء والدواء والتنقّل. إنّ دوْس هذه القيم والمبادئ يجعل فلسطين قضيّة البشر جميعاً على تنوّع ثقافاتهم وأديانهم ولغاتهم ومشاربهم. هكذا تكتشف المجتمعات الإنسانية في صحوتها الأخلاقية يوماً بعد يوم، أنّ مساندة الحقّ والعدل في فلسطين هي مسؤولية مبدئية والتزام أخلاقي، وليس نافلة تضامنية.

تواجه دعاية الاحتلال مأزقها الجوهري، فهي تستجمع مقوِّمات التأثير المتاحة على صعيد البنى التحتية المتطوِّرة وآليّات التواصل الحديثة وخيارات التأثير المكثفة، لكنّ المنظومة الدعائية العملاقة المُنشغلة بالتضليل وصرف الأنظار وحجب الحقائق، تقف عاجزة إزاء حقيقة الاحتلال ووقائع العدوان. كانت مهمّتها يسيرة في جولات القرن الماضي، لكنها باتت شاقّة في زمن الصورة والمشهد والبثّ المباشر والتشبيك الإلكتروني. ففلسطين تكسب كلّ يوم متحدِّثين بلغات العالم، ينافحون عنها، وينشغلون بتفكيك مقولات الدعاية الإسرائيلية، ويرفعون سقف المطالب بما يشمل المقاطعة وفرض العقوبات ونزع الاستثمارات وتفكيك دولة الاحتلال ونظامها العنصري. 

خسر الاحتلال جبهة الشعوب، فتبقّى له ساسة لا يجرؤون على استفتاء شعوبهم في ما يتعلّق بمشروعية الانحياز إلى نظام الاحتلال البغيض. أمّا على جبهة الإعلام، فيتعاظم الانشقاق بين الشبكات الاجتماعية الحرّة ووسائل الإعلام التي رهنت مضامينها لرواية الاحتلال. ويتملّص بعضهم في وسائل الإعلام الجماهيرية من تقاليد الانحياز المستقرّة منذ زمن في تناول الشأن الفلسطيني. 
لهذا التفاعل ما بعده. فالمعركة لا تسكن في جبهة الشعوب حتى عندما تهدأ المدافع أو يتوقف القصف. ستتولّى الحشود التي واكبت العدوان والمجازر محاسبة مجرمي الحرب الذين لطّخوا جبين البشرية بالدم. وباختصار فإنّ أيّاماً صعبة تنتظر مشروع الاحتلال على المستوى العالمي، إن ظلّت هناك قيَم وأخلاق.
التعليقات (0)