كتاب عربي 21

الطاقة والثقب الأسود في الميزانية التونسية

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
من بين كل ورشات "الحوار الوطني للاقتصاد" الدائر في تونس والذي يقارب على الانتهاء، بدت الورشة الأكثر أهمية الخاصة بـ"ترشيد الدعم في الطاقة". فعجز الميزانية الذي يستحث الجدال الاقتصادي الحالي ويطرح أكثر المهام استعجالا في الأشهر القليلة المتبقية من عمر الحكومة الانتقالية الجديدة ناتج بالأساس عن الارتفاع الصاروخي في منظومة الدعم في قطاع الطاقة. إذ إنها ارتفعت من 500 مليون دينار تونس سنة 2010 إلى ما يفوق ثلاثة آلاف مليار من المليمات التونسية هذه السنة، وذلك دون حساب "الدعم غير المباشر" والذي يمكن أن يصل بنا إلى ضعف الرقم الحالي. 

إجابة الحكومة الأكثر استعجالا تبدو مركزة على ثلاثة مستويات. أولا، سياسة تقشفية ذات بعد رمزي أساسا على مستوى الوظائف العليا في الدولة، سواء على مستوى الوزراء وكتاب الدولة أو على مستوى السيارات الوظيفية ووصولات البنزين، وفي أحسن التقديرات وهذا إن تم إصلا تفعيل هذه الإجراءات فيما تبقى من السنة ليس أكثر من أربعين مليون دينار في أحسن الحالات. ثانيا، استكمال برنامج حكومة الترويكا في رفع الدعم عن الصناعات الأكثر استهلاكا للكهرباء (المدعمة عبر شركة الكهرباء والغاز) خاصة منها مصانع الأسمنت وسيشمل هذا الإجراء على الأرجح أيضا مصانع الأجر، هذا إضافة إلى رفع الدعم عن مستهلكي الكهرباء الذين يتجاوزن نسبة معينة (200 او 300 كيلوواط).  ثالثا، الترفيع في أسعار بعض المواد الأساسية المدعمة بما يمكن أن يقتصد بما قيمته 100 مليون دينار في الميزانية في أحسن الحالات. لكن هذه الإجراءات لا يمكن أن تواجه العجز الذي يصل بآلاف المليارات الذي تتسبب فيه منظومة الدعم في الطاقة. 

من البديهي أن قطاع الطاقة يواجه مشاكل هيكلية لا يمكن حسمها في ظرف الأشهر المتبقية من عمر الحكومة الحالية. ولا يمكن لأي حكومة مهما كان لونها السياسي أن تتجاهل الأسئلة الكبرى للطاقة في تونس في العشر سنوات القادمة في أقل تقدير. هناك عدد من المشاكل الأساسية التي يجب أن نتعامل معها، وأولها تشخيص وضع المؤسسات المكلفة بتسيير الدعم في الطاقة. لنبدأ برقم مهم للغاية هنا: في ميزانية هذه السنة كان على الحكومة أن تضخ ما قيمته 800 مليار في خزينة "المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية" حتى يمكن لها تتجاوز العجز في ميزانيتها. هناك أسئلة عديدة حول نشاط هذه الشركة العمومية ذات الدور المحوري في البلاد بما في ذلك على مستوى شراء وبيع النفط مدعما. الأرقام المعلنة مثلا تجعل الكثيرين يتساءلون عن السبب في الارتفاع الصاروخي لمبلغ الدعم مقابل ارتفاع غير متناسب في سعر النفط دوليا بين سنتي 2010 و2013. 

كانت شهادات قضاة من دائرة المحاسبات (المؤسسة القضائية الإدارية الأولى المكلفة بمراقبة حسابات الدولة) منذ حوالي الشهر في إطار لجنة الطاقة في المجلس الوطني التأسيسي مناسبة جديدة لطرح معطيات جدية مقلقة حول الاخلالات الكبيرة في تسيير المؤسسات العمومية المتعلقة بالطاقة. المعطيات ليست جديدة بما أنها ترجع أساسا للتقرير الذي غطى سنتي 2010 و2011 لكن لم تتعرض إلى حد الآن إلى نقض جدي، ولا يمكن تجاهلها بخلطها مع سيل الإشاعات المنتشرة حول هذا القطاع. ملاحظات القضاة تمحورت حول طول فترة الرخص وومنح تمديدات للرخص بشكل مخالف للقانون مقابل ضعف ما تتحصل عليه الدولة وضعف التحيين فيما يخص المصاريف. 

المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية تستحق انتباها  خاصا فالعجز الكبير في الميزانية المشار إليه أعلاه لم يقابله تدقيق في أرقام معاملاتها لمعرفة سبب هذا العجز الضخم. إذ أن هذه المؤسسة تحتاج بلا شك إلى تدقيق عاجل في حساباتها إذ أن ما تلتهمه من المال العام يمثل ثقبا أسودا لوحده يثقل كاهل دافع الضرائب بدون أي إجراء لمحاسبة من يمكن أن يكون مسؤولا عن هذه الكارثة.

قضاة دائرة المحاسبات يشيرون إلى أمر أساسي آخر وهو الانتقال المتواتر لموظفي المؤسسة للعمل بأجور كبيرة في المؤسسات البترولية الأجنبية خاصة الناشطة في البلاد وهو ما يطرح تساؤلات حقيقية حول طبيعة العلاقة بين الموظفين العموميين وصلاحياتهم الكبيرة والحساسة في سياق تعاملهم مع مؤسسات بترولية أجنبية وسهولة تنقلهم إلى العمل بأجور كبيرة في ذات المؤسسات. من البديهي أن أحد مداخل شبهة الفساد هو سهولة الانتقال هذه، خاصة إزاء سهولة القيام بتمديد في الرخص وضعف المردود على الدولة والعجز الواضح في ميزانية هذه المؤسسة. 

في مقابل ذلك كشفت المعطيات الأولية من التقرير الجديد لدائرة المحاسبات للسنة القضائية الفارطة 2012-2013 الخاص بالشركة الوطنية لتوزيع البترول (عجيل) عن نسق متواصل من الخسائر. فقد أبرز التقرير حسب ما تبين في الندوة الصحفية التي انعقدت منذ يومين "محدودية طاقة الخزن من خلال غياب رؤية إستراتيجية ومخططات متوسطة وبعيدة الأمد وتأخير في إنجاز بعض المشاريع على مستوى المستودعات ونقص في وسائل متابعة المخزون إلى جانب عدم التقيد بالسقف القانوني للمخزون الإحتياطي (بنزين وفيو). كما تم إبراز تدهور مؤشرات النشاط عبر تراجع حجم المبيعات من 1.6 مليون طن مكافئ نفط في 2008 إلى 1.3 مليون طن مكافئ نفط سنة 2011 مع تراجع حصة السوق من حوالي 43 بالمائة سنة 2007 إلى 40 بالمائة سنة 2011 وتقلص المبيعات على مستوى الشبكة من خلال تراجع عدد محطات التوزيع.

 وكشف التقرير أيضا تسجيل إخلالات على مستوى التصرف في المحطات." هذه المعطيات الجديدة تعمق الاعتقاد التالي: أرباح أكبر للمؤسسات غير العمومية مقابل أرباح أقل للمؤسسات العمومية في قطاع الطاقة. إذ يجب أن نستفيد من الثورة في تونس فجيب أن يشمل ذلك الحوكمة الرشيدة في أحد أهم مجالات الاقتصاد الوطني من حيث الاستهلاك وأيضا التأثير على الموازنات المالية للبلاد. 

أخيرا الإصلاحات الهيكلية التي يجب أن تحصل بالتأكيد بعد الانتخابات تخص مجال الطاقة المتجددة خاصة منها الشمسية. التقديرات يمكن أن تصل أحيانا إلى ما يفوق العشرين في المئة بحلول سنة 2030 من حيث تلبية الحاجات الطاقية. وهنا من البديهي أن التفكير الإستشرافي المناسب هو أن لا نكرر أخطاء الماضي. بناء مؤسسات عمومية شفافة وتخضع للحوكمة الرشيدة ولكن أيضا تجعل المصلحة الوطنية العليا في هذا القطاع الاستراتيجي في موقع مركزي، ولا تمنح امتيازات للمؤسسات الخاصة بما فيها الأجنبية تتعارض مع المصالح الوطنية على مستوى الاستثمار والتشغيل والتصنيع.  
التعليقات (0)