كتاب عربي 21

"زعبوطك" يا بوتين!

سليم عزوز
1300x600
1300x600
"مقلب حرامية"، تعرض له الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإن شئت فقل لقد تلقى صفعة على قفاه، وهو السياسي المحترف، من شخص لا يزال في "الأوله في الغرام" هو عبد الفتاح السيسي، الذي ذهب إليه محلقاً ومقصراً، وحصل على "زعبوط" منه، ثم قال له: "أمك في العش ولا طارت"!

تذكرون يوم أن ارتدى السيسي الملابس المدنية، وهو لا يزال وزيراً للدفاع، وغادر القاهرة متجهاً إلى موسكو، عندها خرجت "البنت وأمها" كناية عن الاحتشاد، مرحبة بهذه الخطوة الجبارة، لرجل جاء سائراً على طريق جمال عبد الناصر. 

وفي الصباح كان "مانشيت" صحيفة "الأهرام": "السيسي يتجه شرقاً"، وعشنا أياماً بلياليهم، مع السادة المحللين وهم يحللون هذه الخطوة، التي هي كاشفة عن أن عبد الفتاح السيسي ولأنه "رجل المرحلة"، و "مرشح الضرورة"، قرر أن يُخرج مصر من العباءة الأمريكية، كما فعل جمال عبد الناصر.

وفي هذه الأجواء الاحتفالية تم الحديث عن صفقة للسلاح بين مصر وموسكو، وهو أمر فسره المحللون الاستراتيجيون بأنه خطوة على طريق التحرر الوطني، بتنوع سلاح الجيش المصري، فلما ظهر السيسي مرتدياً "الزعبوط" إياه، وبالرغم من أنها لأول مرة في تاريخ العلاقات الدولية التي يهدي فيها زعيم دولة موفد دولة أخرى "زعبوطاً"، إلا أن السادة المحللين أسهبوا في الحديث عن دلالة هذه الهدية، وهي تشير إلى قدر السيسي لدى بوتين، فالهدية تشير إلى الحب من أول نظرة، وقديماً قيل: "بصلة المحب خروف".

كان واضحاً أن "الخفيف"، وهو أحد مشتقات الجنون الرسمي، قد أصاب عقول أنصار السيسي، ولم يتوقفوا ليفهموا أن هذه الزيارة هي مناورة ، جادت بها قريحة محمد حسنين هيكل "عراب الانقلاب وفيلسوفه"، وأهداها لوزير الدفاع، وكرسالة لواشنطن، بأنه يمكنه أن يكرر تجربة عبد الناصر، وبعد أن ذهبت السكرة وحلت الفكرة، وقف السيسي على أن "العين لا تعلو على الحاجب"، وأن أي خطوة في هذا الاتجاه، يمكن أن تجعل انقلابه، كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وهو الذي يحظى بالحماية الأمريكية. والبيت الأبيض إلى الآن لم يسمه انقلاباً، ووزير الدفاع الأمريكي على اتصال دائم بالسيسي للاطمئنان على الصحة الغالية لخارطة المستقبل، التي يسهر على راحتها، وينصح بتنفيذها، لرفع الحرج عن أوباما، أمام خصومه الذين يأخذون عليه أنه ساعد الانقلاب على رئيس منتخب، وقدم للعالم بانحيازه الدليل على أن واشنطن هي الراعي الرسمي للاستبداد في العالم العربي.

المشكلة أن البيت الأبيض، ولمصلحة الانقلاب كان يريد "تدويره" على طريقة تدوير القمامة، فيخرج منها ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، بأن يستمر عبد الفتاح السيسي وزيراً للدفاع، ويتم ترشيح غيره رئيساً فلا يكون رسمياً محسوباً على الانقلاب، أو مسؤولاً عن الدماء، بما يمهد لمصالحة، تنهي الأزمة السياسية، وتجعل الإخوان جزءاً من المعادلة السياسية، ويكون "حزب القوات المسلحة" هو المهيمن!

كل نصائح هيكل قديمة، قدم النظريات السياسية الفاشلة، لذا فكل نصائحه فشلت، وهو لا يوجد في جعبته سوى سيناريو سنة 1954، الذي ينص على أنه بمزيد من الدماء والاعتقالات سينجح الانقلاب، ففشل كل هذا!

لم يكن الأمريكان جادين في عملية إبعاد السيسي من الترشح، فكلامهم على سبيل النصيحة، وقد تم إقناع "سدنة المعبد الأمريكي"، بترك السيسي يحقق "مناماته" الأربعة، حيث رأى فيما يري النائم أنه صار رئيساً لمصر. وكان إقناع الأمريكان من قبل أولياء أمر الانقلاب في الرياض!

وعند أول إشارة من واشنطن نسي السيسي أنه كان قد زار موسكو أيضاً، وربما لأن له في "الكوابيس والمنامات"، فقد اعتبر الزيارة الخاطفة هي "أضغاث أحلام". وصورته في حضرة الزعيم الروسي، بدت مشبعة بتهويمات النائم، وقد شاهدنا السيسي منكسراً، كما لو كان تلميذاً يقف في حضرة السيد ناظر المدرسة، لحظة إنذاره بأنه لن يتم السماح له بدخول المدرسة إلا بعد حضور ولي أمره.

ها هو السيسي عند أول إطلالة تلفزيونية، مع الأخوين لميس: إبراهيم عيسى ولميس الحديدي، يكشف المستور، فلم يكن تدخله لعزل الرئيس المنتخب لأنه تصرف مع الشعب على قاعدة: "دعاني لبيته"، فقد كان التنسيق سابقاً، حتى اذا جاء شهر مارس، أبلغ السيسي واشنطن، بأنها استوت على الجودي. وهو أمر يشكل جريمة الخيانة العظمى على النحو الوارد في القانون.

لم يقل عبد الفتاح السيسي متى بدأ الحوار بينه وبين واشنطن لإسقاط الرئيس المنتخب، فإعلانه لهم أن كل شئ انتهى كان قبل الانقلاب بأكثر من ثلاثة شهور. وإن كان الدكتور محمد البرادعي قد اعترف بأنه ظل ستة شهور يقنع الاتحاد الأوربي بفكرة إسقاط الرئيس محمد مرسي، ولم يقل متى بدأ، ومتى اقتنعوا.

والسيسي المتجه شرقاً يفخر في حضرة الأخوين سالفي الذكر بأن الولايات المتحدة الأمريكية توافق على ترشحه، وترى أنه يصلح لرئاسة مصر.

عندما كان عبد الفتاح يقول هذا الكلام، لم أتذكر من الزحام سوى صديقي الدكتور نبيل رشوان، المتخصص في الشؤون الروسية، الذي حصل على درجة الدكتوراه من هناك، وعمل لسنوات قبل أن يعود للقاهرة، فاعتزل السياسة ممارسة، وهو اليساري، الذي لم يتخل عن يساريته. وكنت أقول في نفسي معذور لاعتزاله فقد رأى سقوط الاتحاد السوفيتي رأي العين. لكن الحياة دبت فيه من جديد بعد ثورة يناير ونجاح الشعب المصري في إسقاط حسني مبارك!.

ولأنه ليس لدي اليسار المصري مشكلة مع الاستبداد أو حكم العسكر، فقد كان صديقي نبيل رشوان من مؤيدي الانقلاب. وتفجر حماسه بالزيارة التاريخية للسيسي لموسكو، وكتب عن لقاء القيصر والجنرال. مع أن روسيا ليست هي الاتحاد السوفيتي، ولا بوتين هو خروشوف ولا السيسي هو جمال عبد الناصر. لكنه الاشتياق للزمن الجميل!.

اختفى صديقي نبيل، فلم أعد أشاهده كاتباً على صفحات التواصل الاجتماعي، ويبدو وهو الصادق مع نفسه، والذي لم يبع في زمن البيع، مصدوم والسيسي يفاخر بعمق العلاقة بينه وبين واشنطن.. وهو الذي كتب سعيداً بالعلاقة بين "القيصر والجنرال"!.

لم يكن الأمر يحتاج منا أن ننتظر ما أعلنه السيسي عن العلاقة مع واشنطن مع الأخوين لميس، فقد كانت علاقة واشنطن بالانقلاب متينة منذ اللحظات الأولى، وكان وزير الدفاع الأمريكي هو خط الاتصال بنظيره السيسي، إيماناً من البيت الأبيض بأن ما جرى انقلاب عسكري والكلمة الأولى هي لوزير الدفاع وليس للرئيس المنتدب عدلي منصور.

فمبكراً وبنهاية شهر يوليو، وبعد أسبوعين من وقوع الانقلاب اعترف السيسي في مقابلة مع "الواشنطن بوست" بأنه على اتصال بصورة شبه يومية مع وزير الدفاع الأمريكي.

وفي 9 يوليو 2013 وبعد ثلاثة أيام من الانقلاب أذاعت الـ " سي أن أن" أن كبار المسؤولين في "البنتاجون" مازالوا على اتصال بوزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي بعد عزله الرئيس محمد مرسي كما لم يتصلوا مطلقاً بجماعة الاخوان المسلمين.

وبعض تلك الاتصالات بوزير الدفاع استمرت لأكثر من ساعتين. وقد وصف الناطق باسم وزارة الدفاع الامريكية الاتصالات بأنها "مطولة وصريحة". وقد رفض وصف ما جرى بأنه انقلاب. وأقر بأن الجيش الأمريكي "لم يتصل خلال الفترة الماضية بجماعة الاخوان". وقال: "إن اتصالنا الرئيس هو مع الجيش المصري".

وفي 28 يناير الماضي أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية بياناً جاء فيه "إن وزير الدفاع تشاك هيجل اتصل هاتفياً بالمشير عبد الفتاح السيسي وحثه على استكمال الاستفتاء على التعديلات الدستورية. كما ناقش معه المظاهرات التي جرت في الأسبوع الماضي، وكذلك الخطوات التالية في المرحلة الانتقالية. وأكد الجانبان على الشراكة المصرية الأمريكية القوية". هذه الشراكة التي وصفها وزير خارجية الانقلاب بأنها زواج شرعي وليست مجرد نزوة لليلة واحدة.

هذا غيض من فيض، وهو ليس موضوعنا، فموضوعنا هو " الزعبوط" الذي أهداه بوتين لعبد السيسي. ولأنه ليس في سوابق العلاقات الدولية أن أهدي زعيم دولة لزعيم دولة أخرى "زعبوطاً"، فهنا يكون لزاما علينا، أن نرد الموضوع الى أصله، فـ "الزعبوط" المهدي من بوتين يسري عليه "أنثربولوجيا النقوط"، و"النقوط" لغير المصريين هو ما ورد في الأغنية القديمة للشحرورة: "الغاوي ينقط بطاقيته". فالزعبوط  يدخل فقهاً في مبدأ "النقوط". وعندما يُرد "نقوط" لصاحبه فمعنى هذا أن العلاقة الاجتماعية في هذا الجانب قد انتهت بهدوء، وبدون أن تعني نهاية العلاقة على المسارات الأخرى.

وقد اعترف السيسي بأن العلاقة قوية ومتينة، وأن التنسيق للانقلاب على الرئيس كان قائماً منذ البداية. وأن واشنطن ترحب به رئيساً. وعندما سئل عن صفقة السلاح التي قيلت فيها قصص وحكايات تساءل: سلاح إيه؟!.. وربما لو كررت لميس الحديدي السؤال مرة أخرى لكان رده: "خلي السلاح صاحي"!.

لا بأس يا سيد عبد الفتاح: رد لبوتن "زعبوطه"، حتى لا يتهمك بالطمع!
التعليقات (0)