مدونات

حقيقة الدور الأمريكي في المشهد المصري

غانم
غانم
الهيمنة الأمريكية على العالم ونظرية المؤامرة 

فكرة الهيمنة الأمريكية على العالم من شرقه لغربه ومن شماله لجنوبه، وفكرة أنها باتت لاعبا أساسيا في كافة القضايا الدولية .

فكرة أصبحت مسيطرة على أذهان الناس في كل بقاع الأرض إلى حد كبير .

وعندنا في العالم الإسلامي والعربي تجد هذه الفكرة أكثر سيطرة على الأذهان لاعتبارات عدة .

أهم هذه الاعتبارات هو حالة الضعف والخنوع والاستسلام التي تسيطر على عالمينا العربي والإسلامي، إلى الحد الذي جعل أبناء هذين العالمين يسعون بأنفسهم جاهدين  للتأكيد على هذه الهيمنة من الأمريكيين على قضاياهم ومقدراتهم .

وهذا هو ما يفعله الضعف وتفعله الهزائم العسكرية والاقتصادية والعلمية والنفسية بالشعوب، هي القابلية للاستعمار كما بين علماء النفس والاجتماع وأثبتوا .

وهذه الهيمنة الأمريكية على العالم العربي والإسلامي قد ساعد عليها  _إلى جانب حال العالم العربي والإسلامي من الضعف الهوان _ السعي الأمريكي من أجل هذه الهيمنة في هذه المنطقة بالخصوص، وذلك لموقعها المتوسط الأهم على الساحة الجغرافية الدولية، ولاعتبارات اقتصادية وبترولية وخامية، وكذلك لوجود البنت المدللة ( إسرائيل ) فيها، وليس أمام أمها (أمريكا ) إلا السيطرة على كل من حولها ليبقى تدليلها قائما وباقيا. وكذلك تسعى أمريكا للهيمنة والسيطرة على هذه المنطقة لاعتبارات عقائدية وتاريخية، فلن تنسى أمريكا المسيحية معركتها التاريخية والدينية مع العالم الإسلامي، وخصوصا بعد أن سيطرت على الأمريكان الاعتقادات المسيحية البروتستانتية الصهيونية، التي تؤكد على العداء للدين الإسلامي، وعلى حتمية عودة اليهود إلى فلسطين وهدم المسجد الأقصى لبناء هيكل سليمان المزعوم، وذلك حتى يعود المسيح إلى الأرض ليعلي الصليب ويحكم الأرض ألف عام .

وبالتالي فإن الحديث عن نظرية المؤامرة التي تتبع الهيمنة الغربية بالعموم والأمريكية بالخصوص حديث ذو قيمة وشأن واعتبار، وبالفعل فإن لأمريكا يدا في جل القضايا العربية والإسلامية إن لم يكن في كلها .

صحيح أننا نبالغ في مسألة المؤامرة هذه إلى حد أن نعزي كل صغيرة وكبيرة وحركة وسكنة إليها، لكنها بصرف النظر عن مبالغتنا هذه موجودة بحق، وقوية بحق .

أمريكا والحقبة المباركية 

( الحقبة المباركية ) اصطلاح نستخدمه للتعبير عن الفترة التي حكم مصر فيها حسني مبارك، وذلك مشابهة لقولنا الحقبة الساداتية عند تعبيرنا عن فترة حكم أنور السادات، وقولنا الحقبة الناصرية للتعبير عن فترة حكم عبد الناصر .

والسؤال هو : ما هو موقف الإدارة الأمريكية من فترة حكم مبارك وسياساته وتوجهاته فيها ؟ .

سنترك الحكم على هذه القضية لصحفي تاريخي كبير بحجم محمد حسنين هيكل، فهذا الرجل بصرف النظر عن الاختلاف معه ومع توجهاته، وبصرف النظر عن نظرتنا السلبية له، تلك النظرة التي أكدها وختمها موقفه من الانقلاب، حيث تبين أنه موجهه الروحي والفكري وعرابه الأول .

بصرف النظر عن كل هذا، فإننا هنا سننظر إلى شهادته حول مسألتنا تلك (مسألة موقف أمريكا من مبارك )، لأنه كان صاحب موقف سلبي من مبارك الذي تجاهله ولم يستعن به، فكانت شهادته حوله هي من الشهادات القليلة لهذا الرجل التي من الممكن أن تصدق، وأن لا تشوبها شوائب الولاء والحب، كما كانت شهاداته حول عبد الناصر مثلا .

أما عن شوائب الكره والرفض التي من الممكن أن تشوب شهادته حول مبارك، فإنها تنفيها شواهد أخرى كثيرة تؤكد على صدق هذه الشهادة .

وشهادته جاءت في كتابه ( مبارك من المنصة إلى الزنزانة )، الذي رصد فيه سريعا ملامح كثيرة لعصر مبارك، منذ بلوغه سدة الحكم بعد مقتل السادات في حادث المنصة، إلى أن تنحى عن حكم مصر، وأخذته يد الثورة ورمت به في زنزانة المحاكمة والمساءلة.

في هذا الكتاب يؤكد هيكل بأسلوب صحفي قصصي أن مبارك لم يكن طوال تاريخه رجلا ذا موقف، كان رجلا لا يمتلك لا كاريزما ولا مواقف ولا أيديولوجيا، وإنما كان رجلا سيقت له الرئاسة صدفة، فكان كل همه أن يحافظ عليها .

ولذلك كان موقفه من أمريكا وحليفتها إسرائيل هو موقف المهادنة، ثم الموافقة، ثم الارتماء في الأحضان، ثم التحالف الاستراتيجي .
ومن هنا كان مبارك أهم حلفاء أمريكا وإسرائيل في المنطقة، وكان نظامه من أهم الأنظمة التي تريد و تسعى أمريكا وإسرائيل إلى المحافظة عليها وإبقائها وحمايتها .

ولا ننسى تصريحات القادة الإسرائيليين عند الثورة على مبارك حول أهمية دعمه، فهو بالنسبة لهم كما قالوا كنز استراتيجي.
أمريكا وثورة يناير .

يتبين لنا تباعا لما قلناه آنفا من أن مبارك كان كنزا استراتيجيا لأمريكا وحليفتها إسرائيل، أن أمريكا وإسرائيل لم يرضيا أبدا بالثورة عليه، ولا بالإطاحة به .

وكل ما يقال حول أن أمريكا هي محركة الثورات العربية وداعمتها بالمال والتخطيط وشغل المخابرات، هو من المهاترات الإعلامية والسياسية التي يطنطن بها الإعلاميون والسياسيون المصريون، ليأكدوا للعالم مستوى ما آل إليه الحال المصري العام من جهل وانحطاط في الثقافة ومبالغة في الكذب والتدليس إلى الحد المضحك المخزي .

وإذا قال قائل إن تصريحات أمريكا إبان الثورة كان ضاغطا على مبارك لتنحيه وإبعاده، فإننا سنرد قائلين : إن أبسط المتابعين للسياسة الأمريكية سيعلم أن هناك مواقف سياسية أمريكية أصيلة خفية، وهناك وجه إعلامي تظهره يكون في كثير من الأحيان على غير حقيقة التوجه الأصلي .

ومن هنا .... فإن أمريكا كانت تعرف أنها لن تجد مثل مبارك حليفا وتابعا، ولذلك فإنها سعت بكل ما تستطيع لإبقائه، و لتؤول الأمور من بعده لابنه أو لذويه ومن يدورون في فلكه .

لكنها وهي التي تدعي أنها إله الديمقراطية والحرية، لم يكن أمامها إلا أن تظهر إعلاميا أمام العالم كذبا وتدليسا أنها مع تطلعات الشعوب إلى الحرية والكرامة .

ثم إنها دائما على مدار تاريخها، إذا ما رأت حلفاءها على وشك الهاوية والسقوط، فإنها تسارع إلى بيعهم والوقوف مع القادمين الجدد، حتى تستطيع بعد ذلك احتواء ذلك القادم الجديد، ليسير على درب سالفه البائد .

هذه هي سياسة أمريكا المتبعة دائما، ولذلك فإنها لما وجدت أن مبارك ذاهب لا محالة، بادرت إلى الادعاء كذبا أنها مع الثورة، وأنه لا بد له أن يرحل، ثم لعبت لعبتها بعد رحيله، وها هي لعبتها تظهر وتتأكد .

أمريكا وفترة المجلس العسكري .

في ذات السياق، وبمنطقية بسيطة، يتبين لنا أن أمريكا كانت أقرب ما يكون إلى المجلس العسكري إبان فترة توليه السلطة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، فأمريكا تبحث عن مصالحها، ولا تبحث أبدا عن تطلعات الشعوب ناحية الحرية والديمقراطية، إلا في خطابها الإعلامي المعلن كما قلنا .

ومصلحة أمريكا كانت في بقاء نظام مبارك، فلما أن كان لزاما عليه أن يرحل، أصبحت مصلحة أمريكا مع بقايا هذا النظام، الذي يتمثل أعظم ما يتمثل في المجلس العسكري الذي عينه مبارك، واختار رجاله واحدا تلو الآخر، برضاء أمريكي عن كل هذه الاختيارات، بل وربما بضغط أمريكي لتعيين بعض هؤلاء الأفراد في قيادة الجيش والمجلس العسكري بعد تدريبهم وتربيتهم في أحضان الأمريكان .

إذن، كانت أمريكا تدعم المجلس العسكري وحكمه إلى أبعد حد، وكما قلنا، فلا يخدعن أحد بخطابها الإعلامي التجميلي الكاذب .

لكن لما تبين لأمريكا أيضا أن بقاء المجلس العسكري في الحكم بات في دائرة المستحيل، بسبب إصرار الثوار على اقتلاعه والمضي بالبلاد ناحية حكم مدني وانتخابات رئاسية نزيهة، مررت أمريكا هذا على غير رغبة منها، وبدأت في التخطيط للمرحلة الجديدة .

أمريكا وحكم الإخوان .

كيف يدّعي المدعون الكاذبون أن أمريكا تدعم الإخوان، وأنها هي التي ضغطت رتبت لوصولهم للحكم .

كيف تدعم أمريكا توجها فكريا إسلاميا له أكثر من بعد أيديولوجي، يبعث على عداء أمريكا له ومحاربته بكافة وسائلها التي تستطيعها.
فهذا الفكر يعمل من أجل أن تتوحد الأمة الإسلامية في كيان عالمي واحد، لتعود الريادة والسيادة للدولة الإسلامية كما كانت في التاريخ على مدار ما يقارب الألف عام .

فكيف لأمريكا إمبراطورية التاريخ الحديث وسيدة العالم بلا منازع، كيف لها أن ترضى بميلاد ذلك المنافس العملاق الجديد، كيف لها ذلك وكل عمل مخابراتها وأجهزتها هو محاربة كل الإمبراطوريات المنافسة بكل ما تستطيع، الصينية والروسية على سبيل المثال .

كما أن هذا الفكر يجعل قضية التحرر الفلسطيني، وتحرير المسجد الأقصى المبارك، والقضاء على الحلم الإسرائيلي الصهيوني بإقامة الدولة الإسرائيلية بهيكلها المزعوم، يجعل من هذا قضية محورية أساسية في أصوله ومعتقداته .

فكيف لأمريكا المسيحية الصهيونية، التي تسيطر على سياساتها وتوجهاتها العقيدة البروتستانتية الصهيونية، التي ترى في وجود إسرائيل وقيام هيكلها المزعوم أمرا عقائديا، لن يعود المسيح ليحكم الأرض إلا بعده، ولن يمجد الصليب إلا به .

كيف لها أن ترضى بسيادة هذا الفكر الإسلامي المعادي، وكيف لها أن تسعى لقيام هذه الدولة التي ستقوم على معتقدات هذا الفكر .

من المعروف بداهة أن أمريكا قد بدأت العداء لدولة الإخوان منذ أول وهلة للحكم، بل لقد حاولت مع حلفائها وعملائها في الداخل من العسكر والقضاة وغيرهم، في تزييف نتائج الانتخابات الرئاسية وإعلان شفيق ناجحا، ولكنها لما رأت زحوف الثوار وقد ملأوا التحرير والميادين، وأقسموا أن لو لم يعلن مرسي رئيسا، فإنها ستكون ثورة ثانية لا تبقي ولا تذر .

لما رأت ذلك، ورآه معها الداخل العميل، وافق الجميع مرغما على إعلان النتيجة الحقيقية بنجاح مرسي والإخوان، لكنها بدأت منذ ذلك الحين في  التخطيط لإزالة هذا الحكم بكل الطرق .

أمريكا وانقلاب الثلاثين من يونيه .

كما تبين مما سبق، فأمريكا ذات هيمنة كبيرة على مجريات الأحداث في العالم كله وفي المنطقة العربية بالأخص .

وكما تبين أيضا، فهي لم تكن راضية البتة عن ما آلت إليه الأمور في مصر، من ثورة أسقطت نظاما عميلا لها، وجاءت بآخر إسلامي هو أعدا أعدائها، وأكبر ما تتخوف منه على مستقبلها ومستقبل حليفتها إسرائيل .

ولذلك فقد خططت ومعها عملاؤها من بقايا النظام المباركي الساقط للإطاحة بهذا النظام الإخواني .

وقد بقيت أمريكا على طريقتها المعهودة .....خطاب إعلامي معلن يؤكد على احترام الخيارات الديموقراطية للشعوب، وتدبير سياسي ومخابراتي في الخفاء للإجهاز على هذا النظام الإسلامي الوليد .

هناك من يقول إن أمريكا لم تكن من مخططي هذا الانقلاب، وأن الجيش هو من قام بالتخطيط له مع أطراف إقليمية وعربية .

وأنا أقول إن هذا هراء كبير، فالأطراف الإقليمية العربية هذه، وقيادات الجيش المعينة من مبارك، كل هؤلاء هم من العمالة لأمريكا بمكان لا يسمح لهم بأن يتحركوا أي حركة إلا برضاها وموافقتها، بل وبتدبيرها من البداية .

وقد تكشفت الحقائق يوما بعد يوم، وعرف أن أمريكا هي من مخططي و ممولي الانقلاب مع السعودية والإمارات وإسرائيل والكويت .
وأمريكا هي من أول من اعترف بالانقلاب ضمنيا، وإن لم تعترف به رسميا حتى الآن، وذلك للمحافظة على وجهها الإعلامي العالمي كما قلنا، لكنها لم تدنه أبدا، ولم تدن مجازره التي ارتكبها، بل ولمح قادتها بأن مصر قد استعادت بهذا الانقلاب طريق الديموقراطية الذي سرق منها، وأن أمريكا ستتعاون مع حكومة الانقلاب للإسراع في تنفيذ خارطة الطريق التي رسمها الانقلابيون، أو رسمتها لهم أمريكا بنفسها من قبل .

أمريكا والمشهد الآن .

يدندن الكثيرون حول توتر العلاقات بين أمريكا والانقلابيين المصريين في الفترة الأخيرة .

وهذا له من الشواهد التي تدل عليه، وذلك مثل زيارة السيسي إلى روسيا في حين أنه لم يزر أمريكا إلى الآن، وكذلك حجم التصريحات الأمريكية الضاغطة على الانقلابيين في الفترة الأخيرة حول انتهاكات حقوق الإنسان .

وهذا يفسر بتفسيرين لا ثالث لهما

إما أن هناك اختلاف بالفعل بين الإدارة الأمريكية والانقلابيين في ترتيب المشهد والوضع بعد الانقلاب، وهنا يقول البعض إن أمريكا كانت ترغب في أن يبقى السيسي وزيرا للدفاع على أن ينتخب شفيق أو غيره للرئاسة .

وهذا وارد، ويحدث في بعض الأحيان بين أمريكا وعملائها، عند الخوض في التفصيلات بعد المؤامرات والانقلابات .

لكن لو كان الأمر كذلك، فإن النهاية ستكون تسوية بين الحلفاء على ترتيب هذه التفصيلات، ولن يستطيع الانقلابيون أن يبقوا على غضب أمريكا لفترة طويلة .

والتفسير الثاني لهذا الخلاف الظاهر بين أمريكا والانقلابيين، هو مبالغة أمريكا في التسويق لوجهها الإعلامي الكاذب المناصر للحريات والرافض للديكتاتوريات وللقمع، ولذلك فهي تسوق إعلاميا لهذا الخلاف بينها وبين الانقلابيين حتى لا يحسب الانقلاب عليها صراحة، وحتى لا يستدعي ذلك تنامي عداء الشعب لما آلت إليه الأمور بدافع كرههم لأمريكا، وإدراكهم لحجم تآمرها على بلادهم وعقائدهم .
وهنا يسوق الإعلام المصري المضلل الكاذب لهذا الخلاف الوهمي، حتى يكون ذلك في مصلحة تأليه الفرعون الجديد، الذي سيكون تحديه المدعى الكاذب لأمريكا هو أهم ما سيصنع ألوهيته في عيون المصريين السذج الجهلاء، لتنطلي عليهم اللعبة، وليصنع بهم ما صنع أيام عبد الناصر، الذي ساعدت أمريكا على صناعته، واستخدمته لتمرير مخططاتها الكبرى .
التعليقات (0)