كتاب عربي 21

حول مفاوضات التسوية وقرار وزراء الخارجية العرب

منير شفيق
1300x600
1300x600
لنتوقف أمام تصريح لمن يُسمى كبير المفاوضين صائب عريقات؛ قال فيه أن الجانب الفلسطيني يقبل اتفاقاً انتقالياً إذا شمل الحدود ونسبة تبادل الأراضي والأمن والقدس واللاجئين. وكان لمدة قصيرة لا تزيد على العام.
وأوضح أن "اتفاقية الإطار أكثر تفصيلاً من إعلان مبادئ لكن يجب أن تتحوّل إلى اتفاق سلام كامل في غضون فترة قصيرة تتراوح بين 6-12 شهراً". 

هذا التصريح يفيد بصريح العبارة أن سلطة رام الله برئاسة محمود عباس "تقبل اتفاقاً انتقالياً" وأوضح أكثر أن "اتفاقية الإطار أكثر تفصيلاً من إعلان مبادئ". 

أما ما حملته "إذا" فلا قيمة له. لأن الاشتراط هنا ساقط بسبب خضوعه للمفاوضات الخاصة بالاتفاق الانتقالي، أو "اتفاقية الإطار". فالمفاوضات تجري على قدم وساق بهذا الاتجاه. الأمر الذي يفرض بأن يتراجع الذين تجنبوا، أو هربوا من، اتخاذ موقف يدين المفاوضات، أو يعارضها، أو يحذر من خطرها، تحت حجة أنها "مفاوضات فاشلة". ويقصدون أن الموقف الفلسطيني ما زال عند المربع الذي سبق المفاوضات. ومن ثم لا داعي لأخذ موقف جادّ منه ومنها. 

لنفترض بأن احتمال فشل المفاوضات قد يساوي احتمال نجاحها، أو هو الأرجح. ولكن هل فشل المفاوضات، ولو أخذنا برأي الذين يرجحونه إلى حد اعتباره حتمياً، يعني أن المفاوض الفلسطيني ما زال في المربع الأول الذي سبق المفاوضات.

لقد تضمّن مجرد البدء بهذه المفاوضات تراجع الجانب الفلسطيني عن شرطه بضرورة وقف الاستيطان ليبدأ المفاوضات أي أنه خرج من مربعه منذ الخطوة الأولى. وعندما يعلن صائب عريقات قبول الجانب الفلسطيني بتوقيع اتفاق انتقالي أو اتفاقية إطار يكون قد تراجع أيضاً عن موقف، كثيراً ما أُعلِن وبضجيج، برفض أي "اتفاق جزئي"، فكلٍ من الإتفاق الانتقالي أو الإطاري هو اتفاق جزئي بالضرورة وتعريفاً، وبما لا يقبل التأويل. وهذا خروج آخر من المربع الذي كان يُدينُ مَنْ يقبل باتفاق جزئي تحت أي عنوان وبأي شكل كان. وقد اعتبره محمود عباس بمثابة المحرمات أو الخط الأحمر. 
إلى هنا ولم ندخل بعد في القضايا التي طرحت في المفاوضات الحالية التي ابتدأت في 29 تموز/يوليو من عام 2013. فالتنازلات المجانية هنا أشد فداحة. 

فأول تنازل بدأ بالتفاوض على أساس تكريس خط الجدار بدلاً من خطوط هدنة 1948/1949 أو ما يسمى بحدود الرابع من حزيران، (بالمناسبة إن استخدام عبارة حدود هنا بدلاً من خطوط الهدنة يتضمن تنازلاً خطيراً يرتبط باعتبار حدود دولة الكيان هي تلك الحدود وكذلك حدود "دولة فلسطين").
إن القبول بالجدار يتضمن تنازلاً واسعاً عن أراض ومياه جوفية وتعريض عشرات القرى التي يسرق الجدار أراضيها إلى هجرة سكانها الذين يعتمدون على زراعة أراضيهم. ولكن سرّب أحد المشاركين بأن المفاوض الفلسطيني طالب بتعديل خط الجدار في بعض النقاط. وتمسك بذلك. ولعله قد اعتبر هذا من مآثره متناسياً أن التراجع قد حصل بمجرد مناقشة خط الجدار والبدء منه. 

الشرط الذي أصر عليه محمود عباس هو التمسك بحدود 1967 حسب تعبيره مع قبوله بتبادل طفيف للأراضي أو تعديل طفيف. ولكن عندما يراجع ما كشِفَ عنه من خطة جون كيري موضوع النقاش يفهم منه أن التغيير الطفيف يشمل المستوطنات وما سلبته من أراضٍ ومياه جوفية، كما يشمل الأغوار. فالمفاوضات هنا ذهبت إلى اقتسام أراضي الضفة الغربية بالعمق. فموضوع "حدود 67" أصبحت وهماً كبيراً. فالمفاوضات تدور عملياً على اقتسام أراضي الضفة الغربية. وبلا لف، أو دوران. وإذا نشأ خلاف قد يؤدي إلى فشل المفاوضات فسيكون بسبب نسبة الاقتسام في عمق الضفة الغربية وفي المناطق البعيدة عن "حدود 67". وقد أصبحت "حدود 67" هي نهر الأردن والبحر الميت أي "حدود" الضفة الغربية مع الضفة الشرقية من النهر. وذلك ليجري حولها "تبادل طفيف" للأراضي. وهو الذي سيكون من نصيب المفاوض الفلسطيني عبر الإشراف المشترك على المعابر على نهر الأردن، حيث سيقبل (يرضخ) العدو بمشاركة فلسطينية معه على المعابر مثل "اتفاقية المعابر" التي وقعت عليها سلطة رام الله بين قطاع غزة ومصر. وهي من الفضائح ونموذج للتفريط والمهانة الفلسطينيين. 

لنلاحظ، إلى هنا، تكون المفاوضات لم تقرب من موضوع القدس ولا من "حق العودة" أو وفقاً لتصريح كبير المفاوضين، موضوع "اللاجئين" (لأن استخدام كلمة اللاجئين بدلاً من "حق العودة" لا تحتاج إلى فهم ما تعني). فهي الآن تبحث في الترتيبات الأمنية المتعلقة بالغور، وبكل رؤوس الجبال في الضفة الغربية. وبالحدود مع الأردن بالنسبة إلى القوات الصهيونية، فضلاً عما سيُقتطع للمستوطنات وما حولها من أراضٍ وطرق إلتفافية في الضفة الغربية. 

هذا يعني أن "الجانب الفلسطيني" خرج من مربعه ما قبل المفاوضات بإسقاط شرطَيْ وقف الاستيطان واعتراف نتنياهو بحدود 67، ثم الخوض في كيفية اقتسام الضفة الغربية لتطير الأغوار ونهر الأردن والبحر الميت وأي تماس فلسطيني مع الأردن حتى على مستوى مراكز العبور.
 
ومع ذلك نسمع من الذين ما زالوا يُغطون المفاوضات، من خلال بقائهم في اللجنة التنفيذية، بأنها مفاوضات فاشلة. وذلك بدلاً من أن يحسبوا جيداً ما قُدّم من تنازلات في الأرض والمياه والحدود حتى الآن.

ثم لو فرضنا أن هذه المفاوضات فشلت في الوصول إلى توقيع اتفاق جزئي لأي سبب مثل بعض التفاصيل المتعلقة بسبب الاقتطاع من الضفة الغربية أو بسبب إصرار العدو الصهيوني ("الجانب الإسرائيلي") على انتزاع اعتراف مبكر بيهودية الدولة، أو بالحق التاريخي بيهودية فلسطين، فهل يجوز إراحة بعض الضمائر بأن المفاوضات فاشلة، أو قد فشلت؟ وكان المفاوض الفلسطيني صلباً مستمسكاً بالثوابت. 

حقاً ليس هنالك من أحد، كبعض الفلسطينيين، ينطبق عليه المثل الشعبي: "الذي يُجرِّب المجرَّب عَقله مُخَّرب". ولكن يجب أن يُضاف في تفسير لماذا ذلك العقل مُخرَّب ومُصِّر على تجريب المُجرَّب؟ وهو كون ذلك القوم (المفاوض ومن يُغطيه أو يسكت عنه) قد أصبحوا في وضعية المتوّرِط. 

باختصار نحن أمام مجموعة أو مجموعات تورّطت في ما قدمت من تنازلات تمسّ المبادئ والمنطلقات التي تأسّست عليها حركاتهم و م.ت.ف بل تمسّ حتى ما تبع ذلك من تنازلات في قرارات المجالس الوطنية منذ برنامج النقاط العشر مروراً بإعلان الدولة 1988، إلى اتفاق أوسلو، ثم إلى برنامج محمود عباس الذي ساد بعد استشهاد ياسر عرفات ومفاده "استراتيجية المفاوضات بالرعاية الأميركية، وقمع المقاومة والحيلولة دون أيّة انتفاضة شعبية، ووضع القوات الأمنية التي بناها الجنرال كيث دايتون في حماية الاحتلال والمستوطنات". وهو ما أوصل حتى الآن إلى تقديم تنازلات حُوصِرَ من أجلها ياسر عرفات ثم قُتِل. وما زال الحبل على الجرار حتى وصل الأمر إلى ما أعلنه صائب عريقات من قبول بتوقيع اتفاق انتقالي أو اتفاقية إطار. (وبالمناسبة يبدو أن تفاؤل جون كيري بنجاح المفاوضات لا يقوم على مجرد آمال). 

ذلكم هو الاتفاق الجزئي الذي يحمله جون كيري في جعبته للمفاوضات الجارية، ومن دون أن ينسى التأكيد على تبنيه لشرط الاعتراف بيهودية الدولة ولو في المرحلة القادمة. 

إذا صحّ أن المشكل في العقل المخرَّب جاء من حالة التورّط الذي لا يسمح للمتورِّطين إلاّ بشراء التورُّط بتورُّط جديد وفي الاتجاه نفسه وإلى النهاية المفجعة. بل لم يعد لهم من إنقاذ من الوصول إلى الاعتراف بيهودية الدولة أي يهودية فلسطين إلاّ باندلاع انتفاضة ثالثة وأنفهم راغم. 

أما الذي يصعب على التفسير فهو كيف استطاع المُتوّرِط أن يُورِّط وزراء الخارجية العرب بدعمه في هذه المفاوضات. وهنا علامات سؤال يجب أن تُرسَم على موافقة أمين عام الجامعة العربية وكل من وزيري خارجية مصر والسعودية باعتبار أن القرار (الورطة) ما كان يمكن أن يُقدم مشروعه من دون موافقتهم المسبقة. وبالطبع دون إعفاء الآخرين الذين وافقوا كذلك. 

وبالمناسبة الحجة التي يستخدمها المفاوض الفلسطيني في تراجعاته يعيدها إلى الموقف العربي وضغوطه عليه. ولكن في هذه المرة ليقل لنا من يضغط على من؟ ومن يورّط الآخر؟ 
التعليقات (0)