كتاب عربي 21

حزب النور: في البدء كان الظلام.. واستمر الظلام

ساري عرابي
1300x600
1300x600
لا يبدو لي أن ثمة ما يدعو إلى الحيرة، بخصوص سلوك حزب النور، الذي تفسره نقطة الظلام التي بدأ منها، أو قل بدأت منها الدعوة السلفية الاسكندرانية قبل ذلك، أي نقطة التأسيس على نقد السابق بهدف إثبات الذات، والسابق في هذه الحالة هو جماعة الإخوان المسلمين. فوجود الدعوة السلفية الاسكندرانية في الأساس يقوم على نقد الإخوان المسلمين، وهو وجود يتوهم الطهورية، إلى درجة توهم تمثيل الحق، أو حلول الدين الحق في الذات المُستحدَثة، فالنقد هنا المعمارية التي هي القوام الكامل لكيان يدّعي تجسّد الحق فيه!

إن شرعنة الذات المستحدثة وتبرير وجودها، يقوم على إثبات انحراف السابق، والكدّ في البرهنة على هذا الانحراف، وهو ما يعني أن القائم على هذه المهمة، يتصور امتلاكه القول النهائي فيما هو أصيل وفيما هو منحرف عن الأصل، أو امتلاكه التحديد الناجز لـ "القرآن والسنة بفهم سلف الأمة"، وهو بهذا يملك الحق المطلق في مصادرة أي قول غير قوله، وإخراجه من دائرة الاجتهاد السائغ، فالاجتهاد السائغ ما يحدده سادن "فهم سلف الأمة"، الأمر الذي ينتهي بأيديولوجيا محكمة الانغلاق، بتوثين الذات، والإحالة إلى فهم نهائي قد تحقق في التاريخ، ما يعني أن التحقق التاريخي المتوهم كان تحققًا للوحي، فلا يبقى ثم دور للكدح الإنساني إلا في إدراك حقيقة التحقق التاريخي للوحي، واستعادته، أو إسقاطه عنوة على اللحظة المعاصرة. بمعنى أن خدمة الوحي التي تقوم بها الدعوة السلفية الاسكندرانية هي في حقيقتها مصادرة للوحي، بادعاء امتلاكه، ومنع الناس من السعي إليه، وجور عليه بتحويله إلى متجسد في المدنس، وحال في المتناهي، ومثال مستحوذ عليه، وبجعل التراث والتجربة التاريخية حجة عليه! بل وكذب على التراث والتجربة التاريخية بالمساواة بين المختلفين! بين الشيخ ياسر برهامي والحسن البصري، وبين دولة عبد الفتاح السيسي والدولة الأموية!

تأسست الدعوة السلفية الاسكندرانية على إثبات انحراف جماعة الإخوان المسلمين، وزيغها عن عقيدة السلف ومنهجهم، التي هي حصرًا ما تدّعيه الدعوة السلفية الاسكندرانية، أو أكثر المتنفذين فيها، وأكثر المتحاملين منهم على الإخوان، ويزداد الموقف عتوا إذا اتصلت نقطة البدء هذه بخصومات شخصية، أورثت مرارات بقيت تلحّ على الحاجة إلى الثأر من ذلك السابق الزائع.

تنطوي هذه الأيديولوجيا المغلقة، على ثنائيات حادة متجسدة ومتعينة في ذوات، فالحق النهائي (القرآن والسنة بفهم سلف الأمة) قد تجسّد في الدعوة السلفية الاسكندرانية وانتهى الأمر، والباطل ما سوى ذلك، ولكن ولأن "السابق المنحرف" يقتسم مع "الذات التي تجسد فيها الحق" بعض أسمائه وصفاته ومقولاته، أي وكأن السابق أشرك نفسه مع الوثن، فإن هذا السابق يصير العدو الأساس، ويزداد الإلحاح على عداوته، لكونه أقل انغلاقاً أيديولوجيًا، ما يربك الثنائيات الحادة التي تقوم بين الحق المطلق المتعين في ذات الدعوة السلفية الإسكندرانية، وما سواها من باطل.

باختصار الأيديولوجيا السلفية الاسكندرانية هي أيدولوجيا داخلية، تستهدف الصف الإسلامي، لا بهدف تقويمه، بل بهدف إثبات تجسد الحق نهائيا في الذات، وهي ولأنها كذلك تؤطر حدود التفكير، وتقف على بواباته، فالحق قد تجسد في التاريخ بفهم سلف الأمة، وهو يعود للتجسد في الدعوة السلفية الاسكندرانية، فلا اجتهاد إلا اجتهادها، ومن ثم فإنها لا تسأل عما تفعل والإخوان يسألون، فمهما تناقضت وتغيرت وبدلت وتبدلت، وتلبست ما كانت تعتبر الإخوان لأجله منحرفين، فإن لها وحدها هذا التبدل، الذي لا يظهر في أذهان الأتباع تبدلا وتناقضا، فهي أدرى بالحق لأنها الحق، ولأنها الأدرى بالحق فإنها تختار من النماذج التاريخية وتعيد تأويلها بما يناسب لحظتها البراغماتية.

صار الحق وثنا، أي متجسدا في كيان محسوس، ما يسبي بصائر الأتباع، عن ملاحظة الانحرافات في المقولات التأسيسية، مقولات تبرير الوجود وإثبات الذات واتهام السابق، لأن المقولة حلت في الكيان، الجماعة، الدعوة السلفية، التي تصير بشكل ما طائفة، وقبيلة، يدور فيها ومعها أتباعها حيثما دارت.
يمكن أن نضيف أن الدعوة السلفية الاسكندرانية، عموما تنتمي لتيار فكري يجد نفسه في مواجهة داخل الصف الإسلامي لا خارجه، محمولا باندفاع هائل لاستعادة النموذج المتخيل تحققه في التاريخ، وتبقى مواجهته للآخر الإسلامي حاصلة ومستمرة، حتى مع حصول مواجهات خارجية، ولأن هذا النموذج قد تحقق وانتهى الأمر ووجد من يعرفه بتمامه ونقائه، فليس ثمة معنى للمراجعة والفحص داخل الذات، وإنما المهمة تبدأ خارج الذات في الصف الإسلامي وتبقى فيه، هجوما ونقدا وتزكية، إن كان ثمة ضرورة براغماتية، ما يجعل الدعوة السلفية في انشغال مستمر في الحرب على الإخوان، دون أي اعتبار لمبادئ العدل والإنصاف، وإكرام النفس الإنسانية، فذلك كله مربك للثنائيات الحادة، والإخوان قد استقر أمرهم أن يكونوا من الطرف الثاني الذي هو غير طرف الدعوة السلفية الاسكندرانية التي تجسد فيها الحق.

إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا يهتز طرف لحزب النور بعد قتل الآلاف؟ وأي شيء يجعل المقتولين أقرب إلى حزب النور من قاتليهم؟ فطالما أن الحق تجسد في الدعوة السلفية وحزبها النور، فزوال هذه الدعوة وحزبها يعني زوال الحق!

إذن ثمة تعين مادي للحق، فهو يحلُّ أولا في شيوخ الدعوة السلفية، ثم يتمدد في كيان هذه الدعوة، ما يعني أن مسألة القيام بالواجب أو المواجهة أو التعرض للتضحيات مسقطة أصلاً، ولن تجد في الوحي الذي تحقق في التاريخ في استدالات الشيوخ، إلا نماذج إيثار السلامة الشخصية، وإلباس الصياغات المستحدثة من تلك النماذج لبوس الحكمة، وهو ما يحتاج كثيرا من التأويل والتدليس والحذف والإضافة والكذب، على نحو لن ينتهى إلا بالإساءة لسلف الأمة، الذين تحقق فيهم الوحي كما رآه الشيخ ياسر برهامي! 

هذا التجسيد المادي للحق، يحيل الدعوة إلى قضية مادية صرفة، ترتبط بالظواهر المادية، ظواهر الكسب والخسارة، والنصر والهزيمة في صورتها المحسوسة، والنتيجة المؤكدة بعد ذلك هي تجنب أي مواجهة تتكلف أثمانا باهظة، بل والعمل لحساب الطاغوت طالما تملكت المخاوف المشايخ الذين هم مركز حلول الحق، وتلبستهم حسابات الربح والخسارة، وبعد ذلك يصير الشيوخ ملوكا أكثر من الملك، خدما للطاغوت أكثر مما يأمل الطاغوت، وبتعبير مباشر كما قال نادر بكار إبان 30 يونيو لـ «فاينناشل تايمز»: "محظور أن تفشل 30 يونيو".

هذا النمط من الانغلاق الأيديولوجي، يحمل عناصر تشظيه في داخله، خاصة إذا كان سلفيا، فبدون الآخر المنحرف يحصل المجال للعودة إلى المقولات التأسيسية، وفحص صدق الكيان في التزامها، ما يعني تشكيكا في تجسد الحق في الكيان، وهذا الشك أول الكفر بالوثن، وإذن لا بد من "آخر منحرف" داخل الصف الإسلامي، يحول الاشتباك معه دون العودة إلى داخل الكيان التي من شأنها أن تثير سؤال الصدق، وتنقل الجدل إلى داخل المربع السلفي الاسكندراني، وهو ما تتسم به الطبيعة السلفية عموما، الجدل والتشظي تأسيسا على دعوى رفض المذهبية والتزام الدليل، والشغف بالردود والتخطئة، والهيام بالظهور وادعاء الأعلمية.

والخلاصة: أن شعار حزب النور: "محظور على الإخوان أن ينجحوا".
0
التعليقات (0)