قضايا وآراء

بين الأنظمة والشعوب: مراوحة عسكرية (2-2)

إيمان شمس الدين
لم تعد القوة الإسرائيلية تشكل رادعا- جيتي
لم تعد القوة الإسرائيلية تشكل رادعا- جيتي
وقد اعتبر أيالون في مقالته أن مناطق القتال اليوم باتت لا تقاس بنطاق الأسلحة المستخدمة، ولكن بمدى وصول إشارة الإنترنت، حيث بتنا في عصر يتم فيه نقل المعلومات مباشرة من ساحة المعركة إلى مستهلكي وسائل الإعلام عبر الإنترنت وفي الوقت الفعلي مباشرة، دون فلاتر ترشح الصورة وتغير معالمها وفق الرواية الإسرائيلية.

فالحكم على عدالة حرب لم يعد وفق نقاشات قانونية، ولكن وفق ما ينقل مباشرة من ساحة المعركة من صور وواقع يصل بشكل لحظي لكل المشاهدين دون تشويش. وبذلك أصبح للجمهور المشاهد السلطة في تقرير من هو على حق، ومن ليس على حق، وأي جانب جيد وأي جانب سيئ، وهو ما يشكل ضغطا خاصة في الدول الغربية على تحديد السياسات اللازمة اتجاه هذا الصراع، وترجيح كفة على أخرى، وهو تطور لم يسبق لإسرائيل أن تعرضت له في حروبها السابقة.

ولذلك اقترح أيالون عدة أمور وجدها غاية في الأهمية في صالح التأثير التراكمي للرأي العالمي لآفاق انتصار إسرائيل:

1- إطلاق مسار دبلوماسي يعيد إحياء حل الدولتين، وهو من شأنه تقويض دعم الشعب الفلسطيني للمقاومة وخاصة حماس، ولكي يحدث ذلك لا بد من عملية دبلوماسية تؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.

أصبح للجمهور المشاهد السلطة في تقرير من هو على حق، ومن ليس على حق، وأي جانب جيد وأي جانب سيئ، وهو ما يشكل ضغطا خاصة في الدول الغربية على تحديد السياسات اللازمة اتجاه هذا الصراع، وترجيح كفة على أخرى، وهو تطور لم يسبق لإسرائيل أن تعرضت له في حروبها السابقة
2- تحسين صورة إسرائيل في الغرب مجددا، كدولة تحترم القوانين والمعاهدات الدولية.

3- إعادة الحياة لمسار التطبيع، خاصة مع الدول التي اشترطت في تطبيعها حل الدولتين.

هنا أقول السؤال الذي يطرح نفسه:

- بعد اتفاقية أوسلو ما هي التغيرات التي طرأت على القضية الفلسطينية؟ هل استفاد الشعب الفلسطيني من هذا الاتفاق؟ أم استفادت السلطة والمحتل الإسرائيلي؟

- ثم الحديث عن دولة فلسطينية وهو مطلب بات غربيا وأمريكيا بامتياز لإنقاذ إسرائيل والالتفاف مجددا على خيارات الشعوب أمام ضرورات الأنظمة، وتجربتنا مع هؤلاء تجربة فاقدة لأي مصداقية، وخاضعة عادة لتوازنات مرحلية واستراتيجية تصب في الصالح الأمريكي الغربي الداعم للوجود الإسرائيلي باستماتة، بالتالي ما هو الهدف من الإصرار على قيام دولة فلسطينية الآن؟ وهل هذا الإصرار يأتي للالتفاف على إنجازات المقاومة، ومآلات طوفان الأقصى والمكاسب التي كسبتها المقاومة كنقاط متراكمة ضمن صراعها مع هذا العدو، يصب في صالح معركتها للتحرير، وصالح الشعب الفلسطيني، بل صالح شعوب المنطقة التي في حال انتصرت المقاومة كانت تلك العلة التي ستصب في مسار تحرير إرادتها، وما أظهره هذا الطوفان من ضعف إسرائيلي أمني وعسكري؟ ثم كيف هو شكل هذه الدولة التي باتت مطلبا أمميا اليوم؟ هل هي دولة مكتملة الأركان، لها مؤسساتها المستقلة، وجغرافيتها المستقلة، وجيشها المستقل بكامل عدته وعتاده، ولا تتدخل فيها وبمعابرها البحرية والبرية والجوية دولة الكيان المحتل؟ أم هي دولة حالها كحال اتفاقية أوسلو تصب في صالح الكيان، ومسلوبة الأركان، وهي مجرد شكل هيكلي يقلل من خسائر إسرائيل في هذه الحرب، ويعيد لها موقعها في الفضاء الغربي كما يريد ويذهب إليه أيالون؟

- طبعا يصرح أيالون أن الهدف من هذه الخطوة هو إظهار إسرائيل أنها دولة تقبل بالقرارات الدولية، بعد أن قوّضت كل القوانين والقرارات في هذه الحرب، بما يظهر للعالم أن هدف هذه الحرب ليس الشعب الفلسطيني ولكن حماس، في محاولة منه لتقزيم حقيقة المشكلة الرئيسية وهي الاحتلال غير المشروع، وفصل المقاومة عن حاضنتها الشعبية، ومحاولة تفكيك العقل الفلسطيني المقاوم، وصناعة عقيد جديدة كما يسعى إلى ذلك نتنياهو وغيره من القيادات الصهيونية المؤيدة من أمريكا، هذا إضافة إلى أن حل الدولتين ليس مجرد وسيلة لاستعادة الدعم الدولي، بل من الضروري أيضا تحقيق انتصار سياسي على حماس وضمان أمن إسرائيل على المدى الطويل.

- وقد اعتمد أيالون كدليل على صحة هذا المسار، على مقابلة أجريت في تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٩٧م مع "فلسطين المسلمة"، وهي مجلة شهرية تنشرها حماس، مع الشيخ أحمد ياسين حول آفاق الحرب ضد إسرائيل، حيث اعتبر الشيخ أن حل الدولتين إن أصبح حقيقة واقعة، فإن من شأن ذلك تقويض دعم المجتمع الفلسطيني لمسار حماس المفضل وهو المقاومة لتحرير كافة الأراضي الفلسطينية، وبدون الدعم الشعبي بين الفلسطينيين لن تكون حماس موجودة ككيان عسكري وسياسي. متناسيا أيالون أن ما قاله الشيخ الشهيد أحمد ياسين كان له ظروفه الميدانية والسياسية المختلفة تماما، عن الوضع الحالي بعد طوفان الأقصى، وأن هذا الاختلاف الجوهري هو اختلاف في ميزان الردع والقوة، الذي لم يكن قد تبلور كما هو الآن في الفترة التي أجريت فيها المقابلة، وكانت حينها المقاومة في فلسطين وحيدة يستفرد بها الكيان، وكان الشعب الفلسطيني يقاوم منفردا بعد معاهدات الذل والاستسلام من بعض دول الطوق التي كانت محورية في دعم النضال الفلسطيني، هذا فضلا عن أن جنوب لبنان كان ما زال محتلا، ومقاومته كانت مشغولة بطرد الاحتلال من أرضها.

أما اليوم حماس تقاوم وحولها محورا كاملا يقاتل معها ويدعمها، هذا فضلا عما أثبتته من قدرة وقوة وجدارة في الميدان، يريد أيالون أن يحقق لإسرائيل بالدبلوماسية المقنعة بالقانون الدولي، ما عجزت إسرائيل بجيشها الأقوى في المنطقة عدة وعتادا وتدريبا أن تحققه في ميدان غزة الصغير، واعتبر أن "ياسين" كان على حق، لأن حل الدولتين لن يكون هزيمة لإسرائيل بل انتصارا، واعتبر أن السعي لهذه النتيجة لن يمثل استسلاما للإرهاب وخضوعا للإملاءات الأمريكية، بل إنها أفضل طريقة لتحقيق الحلم الصهيوني بدولة إسرائيل دائمة يهودية ديمقراطية، وفق تعبيره، متجاهلا الفروقات في القدرات العسكرية للمقاومة، وميزان الردع الذي تم عملانيا تحقيقه بعد طوفان الأقصى، وخاصة التطور الأكثر خطورة على إسرائيل في مسارها الردعي، وهو الهجوم الصاروخي المباشر على إسرائيل من قبل إيران، وهو هجوم أوضح حجم الجاهزية التي بدا عليها المحور المقاوم الداعم للمقاومة الفلسطينية، والمدافع عنها.
الهروب إلى الأمام للتخلص من مستنقع غزة ورمالها المتحركة من وجهة نظر أيالون ومن على نهجه، هو الهروب إلى الحلول الدبلوماسية التي عهدناها خلال مسارنا النضالي مع هذا الكيان، وهي التفافات وفق القوانين الدولية التي لا تخدم إلا المصلحة الصهيونية والدول الكبرى، وجل ما تفعله لنا هو التخدير الموضعي أو طويل الأمد خاصة في وعي شعوب المنطقة، وهي عملية تجميل عميقة لصورة إسرائيل

الهروب إلى الأمام للتخلص من مستنقع غزة ورمالها المتحركة من وجهة نظر أيالون ومن على نهجه، هو الهروب إلى الحلول الدبلوماسية التي عهدناها خلال مسارنا النضالي مع هذا الكيان، وهي التفافات وفق القوانين الدولية التي لا تخدم إلا المصلحة الصهيونية والدول الكبرى، وجل ما تفعله لنا هو التخدير الموضعي أو طويل الأمد خاصة في وعي شعوب المنطقة، وهي عملية تجميل عميقة لصورة إسرائيل في الفضاء الغربي الإعلامي والشعبي.

- إن من ضمن الأهداف التي تحدث عنها أيالون من حل الدولتين هو النصر من خلال الدبلوماسية، حيث اعتبر أن القضية الفلسطينية هي محور أي اتفاق إقليمي محتمل، وقد أصرت إدارة بايدن على أن الاتفاق الذي يؤدي إلى واقع الدولتين فقط هو الذي سيمكن من إنشاء كتلة شرق أوسطية معتدلة يمكن أن تكون بمثابة كتلة موازنة لإيران وككلائها "الذين يقفون إلى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته" في كل من غزة، عبر العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن.

واعتبر أن من سيشرف على هذا الاتفاق الدبلوماسي هو كل من أمريكا والغرب، والذي سيشمل التطبيع مع المملكة العربية السعودية ويهدف إلي بناء تحالف أوسع من البلدان السنية المعتدلة، مثل مصر والأردن ودول الخليج، حيث اختصر قرابة مليار مسلم سني من الشعوب التي ترفض أغلبها وجود دولة استعمارية كإسرائيل بعدة دول أغلبها ديكتاتورية، أو شبه سلطوية، ولا يمكنها ادعاء تمثيلها للسنة، بل هي جل ما تمثله مصالحها التي تحفظ لها سلطتها، بينما شعوبها تعاني من الفقر والجهل، والتهميش، هذا فضلا عن أنه عبّر عن ذلك التطبيع بالاعتدال رغم أن التطبيع يساوق الخيانة التي تمثلها هذه الدول المطبعة على خلاف إرادة شعوبها، التي ليس لها غالبا أي مشاركة فعلية في القرارات السياسية أو في الحكم.

فهل ما زالت هذه الدول العربية الراغبة في التطبيع مصرة عليه بعد قيام دولة فلسطينية، رغم أن الدولة الإسرائيلية التي رغبت هذه الدول التطبيع معها لقوتها الاستخباراتية والأمنية وتفوقها في المنطقة عسكريا وأمنيا، كشف طوفان الأقصى حجم ضعفها استخباراتيا، وركاكتها أمنيا، وفشلها عسكريا، حيث عجزت عن حماية مستوطناتها، وعن تحقيق أي هدف في حربها على غزة؟

ثم قال: "لا يمكن لإسرائيل أن تكون آمنة إلا إذا اخترنا الخيار الثاني وشاركنا في مناقشات "اليوم التالي" الدولية. يجب أن يكون الهدف اتفاقا إقليميا يستند إلى قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن 242 و338، اللذين أنشأ إطار "الأرض مقابل السلام" للمفاوضاتالإسرائيلية الفلسطينية،وعلى مبادرة السلام العربية،التي طرحتها المملكة العربية السعودية لأول مرة قبل عقدين من الزمن، والتي توفر مخططا للدول الأعضاء في جامعة الدول العربية لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل. كل هذه الخطط تدعو إلى دولة فلسطينيةإلى جانب إسرائيل، مع ضمانات أمنية قوية".

ولكن مجددا ما هي هذه القرارات، وما هي تفاصيل المبادرة العربية، وما هي الضمانات الأمنية القوية؟ وهل يتناسب كل ذلك مع حجم التضحيات التي قدمها أهلنا في غزة؟ وحجم الصمود والإنجازات التي راكمتها المقاومة في غزة بعد طوفان الأقصى؟ وهل يخدم هذا القضية الفلسطينية؟ أم أنه يحقق لإسرائيل ما عجزت عن تحقيقه في ميدان الحرب، ويقوض تضحيات وإنجازات المقاومة ومن يقف معها؟ وهل سيسمح محور المقاومة بأن تقوض هذه التضحيات والإنجازات لصالح إسرائيل؟ كل تلك الأسئلة هي محل بحث، وهي محل جدل، وهي محورية في أي نقاش حول طبيعة حل الدولتين وأهداف الذهاب إلى هذا الحل من قبل إسرائيل.

إن من أهم إنجازات طوفان الأقصى هو تحقيق ميزان ردع رجحت كفته لصالح المقاومة، وإظهار الحقيقة الاستعمارية لهذا الكيان من جهة، وحقيقة قوته العسكرية التي حكمت منطقتنا وشعوبنا بمنطق التفوق والقوة الردعية لأي محاولات تحررية، من جهة أخرى.
أي حل لا يأخذ في الحسبان هذه الإنجازات المتراكمة بعد طوفان الأقصى، ويقوض فكرة التطبيع، ويعيد قضية فلسطين والأقصى للواجهة الإدراكية في وعي الشعوب؛ لا يصب إلا في صالح إسرائيل الضعيفة عسكريا، والمفتتة اجتماعيا بعد طوفان الأقصى، ويصب في صالح الأنظمة وقبضتها الأمنية في المنطقة
فقد عجز عن تحقيق أي إنجاز في حربه على غزة ذات المساحة الصغيرة، والإمكانات العسكرية المتواضعة أمام آلته العسكرية، سوى ارتكاب المجازر وإظهار بشاعته للعالم الحر، الذي انتفض وبدأت عملية انقلاب الصورة، ورسم معالمها الحقيقية في المجال الإدراكي للشعوب الغربية، التي إلى الآن لم تهدأ، ولن تهدأ في مواجهة المد الصهيوني في مؤسساتها، وفي دولها، وفي إعلامها، وجامعاتها، وهو ما يحاول العدو الالتفاف عليه من خلال حلوله الدبلوماسية.

وهذا فضلا عن أن ما أظهرته المقاومة داخل غزة وخارجها من قدرة وتكتيك حقق لها ميزانا ردعيا، أعاد للشعوب وعيها بذاتها، وبقدرتها على مواجهة هذ العدو، الذي يريد أن يلتف على هذا الوعي مجددا بحلول دبلوماسية تمكنه من إكمال مشروع التطبيع، حيث إن الحل الدبلوماسي يرفع الحرج عن هذه الدول الساعية للتطبيع مع هذا العدو بهدف قدرته علـي حمايتها وحماية عروشها، من خلال خدماته الأمنية، والتي كشف طوفان الأقصى عن ضعفها وعدم تمكنها بالأصل من حماية إسرائيل نفسها من ضربات المقاومة.

إن حل الدولتين الذي يتبناه الغرب اليوم ليس حلا يتناسب طرديا مع حجم الإنجازات التي حققتها المقاومة، ولا حجم التضحيات الكبيرة التي قدمتها غزة، ولا يصب في صالح النضال الفلسطيني، خاصة بعد تجربتنا مع هذه الحلول الدبلوماسية من خلال اتفاقيات السلام التي لم تحقق لأصحابها إلا مزيدا من الفقر والتبعية والاضطهاد والقمع لشعوب هذه الدول، بينما حققت الأمن الاستراتيجي للوجود الصهيوني والتفوق العسكري والاقتصادي.

فأي حل لا يأخذ في الحسبان هذه الإنجازات المتراكمة بعد طوفان الأقصى، ويقوض فكرة التطبيع، ويعيد قضية فلسطين والأقصى للواجهة الإدراكية في وعي الشعوب؛ لا يصب إلا في صالح إسرائيل الضعيفة عسكريا، والمفتتة اجتماعيا بعد طوفان الأقصى، ويصب في صالح الأنظمة وقبضتها الأمنية في المنطقة على حساب مصالح الشعوب مهدورة الحقوق والإرادة.
التعليقات (0)