قضايا وآراء

أين "اختفى" جمهور "الثورة" في تونس؟

بحري العرفاوي
ماذا كانت دوافع الجماهير في ثورة 2011؟- جيتي
ماذا كانت دوافع الجماهير في ثورة 2011؟- جيتي
هذا السؤال يطرحه كثيرون سواء من الذين يتحسرون عمّا فات ويعتبرون أن الشعب قد تخلى عن "ثورته"، أو من الذين يسألون من باب الإغاظة ليؤكدوا بأن المتكلمين في الثورة لم يكونوا ثوريين.

لقد بات واضحا أن الاحتجاجات ضد إجراءات قيس سعيد أصبحت نخبوية؛ يقوم بها قادة سياسيون وعدد من المدافعين عن الحقوق والحريات، ولم تعد للجماهير مشاركة حقيقية في التعبير عن رفض سياسات قيس سعيد رغم سوء الأوضاع الاجتماعية ورغم المحاكمات التي لم يسلم منها حتى نشطاء الفضاء الافتراضي.

ولتفسير هذه الوضعية بعيدا عن التشاؤم وعن الأوهام، علينا فهم دوافع تحركات تلك الجماهير منذ 2011 إن كانت تحركات مقاومة للنظام السياسي القائم يومها أم كانت تحركات سلمية لتحسين الأوضاع الاجتماعية، ثم حتى بعد هروب بن علي ودخول البلاد مرحلة التجريب الديمقراطي، هل كانت تلك الجماهير إذ تخرج للشوارع تريد إسناد الديمقراطية أم تريد الحسم الثوري في الدولة العميقة؟

اعتبار الحراك السياسي الذي حدث بعد كانون الثاني/ يناير 2011 ثورة، سيسمح بطرح السؤال عن مدى وفاء جمهور الثورة لثورته، وسيكون الحديث عن غدر بالثورة أو عن نكاية في الثوريين بعد 25 تموز/ يوليو حديثا ذا معقولية.

علينا فهم دوافع تحركات تلك الجماهير منذ 2011 إن كانت تحركات مقاومة للنظام السياسي القائم يومها أم كانت تحركات سلمية لتحسين الأوضاع الاجتماعية، ثم حتى بعد هروب بن علي ودخول البلاد مرحلة التجريب الديمقراطي، هل كانت تلك الجماهير إذ تخرج للشوارع تريد إسناد الديمقراطية أم تريد الحسم الثوري في الدولة العميقة؟

ولكن علينا أن نسأل: هل كان فعلا جمهور انتخابات التأسيسي ذات تشرين أول/ أكتوبر 2011 جمهورا ثوريا أم كان جمهورا ديمقراطيا؟ يمكن أن يحاججنا صديق بأن الديمقراطية هي ترجمة سياسية للثورة، وبأن الثورة هي أم الديمقراطية، وهو حجاج وجيه نظريا، ولكن السؤال بكل بساطة هو حول مدى ثورية جمهور التأسيسي، وهل كان خروجه المتكرر للشارع دفاعا عن نتائج الانتخابات واحتجاجا على ممارسات التعطيل، أم كان بنيّة المواجهة مع خصوم الديمقراطية وأعداء الثورة؟

أعتقد أن الناس لم يكونوا ينوون مواجهةً مادية مع معطّلي استحقاقات سياسية أنتجتها انتخابات نزيهة، ولم يكونوا يفكرون في بسط الأمن وفرض الشرعية بالغلبة، بل كانوا من خلال حضورهم المتكرر في الشارع يريدون إبلاغ رسالة للداخل وللخارج؛ مفادها أن الديمقراطية لها أنصار كثيرون وأن نتائج انتخابات 2011 و2014 و2019 لا يمكن القبول بإلغاء استحقاقاتها السياسية. فقد شهدت البلاد أحيانا انقسام الشارع بين جمهورين، جمهور مساند لحكومات الفوز الانتخابي، وجمهور معارض يريد إسقاط تلك الحكومات إذ يراها فاشلة اجتماعيا وأمنيا، غير أن الشارعين لم يتصادما لا مع بعضهما ولا مع أجهزة الدولة التي كانت تضبط تلك التحركات الشعبية لمنع الفوضى والعنف.

هذا التوصيف يجيب عن سؤال: أين "اختفى" جمهور "الثورة" بعد 25 تموز/ يوليو 2021؟ فهذا الجمهور لم ينطلق منذ كانون الأول/ ديسمبر 2010 بخيار المواجهة مع أجهزة الدولة، إنما انطلق بخيار الاحتجاج على سياسة الحكومة، ثم إنه بعد دخول المسار الديمقراطي لم يهدد باستعمال القوة في مواجهة أي محاولة انقلابية على حكومات اكتسبت شرعيتها عن طريق الصندوق الانتخابي، فلا يُنتظر من هذا الجمهور إذا أن يخرج عن تقاليد التظاهر السلمي لينتقل إلى مواجهة أجهزة الدولة في الشارع.

جمهور أشواق الثورة كان جمهورا ذا تصور مدني للعمل السياسي، وكان فهمه للثورة أنها ثورة في المفاهيم وفي العلاقات وفي آليات حسم الخلافات عبر الحوار الوطني وعبر صناديق الاقتراع، بعيدا عن أسلوب "الغلبة"، هذا الجمهور تفاجأ بأن ديمقراطيته التي ظلت تحبو طيلة عقد من الزمن لم تقدر على مواجهة خصومها

لقد فهم هذا الجمهور بأنه أمام انتقال من آلية الديمقراطية إلى آلية "الغلبة"، وأن أي خروج عن السلمية سيواجه بالقوة، وقد كان قيس سعيد واضحا جدا في بيانه ليلة 25 تموز/ يوليو 2021 حين هدد من يغامرون باستعمال العنف ضد أجهزة الدولة "بوابل من الرصاص لا حدّ له".

فجمهور أشواق الثورة كان جمهورا ذا تصور مدني للعمل السياسي، وكان فهمه للثورة أنها ثورة في المفاهيم وفي العلاقات وفي آليات حسم الخلافات عبر الحوار الوطني وعبر صناديق الاقتراع، بعيدا عن أسلوب "الغلبة"، هذا الجمهور تفاجأ بأن ديمقراطيته التي ظلت تحبو طيلة عقد من الزمن لم تقدر على مواجهة خصومها، ولم يسمح لها قادة اتحاد الشغل بالتقاط أنفاسها لخدمة الناس وتحسين ظروفهم الاجتماعية، ولم يتعامل معها بعض المهرجين إلا بأسلوب الإنهاك والإلهاء والترذيل، فانتهت ديمقراطية رخوة بلا مقومات ضرورية للحكم فكانت في متناول من ذهب إلى اعتماد آلية "الغلبة"، سواء كانت النية إنقاذا للمشهد من مزيد الانهيار أم كانت شهوة السلطة ونية التفرد بالحكم.

عالم السياسة لا يُحتكم فيه إلى النوايا، إنما يُحتكم فيه إلى الوقائع، ولا يُنتصر فيه بالعاطفة إنما بالاقتدار وبـ"الغلبة".

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)

خبر عاجل