قضايا وآراء

تهافت مفكري العرب

غازي دحمان
عربي21
عربي21
تبدو محيّرة إلى أبعد حدود الظاهرة التي شهدتها السنوات الأخيرة في عوالم الفكر والثقافة والإعلام، والتي تتمثل بانحدار أكاديميين كانت لهم بصْمتهم في انفتاح الثقافة السياسية العربية على أحدث ما أنتجته مدارس السياسة في العالم، وما انطوت عليه من قيم عصرية في نظم الحكم والعلاقة بين الشعوب وحكامها، بما تضمنه ذلك من نقد، وإن كان غير مباشر، لبنى الحكم في العالم العربي وأساليبها، بما في ذلك الفساد، في استمرار العطالة العربية وإضعاف الوحدة الوطنية وتدمير كل فرص التطور.

المفارقة العجيبة، أن ذات النخبة التي كتبت وترجمت ونقلت، والتي كان لها دور في صناعة توجهات جزء كبير من الشباب العربي، الرافضة للاستبداد والمطالبة بالتغيير، قد جرى استخدامها من قبل الثورات المضادة، لإعادة توجيه التفكير العربي ضد الثورات وقيمها، عبر تحميل مرحلة الربيع العربي والفاعلين المؤثرين فيها، مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها مرحلة التآمر على ثورات الربيع العربي، من فقر وفساد وانهيارات اقتصادية وارتفاع معدلات الجريمة وتهتك نسائج الوحدة الوطنية، دون ربط منطقي بين هذه النتائج والمعطيات المتوفرة.

يمارس هؤلاء نوعا من البلطجة المعرفية، بلبوس رغائبي عاطفي إلى أبعد الحدود، تخالف ما سبق أن تناولته أبحاثهم في السياسات العامة والمقارنة، وتحليلهم للأسباب التي تعوّق تطور المجتمعات العربية

يمارس هؤلاء نوعا من البلطجة المعرفية، بلبوس رغائبي عاطفي إلى أبعد الحدود، تخالف ما سبق أن تناولته أبحاثهم في السياسات العامة والمقارنة، وتحليلهم للأسباب التي تعوّق تطور المجتمعات العربية، عبر استخلاصهم للنظريات السياسية الحديثة وما أنتجته الأكاديميات الغربية من مناهج بحث متطورة قادرة على قراءة الواقع بفكر موضوعي علمي لا ينحاز سوى للحقائق.

تنتشر كتابات هؤلاء على طيف واسع من المنابر الإعلامية، من صحف ومواقع إلكترونية وحتى مراكز بحث ودراسات، وليس من الصعب اكتشاف وجود التطابق والتشابه بينها إلى حد بعيد، من خلال تهجمها على فواعل مرحلة الربيع العربي واتهام الخارج بالمؤامرة على الأنظمة العربية، وربط الحراكات العربية بمؤامرات خارجية، ونزع أي صفة وطنية عنها. واللافت أن مستوى التحليل في هذه المخرجات "الإبداعية" وصل إلى حد التسطيح والسفه، في سبيل إثبات صحة المقولات والفرضيات التي يحاول هؤلاء ترويجها وحشرها عنوة في العقول العربية، الأمر الذي يدعو للتأسي على الحال الذي وصلت له هذه النخب.

من بديهيات علم السياسة أن نخب الحكم، بالدرجة الأساسية، هي المسؤولة عن إدارة الأزمات التي تتعرض لها البلاد، وتصبح هذه المسؤولية أكبر في بلاد تتفرد بها فئة معينة في إدارة الحكم، حيث تكون نسبة مشاركة المجتمع المدني والقوى السياسية والأحزاب والنقابات في صناعة القرار متدنية إلى أبعد الحدود، أو غير موجودة في الأصل، وبالتالي فإن مخرجات إدارة الأزمة تقع على مسؤولية هذه النخب، من خلال تبنيها للخيارات المناسبة لإدارة الأزمة والتي قد تشتمل على تقديم تنازلات معينة للمجتمع، يمكن من خلالها إعادة المجتمع إلى حالة الاستقرار. وفي هذه الحالة تتبع أنظمة الحكم ما يسمى بسياسة "إدارة التوازنات" بين الدولة والمجتمع؛ حتى لا يتزعزع الاستقرار وتسقط هيبة الدولة أو يُصار إلى سحق المجتمع ودفعه عنوة إلى السلبية واللا فعالية، وهي نتيجة كارثية على مستقبل العلاقة بين الشعب والسلطة.

ماذا فعلت الأنظمة العربية في إدارتها للأزمات، التي باعتراف نخب الثقافة العربية (قبل أن ترتد على أفكارها) أنها هي التي صنعتها عبر سياساتها غير المتلائمة مع السياسة؟ اتبعت خيارا وحيدا وهو خيار القمع، بدون أي مبرر منطقي، وأفقرت مؤسسات الدولة ودمرت النسائج المجتمعية وزجت بملايين الشعوب في السجون، وقتلت أعدادا يصعب إحصاؤها، ودفعت القوى الحية، وخاصة الشباب والمهنيين والأكاديميين، إلى الغرب بعيدا عن أوطانها، ثم رسمت سياسات أقل ما يقال فيها إنها تؤبّد الأوضاع الكارثية في المجتمعات العربية، خاضت الأزمة بمنطق إما قاتل أو مقتول، إما أن أحكمكم أو أقتلكم، أو نحرق البلد ونقتل الولد، هذا جوهر إدارة الأزمة الذي ابتدعته الأنظمة العربية.

الجواب الأول، أن ما قدمه هؤلاء من أفكار وأنماط سياسية لم يكن الهدف منها الاطلاع على منتجات علوم السياسة والاجتماع العصرية وتشربها من قبل نظم الحكم والفاعلين السياسيين والاجتماعيين، بقدر ما كانت عملية استعراض معرفية لا هدف آخر لها، اُريدَ منها تحقيق مكانة علمية ومعرفية، وأن هؤلاء في الأغلب لم يتوقعوا أصلا أن الشعوب العربية قد تثور يوما للمطالبة بتغيير قيم السياسة وبنى الحكم وطبيعة العلاقات بين السلطة والشعب. والسبب الثاني: أن هؤلاء باتوا جزءا من نسيج الأنظمة الحاكمة

وبعد، هل يغيب هذا المشهد عن عقول مفكري الأزمة أثناء محاكمتهم لمخرجاتها وتداعياتها المهلكة، من الغريب أن من تخصص في "أنظمة الحكم" و"علم الاجتماع السياسي" و"فلسفة السياسة" و"السياسات المقارنة" أن يقرأ المشهد العربي بمنطق الاتهام والتخوين والاتكاء على نظرية المؤامرة؛ اتهام الشعوب بالمؤامرة على دولها وخيانة حاضرها ومستقبلها، ومن الغريب أيضا أن ينعزل هؤلاء عن كامل هموم وأوجاع شعوبهم، ولا يكتفون بذلك، بل يصرون على نكأ جرح الشعوب بمنطق أقرب إلى الشماتة والتشفي.

السؤال الآن: لماذا هذا التحوّل المذهل في مواقف هؤلاء عن قيم السياسة، كما سبق وأن أوصلوها للعقل العربي؟ لا يوجد سوى إجابتين لهذا السؤال: الجواب الأول، أن ما قدمه هؤلاء من أفكار وأنماط سياسية لم يكن الهدف منها الاطلاع على منتجات علوم السياسة والاجتماع العصرية وتشربها من قبل نظم الحكم والفاعلين السياسيين والاجتماعيين، بقدر ما كانت عملية استعراض معرفية لا هدف آخر لها، اُريدَ منها تحقيق مكانة علمية ومعرفية، وأن هؤلاء في الأغلب لم يتوقعوا أصلا أن الشعوب العربية قد تثور يوما للمطالبة بتغيير قيم السياسة وبنى الحكم وطبيعة العلاقات بين السلطة والشعب. والسبب الثاني: أن هؤلاء باتوا جزءا من نسيج الأنظمة الحاكمة في المنطقة ومن الطبيعي أن يدافعوا عن امتيازاتهم وأوضاعهم الجديدة.

twitter.com/ghazidahman1
التعليقات (2)
الواثق بالله
الأحد، 20-08-2023 07:34 م
لا سبيل لأولئك الَّذين ندعوهم «المثقَّفين أو العُلماء » إلا أن يَصْدُروا عن المعنى الأخلاقيّ الَّذي اقترن بنشأة هذا الوصف ، ولا خيار للمتَّصف بهما ، عند العلاَمة إدوارد سعيد، إلا أحد أمرين «إمَّا أن ينحاز إلى صفوف الضُّعفاء، والأقلّ تمثيلاً في المجتمع، ومَن يعانون النِّسيان أو التَّجاهُل، وإمَّا أن ينحاز إلى صفوف الأقوياء». إذا تحوَّل إلى «أداة» في أيدي القابضين على الأمر، كائناً من كانوا ، فسيصبح منافقاً طامعاً في متاع دنيوي بخس و عليه الرقص على الحبال المتناقضة حسب ما يريد المتحكم الذي بيده دفتر الشيكات . هذا التأرجح يطيح بقيمة هؤلاء المثقَّفين و يلفظهم عامة الناس . كان عمرو بن عبيد يحضر مجالس الخليفة أبي جعفر المنصور ، و كان الخليفة يحترمه و يعظَمه لسداد فكره و رأيه ، و في أحدِ المرَات أقسم المنصور أن يقبل عمروٌ هديةً منه ، فأقسم عمرو أن لا يأخذ الهدية و استسلم المنصور لدفع كفارة اليمين لكونه كان مُدرِكاً أنه أمام المثقَّف الحُرّ الأبيَ ، فارتجل شعراً في مجلسه قائلاً (كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ ** كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ ** غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدْ ) أي أن الخليفة تمنى لو كان جميع الحضور مثل عمرو حتى يوُجد في الأمة قادة الرأي و الفكر الأحرار الذين تُبنى بهم الأمم . في زمننا الحالي ، طغى عدد طلاب الصيد عبيد المال و المنصب و الشهرة على عدد الرجال الأحرار الصادقين ففشلت ثورات الربيع العربي و الأمل بالله أن تنعكس الصورة و لسوف تنعكس بإذن الله لأن هذه الأمة موعودة بنصر الله .
موسى الأشخم
الجمعة، 18-08-2023 06:38 م
الذين هللوا لمشروعات عبء الرجل الأبيض لنشر الديمقراطية في المنطقة العربية، مجرد ضاربي دفوف وحارقي بخور للسوبر مان الغربي الذي يعبث بالمنطقة العربية، ويقوم بتركيب خطوط إنتاج لحروب أهلية وطائفية بذريعة نشر الديمقراطية. ولا تنتسب أعمالهم الهزيلة للفكر ولا ينتسبون هم للمفكرين، وإن لمعتهم وسائل الإعلام الغربية بشقيها: الناطقة باللسان العربي كالجزيرة والعربية والحرة والحدث، والناطقة باللغات الغربية كفوكس نيوز والسي ان ان. واذا ما تراجعوا عما قالوا فإن اراءهم لا وزن ولا قيمة لها لأنها مجرد أدوات للدفاع عن الذات والخوف من سطوة المناؤيين للحكومات التي مكن لها الغرب فيما سمي بالثورات الملونة؛ القناع الذي أُلبس لحروب الجيل الرابع وما بعدها.