أفكَار

تحديات مؤتمر "النهضة" التونسية بين الشكل والمضمون.. أسئلة مصيرية

الواقع أثبت أن السلطة الحاكمة وبقية الفرقاء والعالم عموما ينظر إلى الشيخ راشد الغنوشي كزعيم للحركة ومعه تجرى المفاوضات للوصول إلى حلول.  (الأناضول)
الواقع أثبت أن السلطة الحاكمة وبقية الفرقاء والعالم عموما ينظر إلى الشيخ راشد الغنوشي كزعيم للحركة ومعه تجرى المفاوضات للوصول إلى حلول. (الأناضول)
 تواجه حركة "النهضة" التونسية منذ انقلاب الرئيس قيس سعيد على المسار الديمقراطي في 25 من تموز (يوليو) 2021، جملة من التحديات الذاتية والموضوعية.. أما الذاتية منها فتتعلق أساسا بمؤتمرها الحادي عشر المؤجل منذ عامين تقريبا، وجهود التكريس للنسق التداولي على القيادة.. أما الموضوعية فتتصل أساسا بمقاومة الانقلاب والعودة إلى استكمال مسار الانتقال الديمقراطي..

"عربي21"، تنفتح على هذا النقاش، وتفتح الباب للحوار حول التحديات التي تواجه حركة "النهضة" لا سيما بعد اعتزام قيادتها الحالية بالنيابة، على الإعداد لعقد مؤتمر الحركة في الخريف المقبل، وهو ما أثار ردود فعل متباينة ومختلفة، لا سيما وأن رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي ونائبيه في الاعتقال منذ عدة أشهر.. 

أحمد عبد النبي الباحث في علم الاجتماع، وفي تاريخ الحركة الإسلامية التونسية يكتب ورقة في هذا الموضوع، تنشرها "عربي21" تعميقا للحوار وتعميما للفائدة..


                                                           أحمد عبد النبي

جدل نهضوي

ترد إلينا أصداء الجدل النهضوي حول المؤتمر المزمع عقده قريبا، مما يعني أن القرار مرتبط بتوفر شروط معينة. ولأننا لا نعلم بالضبط ما هي تلك الشروط، فإننا يمكن أن نتوقعها من خلال ما يبدو لنا من وقائع، وما نعلمه من الخبرة التاريخية، ومن خلال ما يتطلبه الوضع من مواقف، وما يفرضه الانقلاب الذي يعيشه البلد من محاذير والتزامات وانتظارات.

يبدو للوهلة الأولى أن عقد المؤتمر مسألة لا تقبل كثير جدل، إذ هو استحقاق قانوني يفرضه النظام الأساسي كمرجعية قانونية للحزب. فمن المفروض أن هذا المؤتمر كان عليه أن ينعقد في شهر حزيران / يونيو 2020، وتأخر إنجازه بدون موانع قوية، حتى داهمه الانقلاب. ولكنه الآن أصبح ملحا نتيجة الفراغ الذي أحدثه سجن رئيسه، واحتمال تجاوزه الأمد المؤقت الذي يسمح به النظام الأساسي في إنابته.

لكن الوضع الاستثنائي الذي يعيشه البلد بفعل الانقلاب، والوضع الاستثنائي الذي يعيشه الحزب من حيث كونه الحزب المستهدف الرئيسي من الانقلاب، وكون رئيسه مسجونا في إطار استهداف الحزب من طرف الانقلاب أيضا، يجعل التعامل مع مسألة المؤتمر غير تقليدية.

ذلك أن المؤتمر بصفة عامة كمحطة تجديد أو تداول أو تثبيت قيادي، وكمحطة إقرار لخيارات واستراتيجيات وخطط سياسية، يجعل من قرار انعقاده مسألة تتجاوز التمسك الشكلي بانعقاده.

أولا ـ دروس الخبرة والتاريخ

للنهضة كحركة وكحزب تاريخ وخبرة لا يمكن ولا يقبل جهلها أو تجاهلها. ففي الحالتين لن يكون ذلك مانعا من تأثيرهما على الواقع استحضارا أو استبعادا. وما لا يطفو بالوعي لن يمحى من اللاوعي.

مرت الحركة بثلاث تجارب تستحق الوقوف عندها من أجل استحضار طريقة التعاطي معها والدروس المستخلصة منها.

1 ـ تجربة 81:

بعد الإحاطة بأمير الحركة وغالب القيادة الشورية بين سجن وهجرة، تم الاتفاق بعد تشاور بين من بقي خارج السجن ومن بالسجن ومن بالخارج على الرجوع للقاعدة لإفراز قيادة شورية تتولى إفراز أمير للحركة يتولى بعد ذلك تكوين قيادة تنفيذية. تم استبعاد عقد مؤتمر لأسباب لها علاقة بالوضع الأمني أساسا وربما أيضا بسبب ما يمثله المؤتمر كسلطة عليا وما ينبثق عنه من قيادة وخيارات تأخذ شرعية عليا قد لا تراعي الواقعية.

لقد سهل أمر سد الفراغ القيادي من دون اللجوء للمؤتمر عملية إعادة ترتيب الوضع القيادي بعد المصالحة التي تمت مع النظام وخروج القيادة من السجن وعودة بعض من في المهجر. وقد ساعدت شخصية الأخ حمادي بتجنب الوقوع في ازدواجية القيادة بين علنية وسرية وعدم خضوعه لمحاولة البعض دفعه للاستمرار في مهمته لحين الإعداد لمؤتمر مضموني. أولئك الذين  كانوا لا يخفون تبرما من عودة الشيخ راشد لقيادة الحركة من جديد. ولأجل الخروج بقرار توافقي لعقد المؤتمر تمت الدعوة لمؤتمر انتخابي. يعني أن تقتصر مهمة المؤتمر على انتخاب أمير للحركة ومجلس شورى.

كان الشيخ لا يخفي تبرمه من وضع الازدواجية فهو رئيس الحركة علنيا وقانونيا بالنظام الأساسي لحركة الاتجاه الإسلامي ولكنه ليس رئيسها بموجب النظام الأساسي للجماعة الإسلامية الذي يعتبر الاتجاه الإسلامي واجهة من واجهاتها حتى ذلك الحين.

وقد فوجئ الترابي بحسب الرواية التي أوردها الشيخ راشد أكثر من مرة بهذا الوضع لما كان في زيارة تونس خريف 84 وقبل انعقاد المؤتمر لما طلب لقاء الشيخ على انفراد، وقال إنه بقي على رأس الحركة حتى وهو في السجن وإن كان فعليا لا يقود الحركة حيث هناك قيادة مباشرة إلا أن موقعه كرئيس للحركة بقي بدون تغيير. وهو أمر وقع التعامل معه في تجربتنا بشكلية مفرطة وبتصور "ساذج وتبسيطي" لمسألة القيادة، حيث اعتبر القيادي مجرد فرد في الجماعة عليه أن يؤدي دوره في أي موقع كان ولا يوجد كبير تأثير للموقع. ولكنه في نفس الوقت كان يخفي ذلك "النزاع الخفي" الذي نشأ مبكرا داخل النخبة القيادية وخاصة لدى عدد محدود منها لم تخف تبرمها من قيادة الشيخ للحركة وكانت تحرص دائما على اعتبار موقع القيادة موقعا إداريا لا غير.

وفي ضوء عدم قدرتها على إيجاد بديل لمنافسة الشيخ، فإنها تحرص على مزاحمته لموقعه وجعله مقيدا، مع أن بعض أفراد تلك المجموعة وربما أغلبهم أو حتى كلهم ممن عرفوا بالمحافظة وممن يقولون بالشورى غير الملزمة للأمير الأمر الذي لا يتبناه الشيخ عمليا على الأقل.

ذلك المناخ الذي ولد مبكرا في الحركة وكانت له آثاره، ومنها ما برز في القانون الأساسي للجماعة في نسخته التأسيسية وفي تعديله سنة 81 من خلال ما أقرته النسخة التأسيسية من انتخاب لأمير ونائبه من المؤتمر ومن الفصل بين الشوري والتنفيذي في تعديل مؤتمر 81، استمر يفعل فعله مع الزمن وظهر تأثيره في المحطات اللاحقة.

2 ـ تجربة 87

بعد وصول الوضع القيادي في خريف 87 إلى ما يشبه سنة 81 من حيث الإحاطة برئيس الحركة وغالب القيادة الشورية بين سجن ومهجر، طرحت مسألة تسوية الوضعية القيادية وشرعيتها خاصة أمام تنامي الخلافات والتنازع الذي بدأ يستفحل خاصة بين قيادة المهجر وبين قيادة الأمر الواقع في تونس.

التجأت القيادة في تونس إلى إجراء استفتاء مع القاعدة تم على إثره انتخاب نواب للمؤتمر. انعقد المؤتمر وأفرز رئيسا للحركة وقيادة شورية. ولكن الإشكال حصل بخروج الشيخ بعد المؤتمر بحوالي شهرين من السجن في إطار عملية تفاوضية ومسار متكامل. وجدت الحركة نفسها من جديد في وضع شبيه بوضع خريف 84 حيث لدينا قيادة علنية تعتبر مجرد واجهة من واجهات الحركة وقيادة سرية يعود إليها قانونا الأمر والنهي.

وقد استصحب في ذلك الوضع المناخ القيادي نفسه والإشكال العملي نفسه مع وضع غير متكافئ من حيث القدرات، حيث القيادة القانونية متواضعة الإمكانيات وليس لها من شرعية غير شرعية الموقع القانوني بينما كانت القيادة العلنية تملك القيادة الفكرية والسياسية والمسؤولية القانونية والاعتبارية العلنية. لا بل إن المسار التفاوضي قد أدى إلى تجديد القيادة العلنية مع التقدم بطلب تأشيرة جديدة باسم جديد وبهيئة تأسيسية ومكتب تنفيذي جديد. وقد جرى تثبيت الرئيس القديم وبقي الأمير خارج القيادة العلنية.

ومع ضيق الشيخ بوضع الازدواجية ذاك وطلبه بضرورة حله، توصل مجلس الشورى إلى قرار مطالبة الأمير بتقديم استقالته لكنه رفض ذلك معبرا عن حرجه في القيام بذلك استشعارا للأمانة التي تسلمها من مؤتمر. الحقيقة أن ذلك المناخ الذي تحدثنا عنه داخل النخبة القيادية وخاصة داخل مجموعة من القيادة التاريخية لعب دورا في جعل الأمير لا يعبر عن استعداده في تقديم استقالته. لم يستطع الشيخ تحمل ذلك الوضع فغادر البلاد فزاد ذلك من تعقيد الوضع.

3 ـ تجربة 92

في التجربة الثالثة كان الأمر أكثر استثناء حيث تحول من بقي في القيادة في الداخل وهم لا يكادون يعدون إلى وضع إحاطة لا بل إن القاعدة أصبحت في وضعية إحاطة. وأصبح المهجر الذي كان يعد في ما سبق وضع إحاطة إلى المكان المناسب لقيادة وضع استثنائي وذلك من خلال هجرة عدد لا بأس به من النخبة القيادية ولتواجد رئيس الحركة العلني فيه.

وقد تم استفتاء القاعدة المهجرية وإفراز ممثلين عنها لندوة تقوم بتسوية الوضعية القيادية وقد انبثقت عنها قيادة شورية ورئيس حركة وقرارات تنظيمية استثنائية تعززت من خلال مؤتمر 95 بقرارات سياسية وتنظيمية بعضها ذات طابع استراتيجي.

استطاعت تجربة 92 تجاوز مشكل الازدواجية القيادية حتى خروج دفعات من القيادة التاريخية من السجن والانطلاق في إعادة بناء التنظيم واختيار قيادة تنفيذية وشورية تعمل في البلد بتشاور وتنسيق مع القيادة المهجرية.

كيف لرئيس حزب يدخل السجن متهما باعتباره رئيس حركة معارضة يدافع عنها وعن مشروعها، أن يعتبر دخوله السجن قاضيا بتغييره من موقعه، حتى إذا خرج من السجن، وقد يكون بعيد انعقاد المؤتمر كما حدث سنة 1988، اعتبر فردا عاديا أو قياديا تحت الطلب أو حتى قياديا من درجة ثانية حيث يكون فاقدا لصلاحيات الزعيم القيادي.
وحيث كانت القيادة المهجرية تأخذ شرعيتها من خلال انبثاقها عن مؤتمرات للحركة ومن خلال تواجد رئيس الحركة الذي جمع ما كان يمثل ازدواجية في ما سبق، كانت القيادة في الداخل تأخذ شرعيتها من حيث أنها في داخل تونس وأنها على أرض الواقع. وقد بدأ الداخل مع الوقت ومع ارتخاء القبضة الأمنية متشنفا إلى أخذ شرعيته كاملة خاصة مع تنامي الخلافات في المهجر. لكن الثورة فاجأت الجميع وأدى دخول غالب القيادات المهجرية وخاصة رئيس الحركة إلى توافقات عجلى تحكمت فيما بعد في مخرجات المؤتمر التاسع لم يغب فيها الماضي بمناخاته وتدافعاته بل غلبت على استحقاقات الخروج من السرية للعلنية ومن الحركة السرية للحزب العلني.

إرث الماضي وتحديات الحاضر واختلاف الرؤية وعدم توفر مناخات حقيقية للحوار نزل بكلكله على المؤتمر العاشر وانقسم فيه القوم بين من يركز على التحولات المضمونية الكبرى وتحويل ليس فقط الحركة إلى حزب بل الحزب من حزب إسلامي إلى حزب محافظ لمسلمين ديمقراطيين، ومن يركز على موضوع إدارة الحزب في مقاربة جوهرها كيف نضع للرئيس كوابح تمكن من استثماره ما دامت الحاجة إليه لا زالت قائمة تمهيدا للتخلص منه بعد ذلك. أعرف أن هذا الكلام لن يعجب البعض لكنني أقول ما أراه بدون أي تحيز وبعد طول تأمل وتفكير. ورغم التداول القيادي على مواقع الحركة بين جيل وجيل لكن المناخ القيادي استمر كما هو تشقه تلك النزعات وذلك بسبب الترسبات التي تبقى من خلال التجربة وبسبب المشترك الأنتروبولوجي للشخصية الأساس.

تفيدنا التجارب الثلاث بدرسين رئيسيين: الأول إيجابي وهو النظر لتلك المراحل كأوضاع استثنائية، وأن الحلول التي وضعت لها اتسمت بالاستثنائية، حيث لا تملك أي منها الوضع الطبيعي. لذلك وبقطع النظر عن استراتيجيات التفاعل أثناء الحوار حول الخروج منها كان هناك اتفاق على أنها وضع غير طبيعي.

أما الدرس الثاني فهو سلبي مع الأسف حيث تم النظر للقيادة من جانبها الشكلي ووقعت الاستهانة بالآثار السلبية للإزدواجية والتبسيط المستهين بأهمية وحساسية موقع الرئيس.

ثانيا ـ سياق الوضع الحالي:

يطرح المؤتمر الآن من خلال سياقات أربعة، أحدها ما له علاقة بالمؤتمر العاشر وما أفرزه من جدالات واختلافات متعلقة بالتداول القيادي ومأسسته، وثانيها ما ارتبط بانتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية ترشيحا وإدارة وانتخابا وكذلك بتجربة الحكم التي تمت بعدها وأساسا ترشح رئيس الحركة لرئاسة البرلمان، وثالثها بالانقلاب ودور الحركة فيه مقدمات وأسباب ونتائج ورابعها اعتقال رئيس الحركة ونائبيه الرئيسيين.

للسياقات الأربعة دور يكبر أو يصغر بحسب حجم التركيز الذي يوليه كل فرد في الحركة أو حتى خارجها لتلك السياقات من حيث الأهمية والأولوية والتراتبية. وكل ذلك مع استصحاب المناخ العام وإرث الماضي الذي سبق الحديث عنه.

يبدو المؤتمر استحقاقا قانونيا تأخر إنجازه ولا معنى لزيادة تأخيره. لكن تأخيره اصطدم بمعطيات على الأرض وهي اعتقال رئيس الحركة ونائبيه الرئيسيين. قد يكون التأخير غير مبرر بالمرة وكان على الحركة عقده في وقته ولكن اصطدم عقد المؤتمر بعدم القدرة على حسم الخلاف بين غالب النخبة القيادية التي لا ترى للمؤتمر من معنى إذا لم يتم التداول القيادي على رأس الحركة وعدم استعداد رئيس الحركة لهذا الخيار وفق رؤية لديه طالما عبر عنها ترى أن التداول القيادي ليس مناسبا للأحزاب فضلا عن أنه يرى بلسان الحال في نفسه حاملا لمشروع ومتحملا لأمانة ما زال قادرا على أدائها فضلا عن أن فضاء الحركة لم يرشح لحد الآن من هو قادر على منافسته على هذا الدور، والدليل على ذلك أن كل قصارى جهد النخبة كان ليس تعويضه بل مقاسمته مهمته وخاصة من خلال المشاركة في إدارة المقدرات التي يقوم هو أساسا بتوفيرها للحركة فضلا عما يمثله من استمرارية لمسيرة الحركة والأمين على خطها الفكري والضامن بحضوره القيادي للعلاقات التي نسجتها وبعضها ليست مما يتم تسليمها لخلف بيسر. وبقطع النظر عن مدى تفهمنا لوجهة نظره هذه فإنها معطى واقعي لا يمكن تجاهله والقفز عليه بمجرد اللجوء إلى مسطرة قانونية أو اهتبال فرصة.

تعطينا الخبرة التاريخية العامة دروسا في التعامل مع حالة اعتقال الزعماء أو تهجيرهم. وأغلبها لا تسعفنا بما يمكن أن تكون حالة تسمح بتجاوز تلك القيادة واعتبارها "محاطا" بها على معنى القانون الأساسي القديم للحركة بحيث يجب تغييرها.

كيف لرئيس حزب يدخل السجن متهما باعتباره رئيس حركة معارضة يدافع عنها وعن مشروعها، أن يعتبر دخوله السجن قاضيا بتغييره من موقعه، حتى إذا خرج من السجن، وقد يكون بعيد انعقاد المؤتمر كما حدث سنة 1988، اعتبر فردا عاديا أو قياديا تحت الطلب أو حتى قياديا من درجة ثانية حيث يكون فاقدا لصلاحيات الزعيم القيادي. مع أن الواقع أثبت أن السلطة الحاكمة وبقية الفرقاء والعالم عموما ينظر إليه كزعيم للحركة ومعه تجرى المفاوضات للوصول إلى حلول.

المؤتمر المطلوب هو المؤتمر الذي يهدف إلى تأهيل الحركة كي تكون في مستوى تحدي مقاومة الانقلاب وذلك من خلال مستويين: يتعلق الأول بالاستجابة لتحدي إدارة الحركة، حيث أن اعتقال رئيسها قد ترك فراغا لم يستوعبه النظام الأساسي ومن المفيد والحالة تلك أن يتم تسويته من خلال مؤتمر باعتباره السلطة المخولة لإجراء تعديل فيه.
ويكفي استذكار بعض الأمثلة للدلالة على ذلك ومنها نيلسون مانديلا رغم أنه قضى في السجن 27 عاما والترابي الذي بقي على رأس حركته رغم سجنه وبورقيبة في تجربتي المهجر والسجن وغيرها من التجارب.

وتجربة الحركة نفسها تعطينا درسا في ذلك حيث أن مفاوضات 1988 تمت مع الشيخ سواء داخل السجن أو خارجه، فقد خرج والحركة ما زالت تعرض نتائج مؤتمرها على القواعد، واستمر إشرافه على المفاوضات بعد ذلك في ازدواجية مرهقة ومربكة.

لا بل إن الأمر مربك حتى من الناحية الأخلاقية. فكيف لمن دخل السجن دفاعا عن الحركة، تجرده أنت من مسؤوليته بدخوله السجن، فتضعف حتى موقعه في الدفاع عن نفسه؟ وكأنك تقول له من قال لك تصدى ودافع عن الحركة وعن مشروعها؟

لا بل إن سياق الانقلاب باعتباره أساسا انقلابا على الثورة وعلى طليعتها حركة النهضة، ينصب جهده على تجريد الحركة من عناصر قوتها وليس هناك شك في أن أحد أهم عناصر قوة الحركة هي زعامتها وقيادتها السياسية. وكلنا يعلم الجهد المبذول على أصعدة متعددة من أجل إقناع الحركة قيادة وقاعدة بقبول التخلي عن قيادتها وزعامتها وبعض عمليات الإقناع تتم بمغريات وبعضها من خلال عمليات اختراق وبعضها من خلال عمليات غسيل دماغ وإعادة برمجة.

لا يعقل أن تعمد حركة تواجه انقلابا من أهدافه الرئيسية ضربها والقضاء عليها بل واستئصالها إلى تجريد نفسها من أقوى أسلحتها ألا وهي زعامتها. ولا يعقل لحركة تتقدم قيادتها للسجن في سبيل الدفاع عنها وعن مشروعها أن تخذلها وتتخلى عنها وتستسلم إلى إغراء أعدائها بأن نجاتها في التخلص من قيادتها.

لتكن تلك هي المسلمة الأولى التي لا يمكن المس بها أو زحزحتها عن موقعها في خطة الحركة. لا سبيل للتخلي عن زعامتها المتمثلة في رئيس الحركة ونائبيه.

ثالثا ـ نحو مؤتمر يضيف ولا ينقص ويجمع ولا يفرق:

المؤتمر المطلوب هو المؤتمر الذي يهدف إلى تأهيل الحركة كي تكون في مستوى تحدي مقاومة الانقلاب وذلك من خلال مستويين: يتعلق الأول بالاستجابة لتحدي إدارة الحركة، حيث أن اعتقال رئيسها قد ترك فراغا لم يستوعبه النظام الأساسي ومن المفيد والحالة تلك أن يتم تسويته من خلال مؤتمر باعتباره السلطة المخولة لإجراء تعديل فيه.

والتحدي الثاني هو تحد مضموني بالأساس يتعلق بالاتفاق على خارطة طريق لمقاومة الانقلاب وإدارة الحركة وعلى برنامج بديل تتقدم به الحركة لما بعد الانقلاب. وهما تحديان لا مناص من مواجهتهما ودون التخلي عن أحدهما لحساب الآخر. كل تصور يركز على المسألة الإدارية الداخلية ويهون من الجانب المضموني يسقط في الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه الحركة سابقا.

يمكن للمؤتمر أن يكون عنصر إضافة وقوة للحركة بشرط أن تكون مخرجاته:

1 ـ  تثبيت موقع الحركة في القيادة أو المساهمة المتقدمة في قيادة مقاومة الانقلاب.
2 ـ استعادة لحمة الحركة من خلال الخروج من حالة الذهول والارتباك والاختلاف المفضي للتنازع وانفراط العقد.
3 ـ  تثبيت موقع زعيم الحركة ونائبيه في قيادة الحركة وفي الخارطة السياسية لمقاومة الانقلاب.
4 ـ  تعديل في النظام الأساسي للحزب يستحدث خطة أمين عام للحركة بصلاحيات فعلية لإدارة الحركة مع الاحتفاظ لرئيس الحركة ونائبيه بصلاحيات غير شرفية.
5 ـ  انتخاب مجلس شورى جديد.
6 ـ اعتماد خارطة طريق لمقاومة الانقلاب.
7 ـ برنامج مرحلي متكامل للحكم دستوريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

ويجب أن يكون حاضرا في أذهان الجميع أن المؤتمر مهما كانت ظروف انعقاده وحجم التمثيلية فيه إنما هو مؤتمر استثنائي لمرحلة استثنائية. وعلى القائمين عليه والمشاركين فيه أن يستشعروا مسؤوليتهم في ذلك وأن لا يستهينوا بالحركة تاريخا ورصيدا ومسؤولية وطنية. للحركة تاريخ لا يجوز الاستهانة به وأبناء مشروع لا يمكن تجاهلهم وموقع وطني يجعلها ملكا لكل التونسيين وليست حزبا مجهريا تقليديا يخيل لمن جاءت به السياقات لإدارته أنه ملكه ويتصرف فيه على هواه. وأنا أعجب كيف يمكن لمن يتصدى لإدارة الحركة حاليا من أفراد ومؤسسات أن يتجاهلوا القامات التي قادت الحركة حتى من أولائك الذين آثروا الابتعاد عنها؟

على القائمين على شأن الحركة الآن أن يعوا أنه لا خلاص إلا بالشورى والديمقراطية الحقيقية القائمة على التداول الحر والشفاف للرأي وعلى الاختيار الحر والنزيه للأفراد والخيارات.
لكنني لست غافلا عن أن التاريخ شهد حالات لأحزاب عريقة تم تجويفها وتم سحبها خارج هويتها وتم التلاعب بها.

يدرك كل متابع حتى من خارج الحركة فما بالك بمن داخلها أن خطة الثورة المضادة بأفرعها المعقدة داخليا وخارجيا هي ضرب حركة النهضة إما بحلها أو بتفتيتها. ومن أجل الوصول لتلك الغاية تعمل الثورة المضادة بوسائل وخيارات متعددة وقد تكون متضاربة ومنها تلك التي تعمل من داخل الحركة ذاتها عن طريق عمليات اختراق دقيقة ومتنوعة قد يستعمل فيها أفراد ومجموعات وتصنع فيها مبادرات وخطط يظن أصحابها أنهم يحسنون صنعا وهم في الحقيقة يطبقون خطة الخصم ويسعون لتحقيق مبتغاه. وبعض تلك الخطط تنفذ من قبل أناس يرون في أنفسهم الذكاء الشديد والإخلاص الأكيد الذي يسمح لهم بأن يهتبلوا الفرصة التي أمامهم "لإنقاذ" الحركة كما يظنون وما دروا أن أخطر مداخل الفساد قد تأتي من حسن النوايا ومن الثقة الزائدة عن الحد في الذات.

على القائمين على شأن الحركة الآن أن يعوا أنه لا خلاص إلا بالشورى والديمقراطية الحقيقية القائمة على التداول الحر والشفاف للرأي وعلى الاختيار الحر والنزيه للأفراد والخيارات.

وعليهم مسؤولية إدارة الحوار والمبادرات في مناخ مسؤول يضيق من اللجوء إلى التكتلات والتنابز والمشي بالنميمة وهتك الأعراض فذلك مما يخدم خطة الخصم ولا شك.

الحزب يعج بالرجال والنساء من أهل الخبرة والسابقة والمسؤولية وهم أعلم بمحيط حولهم من أهل المشروع الذين كانوا حتى الأمس القريب يشاركونهم المواقع والمسؤولية فعليهم أن لا يتجاهلوهم لأن المصير واحد.

وليعلموا أن التجارب السابقة وإن كانت تعتورها النواقص إلا أنها نجحت في الحفاظ على الحركة بتوافقات رغم ضعفها إلا أنها استطاعت أن تبقي الحركة في موقع التأثير والريادة. وتلك مسؤولية تلقى على عاتقهم بأن لا تسقط التجربة في زمنهم ولا تخترق الحركة بين أيديهم وأن يضيفوا ولا ينقصوا ويراكموا ولا يفتتوا... والله معهم ولن يترهم أعمالهم، ما أخلصوا النية وسددوا وقاربوا، وشاوروا واستشاروا، وأجمعوا على رأي غالب بعد تداول كاف بينهم.
التعليقات (0)