قضايا وآراء

الأفغاني مرة أخرى

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600
من عجبٍ أنه إذا "تصادَف" اطلاع بعض من يدَّعي الثقافة على مصدر من المصادر الأجنبيَّة "الجيدة" عن السيد جمال الدين الأفغاني؛ تلقَّاه بعين الجهول وبأدوات المعدم، فإمَّا قَبِلَ به على عِلاّته، وإما رفضه بدعوى "المؤامرة" على السيد وتُراثه. ولو كان السيد حيّاً لسَخِرَ من المسلَكين بطريقته اللاذعة، ولأوجعَ المعسكَرين كما كانت عادته - قدس الله سره - مع السفهاء جميعاً!

ولعلَّ المثال الأحدَث على انبهار أشباه المثقفين وأدعياء الفكر بالمصادِر الأجنبيَّة، هو إصدارُ بعضهم - مؤخراً - لترجمة "سيرة السيد السياسية"، التي أنجزتها  - باللغة الإنكليزيَّة - المستشرِقة الصهيونيَّة المُبغِضة: نيكي كيدي. وما ذلك منهم إلا جهلاً بها وبتُراث السيد في آن.

والحق أن المستشرِقة المذكورة قد بذلت جهداً استثنائيّاً في تتبُّع سيرة السيد وحركته -كعادتها في كافَّة أعمالها الأكاديميَّة - وتمخَّض جهدها الدؤوب عن عمل شديد الجديَّة، بادي العناية، يتعيَّن على كل باحث بصير الانتفاع به. بيد أنها تصبُّ هذا الجهد البحثي الممتاز في قالبٍ سامٍّ مشوَّه، قوامه البغضاء والاستخفاف، والتأول المغرِض، ومن ثم؛ تجعل مهمة الباحث العربي والمسلم، الذي يبغي الإفادة من جهودها؛ مهمة شاقة، بل شديدة المشقَّة، وإن كانت واجِبَة على كل مُشتَغِل جادٍّ بسيرة السيد وفكره: أن يبدأ من حيث انتهت هذه الحيزبون.

لكنَّ هذا القالب نفسه يجعل جمهرة كتاباتها غير صالحة للترجمة إلى العربيَّة - على صورتها - بغير تحقيق وتعليق، تدعمهم خلفيَّة بحثيَّة متينة في الموضوع المركَّب، الذي تتناوله. ذلك أن المشقَّة التي يواجهها الباحث البصير للتخلُّص من آثار تحامُلها الشديد على السيد، لن يستطيع القارئ المثقَّف - غير المتخصص - التخفُّف منها بسهولة، وربما يُعجزه ذلك مُطلقاً؛ فيكون نشر مثل هذه النصوص "السامَّة" مُترجمة إلى العربيَّة، كأنه سكبٌ لوقود "معرفة" التبس فيها قليل من الحق بكثير من الباطِل، فوق نار جهل مركَّب وغياب للمنهج، وهو شر عظيم نعوذ بالله منه.

أما دراويشنا العرب، الذين قعدوا عن الدرس والفهم، ويغيظهم أن يجتهد غيرهم، فهُم مساكين؛ يُسبحون بحمد كل ناعِقٍ يمتدح السيد بحسن نيَّة، أو "يُدافع" عنه بكلامٍ مُرسل، ولو كان كلاماً ليس له من التحقيق نصيب. لكنَّهم إذا سمعوا بمخلصٍ يُعيد النظر في تناول السابقين لآثار السيد، ويمحِّصُ "إخراجهم" أو "قراءاتهم" لهذه الآثار؛ تُراهم يُدافعون عن أصنامهم دفاع المستميت، كأنما يَدفعون التُّهمة عن بُطلان الحُجَّة وفقر الأدوات، وضحالة الخيال وانعدام التدقيق... بل ويتستَّرون برعونتهم على التزوير المتعمَّد!
تزوير مُتعمَّد! وإلا ماذا يُمكن أن نُسمي تلاعُب أصحاب النشرات السابقة - لآثار الأفغاني - في ترتيب كتاباته، ونزعها من سياقاتها، وتغيير عناوينها، وحذف ما لا يُعجبهم منها

نعم، تزوير مُتعمَّد! وإلا ماذا يُمكن أن نُسمي تلاعُب أصحاب النشرات السابقة - لآثار الأفغاني - في ترتيب كتاباته، ونزعها من سياقاتها، وتغيير عناوينها، وحذف ما لا يُعجبهم منها، أو ما قد تقعُد أذهانهم عن استيعابه - ولا أقول تأويله - علاوة على جعلهم من جريدة "العروة الوثقى" شركة بين السيد و"تلميذه" محمد عبده، بل ونسبتهم بعض مقالاتها إلى الأخير، سيراً على درب رشيد رضا، الذي "نقل" عن شيخه قوله: "إن الأفكار في العروة الوثقى كلها للسيد [جمال الدين الأفغاني] ليس لي منها فكرة واحدة، والعبارة كلها لي ليس للسيد منها كلمة واحدة"، كأن فكر المفكِّر ينفَصلُ عن لُغته ومُعجمه، بل وكأن محمد عبده نفسه كان شيئاً مذكوراً قبل لقائه بالسيد، حتى يتنحَّى له الأخير ليفعلَ فعلته الشنعاء!

والحق أن جريمة محمد عمارة وسيد هادي خسرو شاهي - بحق آثار السيد وفكره - تبع لجريمة رشيد رضا وفرع منها. صحيح أنه كان يُفترَض بهما الدرس والتحقيق والتدقيق قبل قبول شهادات رضا، أو قبل الاعتماد على الصورة التي رسمها الأخير للسيد، ولعلاقته بتلميذه عبده، علاوة على التأكُّد من حُسن نسبة النصوص إلى أصحابها، وصحيح أن تقصيرهما سببه بالأساس ضعف أدواتهما، بيد أن هذا القعود والاستسهال راجعٌ - في قسم عظيم منه - إلى ثقتهما الموروثة في رشيد رضا، وقبولهما رواياته بغير تمحيص، وذلك بوصفه "الأمين" على تُراث السيد وتلميذه: "الأستاذ الإمام"!

بيد أن أول مطعَن خطير في روايات رضا، وفي الصورة الزائفة، التي رسَّخها في أذهان الباحثين - عن الأفغاني - هي خاطرات السيد نفسها، التي قيَّدها المخزومي، ونُشرَت للمرَّة الأولى في بيروت عام 1931م، قبل وفاة رضا بأربعة أعوام(1). ففي هذه الخاطرات - التي تجاهلها محمد عمارة، وعبَثَ خسروشاهي بمحتواها - يتجلَّى لنا مُعجم جمال الدين الأفغاني ولغته، إذ كان المخزومي يُقيِّد ما يقوله بغير تصرُّف، ومن ثم؛ تصير هذه الخاطرات نفسها مفتاحاً لتمييز أسلوب السيد اللغوي ونسقه الفكري، عمَّا عداه.

غير أن المخزومي رحمه الله لم يكتف بذلك، ولا هو اكتفى باستطراد السيد أحياناً في الكلام عن استعمالاته اللغوية، ومنهجه فيها؛ إذ يُخصص المخزومي بعض هوامشه لتجريد نموذج السيد في الاشتقاق اللغوي، فكأنه يُعين الباحث الجاد على بناء نسق لغوي متفرِّد للأفغاني، وهو النسق الذي يتجلَّى بارزاً بين صفحات الجريدة، حتى ليكشف - لأول وهلَة - زُور ما نُسبَ لمحمد عبده من دورٍ فيها. أضف إلى ذلك أن الجريدة تحفَلُ بألفاظ فارسيَّة صريحة، ونُطق فارسي وفرنسي لألفاظ أجنبية، وألفاظ أخرى عربية لا تطَّرد إلا في مُعجَم الإماميَّة، علاوة على ألفاظ عرفانيَّة/ صوفيَّة صريحة، وهو ما لا يُمكن نسبة أي منها إلى محمد عبده، الذي لم يكن يعرف أيَّة لغة سوى العربية(2)، حتى تعلَّم بعض الفرنسيَّة آخر عمره (توفي 1905م)، بإلحاحٍ من الأميرة نازلي فاضل. كذلك، كانت معرفته العلميَّة بمذهب الإمامية - ودع عنك التأثُّر بمعجمه - معرفة جد سطحية، مثله في ذلك مثل الأزهريين في زمانه. فإذا أضفنا إلى ذلك ابتعاده البُعد كله عن الروح العرفاني، وإليه يُعزَى - هو وتلميذه - إثم فصم صلة الفكر الإسلامي الحديث بالبُعد العرفاني/ الصوفي/ الجواني؛ تجلى لنا استحالة هذا الدور على ضيق أفقه ومحدودية قدراته.
قلَّة اكتراث السيد بالكتابة، لم يكن يعني تركه نسقه الفكري لغيره حتى يصوغه بألفاظ تلميذ، كانت روافده العلميَّة والعقليَّة محدودة نسبيّاً؛ فإن أي باحث متوسط الموهبة في العلوم الإنسانية، يعرِف أن اللغة والفكر صنوان لا يفترقان، بل إن اللغة هي نفسها أحد آفاق الفكر ومحدِّداته

علاوة على ذلك، فإن قلَّة اكتراث السيد بالكتابة، لم يكن يعني تركه نسقه الفكري لغيره حتى يصوغه بألفاظ تلميذ، كانت روافده العلميَّة والعقليَّة محدودة نسبيّاً؛ فإن أي باحث متوسط الموهبة في العلوم الإنسانية، يعرِف أن اللغة والفكر صنوان لا يفترقان، بل إن اللغة هي نفسها أحد آفاق الفكر ومحدِّداته. ومن ثم، فإن قلَّة اكتراث السيد بالكتابة لم يؤثر - عند من عرف نسقه اللغوي - على شدَّة حرصه على إملاء ما يراه ويعتقده على تلاميذه كلمة بكلمة، وتحرير كل المصطلحات والتدقيق في كافَّة الألفاظ - بل واختيار عناوين ما يُنشَر باسمه، كما يُقرر المخزومي في تعليقه على سبب اختياره عنوان: "الخاطرات" - وذلك كما قد يفعل أي مفكر أصيل يحترِم نفسه.

غير أن إقلال الأفغاني من الكتابة، وعدم عنايته كفاية بإنتاجه المدوَّن، قد جعل من الميسور على بعض "تلاميذه" مُصادرته، حتى لينسب عبده إلى نفسه بعض كتابات السيد - أو يسكُت عن فعل رشيد رضا ذلك - ويُتابعه محمد عمارة، ويزيد فيه؛ فكأنه صار من المسلَّم به أن محمد عبده هو "صاحب" العِبارة، لأن رضا "نقل" عنه هذا، بل وكأن هذه "الصلة المكذوبَة" بالعبارات - التي حملت أفكار السيد - تُتيح لـ"صائغها" السطو عليها، ونسبة بعض محتواها لنفسه!

ويبدو أن ثمة اتفاقا ضمنيا - بين محمد عمارة المصري وسيد خسرو شاهي الإيراني، ومن يُشبههم في المشرَب - على الحفاظ على مكانة محمد عبده في نسق الأفغاني لعدَّة أسباب، لعل أهمها خوفهم المَرَضي على مكانة السيد الفكريَّة والدعوية والحركية، أن ينالها كلام عن جنسيته الأولى أو خلفيَّته المذهبيَّة، حتى إن كان الرجل قد تجاوَز هذه البدايات الضيقة، كما يكشف نسقه الفكري- الحركي. ومن ثم، فيبدو أن "ارتباطه" المعتَسَف بتلميذه كان صمام أمان عند بعضهم، لحفظ مكانة السيد، إذ يرتَبِط في وجدان الأغلبيَّة بقامة "سُنيَّة" مقبولة إلى حدٍّ ما، ولو كان تلميذا لم يكتمل تحصيله ولا نَضَج فهمه عن شيخه.

والكلام يطول عن النسق الفكري للسيد، بيد أننا نكتفي بهذه الإشارات السريعة، ونؤجِّل تفصيل ما أجملناه إلى مواطِن أخرى؛ فإن رحلتنا مع نصوص الأفغاني - قدس الله روحه - لا زالت في أولها. لكننا نُذكِّرُ قارئنا الكريم أن موعده يحين قريباً - إن شاء الله تعالى - مع كتابين جديدين من كُتب السيد، بعد تحقيقهما ومراجعتهما وضبطهما على صورة لم تُسبَق منذ قرن أو أكثر، وهما: "تتمَّة البيان في تاريخ الأفغان"، و"الرد على الدهريين"، وستتلوهما - بحول الله - نصوص أخرى أقل شُهرة، بيد أنها ما زالت قيد التحقيق.
__________
(1) نشرتنا الجديدة طبق الأصل من طبعة المخزومي؛ راجع: خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني، تقرير: محمد باشا المخزومي، تنوير للنشر والإعلام (القاهرة، 2020م).
(2) سنتناول نسبة ترجمة رسالة الأفغاني: "الرد على الدهريين" إلى محمد عبده في نشرتنا للرسالة إن شاء الله تعالى (وهي قيد مراحل الإعداد الأخيرة)؛ إذ لم يكن الأخير يعرف الفارسيَّة ولا غيرها، بشهادة صديقه الصدوق ولفرِد بلنت.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

التعليقات (0)