قضايا وآراء

في لعن التلاعُب بالجماهير!

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

إذا كانت الأغلبيَّة مذمومة دوما في القرآن، لأنها لا تصبِرُ على شيء من التكاليف إذا ما تعارَض مع مصالحها الآنيَّة، وإذا كان التعلُّق بالجماهير والتعويل عليها سفه يكادُ يُخرِجُ صاحبه من الملَّة، لا لأن عقليَّة القطيع لا رُشد فيها ولا تُحركها إلا الغريزة فحسب، مما يجعل التلاعُب بها أمرا ميسورا(1)؛ بل لأن تجارب تاريخنا القريب تُثبِت ذلك وتؤكد هذا الناموس القرآني، المطرد في التجربة التاريخيَّة الإنسانيَّة(2). فلعل السؤال المنطقي في هذه الحالة يكون هو: كيف إذن تُعامِل الحركة الإسلاميَّة(3) هذه الجماهير، قياسا على الميثاق الذي عاملتها به الحركة الأولى، إبَّان اللحظة النموذجيَّة للدعوة؛ زمان البعثة وعهد الراشدين؟ وهل يختلِف الميثاق والأدوات عمَّا يجرى عليه الحال فعلا منذ مطلع القرن الفائت، الذي يُمكننا أن نصطلِح عليه بـ"زمن الحداثة الإسلاميَّة"؟

نعم، صار الأمر جد مُختلِف. بل وزاده تعقيدا أن الحركة الإسلاميَّة الحداثيَّة، منذ جمال الدين الأفغاني فصاعدا؛ قد استبطنت تدريجيّا كل آليَّات الحداثة وأدواتها بغير وعي، واستعمَلَت أدوات الإعلام الجماهيري (من صحافة وتلفاز ومذياع ووسائل تواصل اجتماعي.. إلخ) ظنّا منها أنها "تتجاوز" بتلك الأدوات الناموس القرآني الفاصِل في أمر الأغلبيَّة ودورها "الرجعي"، رغم أنها كلها أدوات لم تُصنع ابتداء للبلاغ الحر الصحيح، الذي يصير معه "المتلقي" على بينة من أمره حُر الإرادة في الاختيار؛ بل هي أدوات صُممت ابتداء وحصرا للتلاعُب بالجماهير ومحو إرادتها، وتوجيهها إلى مُراد القائم بترشيد الواقع، ومن ثم؛ عقَّدت هذه الأدوات الأمر وزادت الرسالة الدعويَّة "الحداثيَّة" تلوثا. ولاحظ مثلا تسمية جمهور هذه الأدوات بـ"المتلقي"؛ فهو مفعول به سلبي لا حيلة له إلا التلقي!

وربما سأل سائل: إذا كان "العلم" أو المحتوى الذي يُلقى على جماهير التلفاز والدوريات والمذياع، ومواقع التواصُل الاجتماعي، وغيرها من الأدوات؛ هو "نفس" ما كان يُلقى على من كان قبلنا، فأين الأزمة؟! أليست هذه وسائل نافعة في وصوله لشرائح أكبر؟! نعم، ليست بنافعة؛ وإنما تنشأ عنها أزمة مركَّبة من شقين: أولهما الفصل الكارثي بين "العلم" والتربية، الذي أفضى إلى الغياب الكامل للتربيَّة الوئيدة الناتجة عن العلاقة المباشرة بين الشيخ والمريد، وما فيها من اتصال يغذي الروح ويقوي العزم، بالقدوة المباشرة (ولنا في حضرة رسول الله أسوة)؛ إذ "المتلقي" هنا سلبي بالكامل، ومنفصل عن المرسِل في المكان وربما الزمان، وهو حتى إن كان يُعلق ويستفسر أحيانا؛ فإن ما يتشربه لا وعيه سلبا أكثر بكثير مما ينتبه له واعيا ويتفاعل معه.

وثانيهما هي أزمة بنية أدوات الإعلام الجماهيري الحداثيَّة، وطريقة عملها؛ وما تستتبعه من "عيوب" بنيويَّة كارثيَّة في الرسائل التي تُخاطِبُ بها قطاعات كبيرة من الجماهير بمعارِف مُقولَبَة، لا يصلُح أكثرها بالأصل للخطاب الجماهيري؛ إذ مثلها مثل الفتوى التي تتغيَّر بتغيُّر السياق. وإن هذه الأدوات تصوغ ما يُريد القائم بترشيد الواقع من الجماهير أن يفعلوه صياغة تجعلهم يُقبِلون عليه كأنه خيارهم الحر، وهي صياغة تقتضي التسطيح والجاذبيَّة (وأحيانا الديباجة الدينيَّة لتمريرها!)، أي تقتضي تفريغ "العلم" من مضمونه وجعله موافقا للهوى، مع احتفاظه بدثار "العلم" وسمت "الدين"!!

لهذا، فإن التلاعُب بالرسالة وبالجمهور "المتلقي" يحدث بشكل تلقائي بسبب طبيعة الأداة، حتى إن افترضنا جدلا أن المرسِل "المؤمن" لا يقصِده. وهذا يتجلى بوضوح في الكثرة المفرِطة للارتدادات التي تحدث عن قناعات تشكلت بهذا الطريق، وذلك تصديقا لرؤية الإمام مالك؛ إذ كلما ظهر من هو أجدَل من سلفه، وأقدر منه حُجَّة؛ انصرف له الخلق/ المتلقون بغير وعي، وربما غيَّروا أصولهم اتباعا له، وهم لا يدرون حقيقة ما يفعلون؛ بل لا يدرون الفارق بين الأصول والفروع، ومن ثم فقد تنفصم عُرى الإسلام عروة عروة باسم الإسلام نفسه، فكأنه مسجد ضرار بغير بُنيان!

وقد أدى اعتياد استعمالنا هذه الأدوات بغير وعي؛ والانسياق وراء الأوهام، التي تَعِد بها الكثرة الزائفة؛ إلى نتائج دعويَّة وأخلاقيَّة كارثيَّة، كانت لها انعكاسات اجتماعيَّة ومعرفيَّة ونفسيَّة وسياسيَّة أشد كارثيَّة. إذ أن الكثرة "المؤمنة" التي تأخذ بالعزائم وتتحمَّل مشاق الطريق وهم لا وجود له، ولم يوجد أبدا في التاريخ؛ لأن الكثرة لا طاقة لها إلا على التأشير بإعجاب، أو التعليق استحسانا (بهوى من لا حظ له من علم صحيح!). قد يدفعها الكاتب أو الداعية أو المتكلم المسلم حسن النيَّة إلى قراءة كتاب، أو إلى الاستماع لمحاضرة، أو مشاهدة برنامج متلفز، أو شراء تذكرة لفعاليَّة ثقافيَّة، أو اصطحاب أطفالهم إلى شيء مُسلّ.. إلخ؛ أما الحركة الغائيَّة الحقيقيَّة (الجوانيَّة ثم البرانية)، التي يتغير بها تركيب الإنسان من الأعماق، ثم تركيب الاجتماع الإنساني؛ فأمر دونه خرط القتاد. إنه أمر تلزمه تربية طويلة وئيدة، وهو ما لم تُصمَّم له هذه الأدوات. وهذا أمر يطول شرحه؛ لكن يُلتمَس تفصيله في فيض الأدبيَّات النقديَّة الذي أنتجه الغرب، عن أدوات الاتصال الجماهيري؛ خصوصا خلال نصف القرن الفائت.

إن القرآن لم يذم الأغلبيَّة والأكثريَّة في كل موطن عبثا، وإنما كان في ذلك مخبرا عن الله تعالى بمآلات الخطاب الجماهيري، وما فيه من مخاتلة وتلاعُب بالخلق، وحتميَّة ذلك (مع حُرمته) في كل محاولة لحمل الجماهير الغفيرة على أمرٍ، ولو صدق فيه رأى المرسِلُ بأنه خير محض! بل إن هذا التلاعُب محتوم خصوصا إذا كان باليُسر الذي تتيحه الأدوات الجديدة، حتى صار الحديث عن "ما بعد الحقيقة" وتحليل "الحقائق الكاذبة" جزءا تأسيسيّا من دراسات "الإعلام الحديث"، الذي قوَّض الميثاق الأخلاقي للشرع الشريف.

هذا التقويض الكامل للميثاق الأخلاقي هو الذي يُيسر التلاعُب بالجماهير، ويجعله أحد لوازِم هذه الأدوات. ومهما كثُر الحديث عن "المهنية" و"الموضوعية"؛ فهي مجرَّد شعارات جوفاء يُعيد تعريفها ممول الأداة حسب منظوره وحاجته. هذا التلاعُب لا يدفع الجماهير صراحة إلى الفجور بالضرورة؛ وإنما يكفي مثلا أن يُقنعها بأنها حازت كل الخير ولا ينقصها شيء بعد أن "وصلت"، رغم استحالة علم المرسِل بحال أعيان الجمهور؛ وأنها رغم تردي حالها لم ينفصم من عُرى إيمانها شيء، وهذا عكس التزكية التي يقدمها الشيخ المربي على طول الخط.

وبهذا الوهم، تزيد هذه الأدوات الجماهير قعودا، وحين يزداد إخلادها إلى الأرض؛ تزيد الرسالة تجوفا وسطحيَّة حتى تلائم التغيير الجماهيري الجديد، وهكذا دواليك. ومن ثم، تصير هذه الأدوات سببا ونتيجة بذات الوقت في الترخُّص وارتخاء العزائم، واستثقال الفضائل والمجاهدات، وهي عصب التكليف والتديُّن الحقيقي، لتتحول الرسالة "الدينيَّة" التي يتم بثها عبر هذه الأدوات، تدريجيّا؛ إلى مجرَّد تسويغ للواقع الذي يُفارِق الدين بسرعة. أي تصير مجرَّد تلاعُب هدفه إبقاء الجماهير خاملة هامدة مُعلَّقة بسلاسل الأهواء والشهوات، التي يُفيد منها ممول الأداة. وبما أن هذه الأدوات تصير (نظريّا على الأقل) هي مصدر تلقيه للدين وتعاليمه؛ فإن ما تطرحه على المتلقي مما سوى ذلك يلقى قبوله غالبا بغير كثير تمحيص.

* * *

وقبل أن نسترسِل لختم مقالنا ببعض آليات التغلُّب المؤقت على طبيعة هذه الأدوات، ما اضطُررنا إلى استعمالها؛ يتعيَّن علينا التوقُّف لتعريف الميثاق الأخلاقي، الذي أشرنا إليه في هذا المقال، وفي مقالينا السابقين.

و"الميثاق الأخلاقي التوحيدي" الذي نعنيه، ويجب أن تتبناه أيَّة حركة إسلاميَّة؛ هو عين الميثاق الذي ضحَّى الخلفاء الراشدون بحيواتهم في سبيل صيانته، وهو مستقى من طبيعة التكليف وطبيعة الرسالة المحمَّديَّة نفسها. فبما أن حضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مُبلِّغ ومثل حي يُجسد الرسالة، لم يؤمر بحمل الخلق على الحق المحض الذي أنزل عليه، ولا جامله المولى سُبحانه حتى بهداية بعض من يُحِب؛ يحرُم على كل أحد التلاعُب بالجماهير ولو لحملها على الحق المنزَّل من فوق سبع سماوات، وذلك اطرادا مع التكليف ومع حريَّة الإرادة الإنسانيَّة التي صانها المولى سبحانه حتى من قهره، بل وجعل الشرع كله حارسا عليها؛ حتى ليعجز الفاروق عن حد من تسور عليهم الدار، ووجدهم يشربون الخمر؛ لأنهم استتروا ولم يُجاهروا.

هذا الميثاق الأخلاقي هو أيضا الذي جعل الفاروق عمر يتورَّع عن حبس العبد الذي توعَّده بالقتل؛ احتياطيّا، وجعل الإمام علي يتورع هو اﻵخر عن حبس حريَّة من عرف بأنه قاتله. إن هذا الميثاق وحده هو سبب رشدهم، وقلب حقيقة اتباعهم لحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهو ببساطة تقديم حاكميَّة الشرع (بمعناه الواسع لا معناه الحداثي) على النظام السياسي كله، بل وعلى حياة رأس الدولة نفسها، ولو كان من أصحاب حضرة النبي المقرَّبين، المبشَّرين بالجنة. فلا تتخذ مثلا أيَّة إجراءات أمنيَّة استباقيَّة قد تنتهك حق المسلم وحرية إرادته، مهما كانت نيته ومهما بدا من نيته؛ ما لم يظهر منه تعد صريح لحد شرعي.

وهذا هو الأصل الذي صدر عنه التورُّع عن التلاعُب بالجماهير، وهو عين ما كان عليه الراشدون، ونبذه الأمويون صراحة لحفظ سُلطانهم. نعم، لقد حطموا الميثاق الأخلاقي في سبيل حفظ سلطانهم؛ فسهُلَ عليهم التلاعُب بالجماهير. وقارِن سلوك الإمام علي عليه السلام مع قاتله وهو يلفظ أنفاسه، وسلوك الأمويين مع كل من اشتموا منه مجرَّد رائحة التهديد لسُلطانهم الدنيوي. مع الراشدين كان الشرع الشريف فوق كل شيء، بلا استثناء؛ فخلف من بعدهم خلف رفعوا أنفسهم وأهليهم وبطاناتهم فوق الشرع. وهذا أصل كل فساد.

* * *

يتبقى لنا، في ختام هذا المقال؛ الإشارة إلى ثلاث آليَّات جوانيَّة يتعيَّن على كل مسلم تمثُّلها في استعماله مُضطرا لهذه الأدوات، ليتغلَّب إجرائيّا على فسادها المتأصل؛ حتى يأذن الله بتغيُّر الحال.

أول هذه الآليَّات أن يتحرَّى تمام الصدق، الذي يؤمن هو نفسه به إيمانا راسخا؛ بل لا يُرسِل رسائل يغلِب عليها الظن. والآليَّة الثانية هي تحري الإخلاص وتجنُّب إرسال القول إرضاء لبشر، مهما كانت العاقِبة. أما الآلية الثالثة فهي صدق العاطفة في إبلاغ هذا الصدق الذي أخلصت نفسك في تحريه؛ فإن الشحنة العاطفيَّة التي تحمِلُ الصدق تنقِل "التلقي" الجماهيري من الاستقبال السلبي البارد إلى الانفعال الجواني الحار، ثم من القعود إلى الحركة في مرحلة تالية؛ وإن استغرق ذلك وقتا أضعاف ما قد تستغرِقه تربية الشيخ المباشرة.

وبهذا، لم يبق لنا إلا تناول الآثار الدعويَّة لتوظيف "الحداثة الإسلاميَّة" العشوائي، المفتقِر للوعي؛ لأدوات الاتصال الجماهيري، وثمرته الدعويَّة الكارثيَّة؛ التي تجسَّدت في صورة مائعة هازِلة للدعوة وللدُعاة، فإلى الملتقى.

__________
1- راجع مقالنا السابق، على هذا الموقع نفسه: "فن" التلاعُب بالجماهير!

 

2- راجع مقالنا المعنون: في ذم الجماهير!

3- راجع مفهومنا للحركة الإسلامية في مقالنا، على هذا الموقع نفسه؛ والمعنون: حركة وحركات.. إسلامية.

التعليقات (0)