قضايا وآراء

البوركيني.. وحريتي الشخصية

إيمان عبد المنعم
1300x600
1300x600
على أحد أشهر الشواطئ الإنجليزية، جلست على الرمال أنظر لأمواج المياه التي تحتفل بإطلالة شمس عزيزة في هذه البلد.. كانت تتراقص مع لآلئ شعاع صيفي.

الجميع من حولي يرتدى أشكالا وألوانا وموديلات من المايوهات وملابس البحر، تتنوع بين القطعة الواحدة والقطعتين.. جميع مقاسات المايوهات معروضة على الشاطئ.. ها هي من ترتدي مايوه من قطعتين، وهناك من تشبه ممثلات هوليود يتألقن في ملابس البحر ذات الألوان الزاهية.

قررت أن أشاركهن الاحتفال بإطلالة الشمس على تلك البقعة الملبدة بالغيوم دائما، صعدت إلى حجرتي وارتديت المايوه الخاص بي، توجهت للشاطئ وقلبي يتراقص كالأطفال، بينما تتصارع المشاهد والأفكار بعقلي!!

ما هو رد فعل المصطافين على هذا اللباس وأنا المحجبة الوحيدة تقريبا على هذا الشاطئ؟.. هل سيكون مصيري كمصير عشرات المصريات اللائي ارتدين البوركيني على شواطئ بلادهن؟

تذكرت تلك القصة التي روت بطلتها تفاصيلها المؤلمة؛ تقول إنها ذهبت لمنتجع سياحي ذي الخمس نجوم بمدينة شرم الشيخ المصرية، تستمتع بهدير البحر وصخبه.. قررت أن تجعل من لطمات أمواجه علاجا لإحباطات عام من الانكسارات المتتالية.. استعادت كل أحلامها المؤجلة من عام، وبدأت تتحرك بخطى طفولية نحو المياة، وفجأة صدمها الصوت الآتي من الخلف: ممنوع نزول المياه بهذه الملابس.

توجهت خطوتين للخلف وكأنها تبحث عن مرايا ترى فيها ماذا ترتدي حتى تمنع من نزولها البحر..

سألت بتعجب: ما السبب؟.. جاءها رد مدير المنتجع صارما غير قابل للنقاش.. حاولت أن تدافع عن حقها في النزول للمياه واندفعت مسرعة نحو هدفها بقوة، فإذ بجمهور من نزلاء المنتجع يتضامنون.. ليس معها بل مع مدير القرية ضد تلك السيدة التي ترتدي هذا البوركيني ( المايوه الشرعي).. الجميع يهاجمها وكأنها تتسول المتعة، ولم يشفع لها وجود أطفالها الصغار معها.

هذا المشهد تكرر بأشكال مختلفة هذا الصيف في عدد من القرى والمنتجعات السياحية في عدد من الدول العربية، ومنها مصر والجزائر وتونس، وجمعيها تنضوى تحت مسمى الدول العربية والإسلامية، بل ووصل الأمر إلى ما نشرته بعض الصحف المصرية منسوبا لوزارة السياحة؛ بمنع البوركيني، واعتبره بعض مسؤولي الفنادق والمنتجعات السياحية بأنه لباس يسيء للمظهر العام.

هو الخلاف المتجدد كل صيف حول البوركيني منذ أن كان يعرف بالمايوه الصيني قبل ثلاثة عشر عاما.

وكان لهذا الخلاف منحنى تصاعدي بدأ مع إعلان دافيد ليزنار، عمدة مدينة كان الفرنسية، بمنع البوركيني على شواطئ الريفيرا الشهيرة قبل أربعة أعوام.

موقف عمدة كان لا يختلف كثيرا عن موقف زوجي ذي المرجعية الإسلامية والمتشدد في تقدير العديد من المسائل الخاصة بي.. زوجى كان يرى البوركيني مسيئا للمظهر العام ولا يليق بالمحجبات ارتداؤه.. وفِي بعض الأحيان كان يعتبره زيا منسوبا لفئات دُنيا من المجتمع.. في الوقت ذاته كان يحرم علي نزول مياه البحر بملابسي العادية، فهي تشف الجسد بمجرد ملامستها أمواج البحر.. ومن يعرفني يعلم كم أعود إلى طفولتي عندما أرى مياه البحر.

ظلت هذه المشاعر تضرب برأسي خلال عودتي للشاطئ.. ما زالت أخشى وأشعر بالحرج، ومن ردات فعل غير متوقعة..

كان الشاطئ يعج بالمصطافين، فالأيام المشمسة معدودة في هذا الصيف.. لا تجد موضع قدم، وغصت الرمال بمقاعد ومظلات المصيفين، إلا أنه سرعان ما تبددت مخاوفي.. الابتسامات المتبادلة مع البعض كانت أشبه بالتحية الداعمة أو المؤيدة..

وبدأت خطواتي الثقيلة تزداد رشاقة مع الوقت، نزلت المياه وتعرفت على عدد لا بأس به من سيدات يلعبن مع المياه كما يلعب الأطفال..

تساءلت بعضهن عن خامة البوركيني، بل طلب بعضهن استخدام حاسة اللمس للتأكد منه.. سارعت بعض النساء المسلمات للسؤال عن منافذ بيعه في بريطانيا بعدما أبدين إعجابهن بالفكرة.. بينما اعتبرت بعض البريطانيات البوركيني فرصة لعدم حرق الشمس أجزاء من أجسادهن. وصارحتني أحداهن والتي تعود أصولها لإحدى الدول العربية برغبتها في شراء شبيه له بنصف أكمام ونصف بنطال (شورت) لكنها كانت تخشى الانتقاد، لكن رؤيتها لي شجعتها على شراء ما تريد..

هذا لا يعني الغياب الكامل لنظرة الاحتقار، لكنها تتوارى وسط حالة القبول للبوركيني.

ظللت يوما بالكامل على هذا الحال.. لكن المؤلم بالنسبة لي أن يمنع اللباس البحر المحتشم في بلادي، بلد الألف مئذنة! وتتقبله بلاد تختلف مع قيمنا وتقاليدنا بشكل كبير.

لعلي أفهم موقف فرنسا من ملابس المحجبات وإن اختلفت مع مبادئها، لكن لعل العمليات الإرهابية التي ضربتها خلال الأعوام القليلة الماضية ونسبت لبعض المسلمين وراء الموقف المتعصب ضد ملابس المحجبات.. لكن بالطبع مثل هذه القرارات التي اتخذتها تتنافى ومبادئ الحريات التي تدعو إليها.

ولا أفهم بعض المنتمين للتيار الليبرالي العربي الذين ينتقدون حق المرأة في ارتداء المايوه الشرعي.. فبأي حريات وبأي مبادئ تتشدقون ليل نهار، ومع اختبارات حرية الحجاب وارتداء ملابسه تقفون لها بالمرصاد؟

لا أفهم ما هو مبرر دول إسلامية في منع مواطنيها من ممارسة حقوقهم وارتداء واعتناق ما يريدون.. قضية البوركيني تكشف عن اختلاط أوراق السياسة بالدِّين.. والحريات بالمطامع.. والاختيارات الشخصية بالمصالح.

قد يراها البعض قضية هامشية وعابرة، والحقيقة أنها قضية تضرب ملف الحريات في مقتل.. فالنظام الذي لا يسمح للمرأة بارتداء ما تريد.. هو ذاته التي انتهك عرضها، وهو النظام الذي يقتل النساء ويعتقلهن ويرمي بهن في السجون.. بينما الأنظمة التي تحترم الحريات تطلق المساحة للبوركيني على شواطئها.
التعليقات (1)
هدانا الله وإياك
الخميس، 23-07-2020 09:45 م
لا شك لي أن لكل شخص حريته في عرض ما يراه من آراء وارتداء ما يشاء من لباس فالله سبحانه هو حسيبه، ولكن عندما يكون لهذا الشخص انتماء لتيار إسلامي عام كما هو الأمر في حالة الكاتبة هنا هي وزوجها فإن تصرفاتها لا مناص من أن تشكل حكماً على هذا التيار ويُستشَهد بعد ذلك بأرائها في تبرير الخروج على قواعد الشرع الحنيف واتهام هذا التيار بالخروج على قواعد الإسلام والتشبّه بتصرفاتهما. فأن تصور الكاتبة ارتداء النساء في انجلترا لمايوهات البحر بالمهرجان الذي يحقق حرية كل من يشاركن فيه بألوان هذه المايوهات وأنواعها المختلفة، فهي تعرض الأمر كما لو أنه ليس فقط طبيعياً بل ويستحق التشجيع، خاصة وأنها تنتقد زوجها "ذي المرجعية الإسلامية" والمتشدد الذي لم يكن يريد لها أن ترتدي هذا البوركيني لأنه لا يليق بالمحجبات. وهذا يُترجم بأن كل من يعترض على هذه المسائل الخاصة بلباس المرأة المنافية لتعاليم الإسلام إنما يوصف بالتشدد ولأنه ذو مرجعية إسلامية. أما محاولته عرض المسألة على أن هذا البوركيني خاص بطبقة دنيا فهذا يدل على أحد شيئين: إما أنه طبقي يحتقر الطبقات الدنيا التي ترتدي هذا البوركيني فيُكرّه زوجته فيه لهذا السبب أو أنه يعرف أن زوجته (الكاتبة) طبقية تريد أن تترفع عن هذه الطبقات فيأتي إليها زوجها من وجهة النظر هذه. في حين أن مخترعة هذا البوركيني هي استرالية من أصل لبناني أي أنه جاء من البلدان "المتقدمة". كلمة أخيرة، هي أن البوركيني الذي هللت له الكاتبة يصبح بشعاً عندما ترتديه معظم المصريات لأنه يصف الجسم وصفاً بارزاً فيبرز المفاتن بشكل لافت فيسبب الفتنة. لو كانت الكاتبة تتسامح في تجاوزها هذه الحدود الشرعية فعليها على الأقل ألا تسيء إلى التيار الإسلامي الذي انتمت إليه هي وزوجها في حقبة من الزمن لآن تصرفاتهما وأراءهما ستُحسبان على هذا التيار وتنتقصان من رصيده. هدانا الله تعالى وإياكم.