قضايا وآراء

شكل العالم بعد كورونا

غازي دحمان
1300x600
1300x600
ينشغل العالم، بكليته، في البحث عن مخارج من أزمة جائحة "كورونا"، التي تكاد تعطّل الحياة البشرية، وتفرض العزلة على مليارات البشر. ومع استفحال الأزمة وانتشارها بشكل واسع، وخاصة في المراكز التاريخية للصناعة والتكنولوجيا ورأس المال: أمريكا وأوروبا والصين، وهي الأطراف ذاتها التي ساهمت بشكل كبير في صناعة النظام الدولي الحالي، وشكلت معظم تفاعلاته السياسية والاقتصادية، بدأت تظهر تساؤلات عن شكل العالم القادم بعد كورونا.

من بين النقاشات الدائرة بين الكتاب والمفكرين، ما إذا كانت الأوبئة أم التطورات التكنولوجية هي التي تغيّر مسارات التاريخ وتصنع التغييرات الفارقة في التاريخ البشري، في محاولة لاستشراف طبيعة اليوم الذي يلي زوال كورونا، وما هو الشكل الذي ستظهر عليه التفاعلات العالمية بعد الهزة العميقة التي اجتاحت أركان العالم ومفاصله.

المستهدف من هذا النقاش، وتلك التساؤلات، هو معرفة مصير ومآل العولمة التي تعتبر أهم ظواهر عصرنا، وما إذا كانت ستتراجع وتنتهي هيكلياتها، مثل منظمة التجارة الدولية والأسواق الموحدة، وتنتهي معها أنماط الحياة التي أفرزتها، حركة التنقل الواسعة للأفراد عبر الحدود المفتوحة، وكذلك نمط الحياة القائم على الاستهلاك، وعولمة القيم والعادات والاستجابات، وذلك في ظل بروز أصوات لليمين القومي، وخاصة في أوروبا، تقول إن المرض سببه خارجي، والعلاج يتم عبر تشديد المراقبة على حركة السفر والهجرة واللجوء، بالإضافة طبعاً إلى إنهاء الاعتماد على الخارج، أو التخفيف منه إلى أبعد الحدود، في سد الاحتياجات الاستهلاكية، والاعتماد بدلاً عنه بالإنتاج القومي.

على أهمية هذه السجالات، والتي رافقتها تكنهات كثيرة عن اقتراب نهاية العولمة، فهي لا تعدو كونها افتراضات، لا يوجد ما يؤيدها في الواقع العملي. فالعولمة نموذج فوق أممي، لم تصنعه الدول، وبالتالي لا تستطيع التحكم به، أو إلغاءه، إنما صنعته التطورات التكنولوجية وحوّلته إلى واقع مفروض ومعاش. ورغم أن هذا النموذج واجه حرباً سياسية شرسة، من قبل تيارات يسارية ويمينة وقومية، إلا أن ذلك لم يؤثر على مسار حركية هذا النموذج الذي سار بخط متصاعد منذ نشأته، ما يجعله نموذجاً قائماً بذاته، له ميكانزماته الخاصة التي لا تتأثر بما يدور في عوالم السياسة.

تحتاج جميع الأنظمة السياسية لاستثمارات العولمة، فالنخب الاقتصادية المؤثرة لم تعد وطنية، منذ زمن بعيد، بل هي نخب متعولمة، تصعب إعادتها إلى شرنقة الوطنية. هذه القوى تملك تأثيراً أكبر من السياسيين العابرين، وحتى في المجال السياسي نفسه تزاحم السياسيون في الفعالية والتأثير، عبر امتلاكها ممثلين في البرلمانات ومؤسسات الدولة الاقتصادية. ولا يستطيع صانع القرار السياسي معاداتها، لأنها تملك الإعلام والتكنولوجيا وملايين العمال.

لا خوف على العولمة من كورونا، فالعولمة لديها القدرة الذاتية للدفاع عن نفسها، على العكس من ذلك، المرجح أن تتوسّع مجالاتها وميادينها وسطوتها، وذلك نتيجة تركّز الثروات بشكل كبير في أيدي الفئات التي تشكّل أركان العولمة. فالواضح أن تأثير أزمة كورونا ستكون له انعكاسات كبيرة على الشركات والمنشآت المتوسطة والصغيرة، الأمر الذي سيترجم إلى ضعف في الطبقات المتوسطة والفقيرة، التي ستضعف قدرتها التفاوضية وفعاليتها الاجتماعية لصالح قوى العولمة، ذات الراساميل الكبيرة والعابرة للحدود.

ورغم إعلان العديد من الدول عن رصدها لمبالغ مالية كبيرة لمعالجة تداعيات كورونا في مجال الأعمال والاقتصاد، لكن ليس بالضرورة توزيعها بشكل عادل. هل تم تقديم العلاج بشكل عادل على جميع المصابين بفيروس كورونا؟ يمكن إدراج تعامل كل من إيطاليا وإسبانيا الذي قام على أساس تفضيل من يحق له العلاج، من منطلق الجدوى، ذلك أن الصغار في العمر الذين جرى إعطاؤهم الأولوية في العلاج، ما زالت لديهم فرص في الحياة، في حين أن كبار السن استنفدوا جميع فرصهم؛ علاجهم غير مجد، كذلك سيجري التعامل مع الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تحطمت بسبب أزمة كورونا وسيرى، أصحاب الشأن أن علاجها غير مجد.

أثبت كورونا أنه عدو الأجساد الهشة والضعيفة، التي أنهكتها الأمراض المزمنة، حيث يفتك بها دون رحمة، فهو يضاعف التحديات التي يواجهها الضعفاء، وهو في الاقتصاد ستكون له تداعيات خطيرة على الدول الهشة اقتصادياً وسياسياً، ويبدو أنها ستحتاج لمعجزات كي تقف على أقدامها بعد إعصار كورونا.
التعليقات (0)