صحافة دولية

أتلانتك: كيف كشف شراء الذعر المشكلة مع العالم الحديث؟

أتلانتك: الناجون من الكوارث والحروب والمجاعات يصبح لديهم ميل لتخزين الطعام- جيتي
أتلانتك: الناجون من الكوارث والحروب والمجاعات يصبح لديهم ميل لتخزين الطعام- جيتي

نشرت مجلة "ذي أتلانتك" مقالا للكاتبة هيلين لويس، تقول فيه إن الوباء أظهر هشاشة الأنظمة في مواجهته.

وتبدأ لويس مقالها، الذي ترجمته "عربي21"، بالقول إنه "في الوقت الذي ملأت فيه صور رفوف المتاجر الفارغة صفحات مواقع التواصل الاجتماعي هنا في بريطانيا، شجب الناقدون زملاءهم المواطنين واتهموهم بالأنانية والطمع وطالبوهم بالتوقف عن شراء الذعر". 

 

وتقول الكاتبة: "لكن مهلا، هل صحيح أن جموعا من البريطانيين الأنانيين قام كل واحد منهم بشراء 90 علبة من سمك التونا؟ بعد أن انقشع ضباب الذعر، الجواب واضح. لا، وما تظهره البيانات هو تغير صغير في عادات الشراء من أقلية من المشترين، وهو ما أثار عناوين حول الرفوف الفارغة، وهو ما جعل الآخرين، منطقيا، يغيرون تصرفهم، وذلك أدى إلى مشكلات إمداد قصيرة الأمد، (مثلا لم أجد بيضا في أي من السوقين القريبين مني في جنوب لندن)".

 

وتضيف لويس: "يمكن لأي طالب اقتصاد أن يخبرك بأن سلاسل الإمداد تعتمد على نظام الطلبات المبرمجة (حيث يتم طلب الكميات المحتاجة فقط)، وبالنسبة للأسواق البريطانية فإن الإنتاج مبرمج بحسب الطلب على السلع، وذلك لئلا تبقى البضائع في المخازن ولا تتلف، وخلال هذه الأزمة لم تنفد البلد من السلع الضرورية، مثل ورق التواليت، لكن الصعوبة هي في إيصالها للأسواق بالسرعة اللازمة".

 

وتشير الكاتبة إلى "أن للأزواج والعائلات في المدن، على عكس آبائهم وأجدادهم، نسختهم من الإمداد المبرمج، فهم يشترون زجاجة الحليب في طريقهم للبيت من العمل، ويشترون علبة فيها 6 بيضات من دكان محلي، بدلا من قيادة السيارة إلى سوق كبير في أطراف المدينة لملء ثلاجتهم لأسبوع، وهذه المقاربة منطقية، فالبيوت والشقق الجديدة كلها تصغر حجما على مدى عقود، وبعض العائلات، ببساطة ليس لديها مكان لمجمدة بحجم كامل، وعدد أقل منا لديه سيارة، حيث أن اقتناء سيارة في المدينة مكلف، خاصة إن لم يتم استخدامها إلا قليلا، بالإضافة إلى أن البريطانيين الشباب يتناولون وجباتهم في الخارج أكثر من السابق، ولذلك مثل الأسواق، فهم لا يريدون تخزين ما يزيد على حاجتهم".

وتؤكد لويس: "هذا النظام المبرمج ملائم في الظروف العادية، ومع ذلك فهو كما اكتشفنا خلال الأسابيع الماضية، هش".

 

وتلفت الكاتبة إلى أن "الحكومة نصحت هذا الشهر كل من يشعر بأعراض الإصابة بفيروس كورونا بقضاء سبعة أيام في عزل شخصي، ومثل كثير غيري قرأت هذا التوجيه ونظرت داخل ثلاجتي وانتابني الخوف، ورحلتي التي تلت ذلك إلى السوق لم تكن دليلا على التخزين، لكنها إثبات بأن نظام الإمداد السابق الذي أعتمد عليه في بيتي كان فعالا، وأن التغير في الظروف هو الذي اقتضى تغيرا في التصرف".

 

وتقول لويس: "لسوء حظنا جميعا فإن الكثير فعلوا ذلك، وقال رئيس قسم بيع التجزئة ودراسة المستهلك في شركة (كانتار) لأبحاث السوق، فيرزر ماكيفيت: (النقص المؤقت تسبب به قيام الناس بزيادة قليلة في مشترياتهم وزيادة زياراتهم للأسواق)، وأظهرت دراسة للشركة أجرتها على 100 ألف متسوق بريطاني أن 6% من الذين اشتروا الصابون السائل و3% من الذين اشتروا الباستا (اشتروا كميات غير معقولة)".

 

وتجد الكاتبة أنه "مع ذلك فإن زيادة قليلة غير متوقعة في الطلب كانت كافية لتولد صورا لرفوف أسواق فارغة في المدن، وعندما كبرها الإعلام التقليدي، اقتنع المزيد منا بأن هناك مشكلة في الإمدادات الغذائية، وكما يحصل عندما تكون هناك شائعة بأن مصرفا ما افتقد سيولته.. تحول التصور إلى واقع، وبدأت تتكون صفوف طويلة خارج الأسواق، وأصبح هناك دور طويل على توصيل البضائع المشتراة عبر الإنترنت". 

 

وترى لويس أن "ما حدث في الأسواق يستحق إمعان النظر، لأنه يكشف عن مشكلة في أكثر المفاهيم في العالم تقديسا: الفعالية، ففي الوقت الذي تسعى فيه الشركات والحكومات إلى هوامش أصغر -فعالية أكبر- أنشأت أنظمة دقيقة لكنها حساسة، وكثير هم المذنبون في الغرق في هذا التوجه الذي شجعته شركات وادي السيلكون، وكتبت الصحافية لوكس البتروم لمجلة (كوارتز) في 2017: (لا تزال فلسفة القطاع التكنولوجي تميل إلى التعامل مع عقل الإنسان وجسده على أنهما ماكينة يمكن أن يتم تعديلها بدقة وتحسينها لتعمل بأعلى فعالية)، لكن هذه فلسفة لا إنسانية، فالبشر ليسوا ماكينات، فنحن بطبيعتنا لسنا فعالين، بآبائنا المسنين وأطفالنا المرضى والضغوط النفسية والأمراض المزمنة وحاجتنا للنوم والطعام، وكما أظهرت الأشهر القليلة الماضية ضعفنا أمام الفيروسات الغريبة".

 

وتقول الكاتبة: "لقد تم تدريبنا على أن نرى الفعالية هدفا مرغوبا، وعادة لا نرى أو لا نعترف بخطر الانهيار الكارثي، ولو نظرنا إلى الفعالية على أنها محرك عالي الأداء، ففي الظروف المثالية يعطينا المحرك أقصى طاقة بأقل قدر، لكن تلك الفعالية هي التي تجعله أقل متانة، فالأنظمة الفعالة جدا، لا يوجد فيها مجال للتراخي، ولا توجد فيها زيادة، ولذلك ليست فيها مرونة ولا إمكانية زائدة، وهذه مشكلة لأن الظروف المثالية قليلا ما تتوفر في العالم الحقيقي وتحصل فيه أحداث (نادرة) أكثر مما نتصور، (فالتغير المناخي مثلا، حول ما كان يحصل مرة في القرن مثلا، مثل موجات الحر الشديد والفيضانات، إلى أحداث متكررة).

 

وتبين لويس أن "أزمة فيروس كورونا كشفت كيف يمكن للفعالية أن تكون اقتصادا زائفا، وحتى قبل الجائحة كانت الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا (NHS) تفقد أطباء للقطاع الخاص أو لفرص العمل في الخارج أو لمجرد الإرهاق بوتيرة مقلقة، وكان نقص العاملين في NHS حادا لدرجة أنها أطلقت حملة توظيف من بلدان أخرى، وأظهرت دراسة حديثة نشرت في دورية (بريتش مديكال جورنال)، أن ثلث الأطباء المستطلعة آراؤهم يعانون من الإنهاك أو الاكتئاب الثانوي، وأعلى نسبة من بينهم توجد بين الأطباء العامين في العيادات، حيث يحاول الأطباء إعطاء كل مريض أقل من 10 دقائق".  

 

وتقول الكاتبة: "في الظاهر تبدو أي خدمات صحية تعمل بأقصى إمكانيتها فعالة، لكنها ليست كذلك إن هي تسببت بدفع الأطباء للخروج، فكل طبيب تتم خسارته هو خسارة لسنوات من التدريب واستثمارات دافعي الضرائب (في بريطانيا حيث الكليات الطبية مدعومة من الدولة) ما يزيد من الحمل على الأطباء المتبقين".

 

وتضيف لويس: "لو عدنا إلى إنفلونزا العام الماضي، كانت كل أسرة NHS مشغولة تقريبا، وتقول الدكتورة جوليا بتيرسون من مجلة (إفري دكتر): (إن كنت تنظر من المنظور المالي فيمكنك أن ترى كيف يبدو ذلك أسلوبا فعالا في إدارة الموارد)، لكن التعليمات السريرية تقول إن شغل الأسرة يجب أن يكون أقل من 85% والسبب هو (أننا بحاجة للتعامل مع التغيرات السنوية في المرض.. وإلا فإن ذلك اقتصاد كاذب، حيث أنه عندما تزيد الحالات في شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير، فلن تكون هناك إمكانيات كافية ببساطة)، ويصبح على المستشفيات الحكومية إما شراء أسرة من مستشفيات خاصة، أو أن تحول المرضى إلى مناطق أخرى من البلد، (وذلك مكلف) وكانت تلك هي الحال قبل وصول جائحة كورونا".

 

وتنوه الكاتبة إلى أن "مثل القصور في NHS فإنه يمكن أن نتتبع تحديات كورونا إلى عام 2010 وأجندة (التقشف) التي فرضتها حكومة المحافظين المنتخبة في ذلك العام، فكان وزير ماليتها، جورج إسبورن، يعتقد أن القطاع العام كان متضخما وغير فعال، الذي استخدم دائما (التوفير من خلال الفعالية) حجة لتخفيض الميزانيات، وفي ميزانيته لعام 2015 قال إن الحكومة (تتطلع إلى توفير 10 مليارات جنيه إسترليني من خلال تحسين الفعالية عام 2017-2018)، (وكلمة فعالية تتكرر في تلك الوثيقة 18 مرة)".

 

وتستدرك لويس بأنه "من الناحية العملية لم تتم إزالة الزائد من النفقات العامة، فعلى مدى العشر سنوات الماضية تم خفض ميزانيات المجالس المحلية بنسبة 60%، وكذلك أجهزة الرقابة على التجارة المحلية، التي يجب عليها حاليا أن تراقب تطبيق تعليمات الحكومة بإغلاق المتاجر غير الضرورية كلها، وضمان عدم استغلال البعض للأزمة للتربح، وكذلك تخفيض أعداد أفراد الشرطة، وهي السياسة التي وعد بوريس جونس بعكسها خلال حملته الانتخابية، فالتخفيضات التي جعلت قوات الشرطة (فعالة) هي ذاتها التي تجعلها اليوم غير قادرة على فرض الإغلاق، فأعداد ضباط الشرطة هي الأقل منذ ثمانينيات القرن الماضي".

 

وتفيد الكاتبة بأن "إحدى مشكلات الفعالية الواضحة هي التوجيهات إذا كانت لديك أعراض كورونا وكنت تعيش مع شخص مسن أو ضعيف المناعة، فماذا تفعل؟ التوجيه الصادر عن NHS هو إبقاء مسافة مترين، ومحاولة عدم استخدام المساحات المشتركة، مثل غرف الجلوس في الوقت ذاته، وعدم مشاركة السرير إن أمكن، وهذا النصح قد يكون مفيدا للبريطانيين من الطبقة المتوسطة، وكذلك الحث على استخدام الحديقة لممارسة التمارين الرياضية، لكن الحكومة قررت قبل سبعة أعوام بأنه لا يسمح لأي شخص يعيش في السكن الحكومي، أو يحصل على مساعدات، أن تكون لديه غرفة نوم زائدة، وأن ذلك يكلفه 25% من مساعداته لدفع الإيجار".

 

وترى لويس أن "التغييرات كلها التي تمت باسم تحسين الفعالية جعلت مجتمعنا أكثر هشاشة: أطباء منهكون وقوات شرطة تحمل فوق طاقتها وعائلات مضطرة للعيش في بيوت مكتظة". 

 

وتختم الكاتبة مقالها بالقول: "من المبكر التكهن بآثار الإغلاق، لكننا نعرف أن الناجين من الكوارث والحروب والمجاعات يصبح لديهم ميل لتخزين الطعام، فاستعادة الثقة بالنظام بعد اكتشاف هشاشته أمر صعب، ولذلك أقترح أن نتصالح مع القليل من اللافعالية في الأوقات الجيدة؛ لأن ذلك يجعل من تحمل الأوقات الصعبة أمرا أكثر سهولة".

 

لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)

التعليقات (0)