أخبار ثقافية

في الكتابة.. ما من قوة تستطيع التصدي لسلطة السطر الأول

إذا ما وضعنا السطر الأول تحت المجهر سنرى الحكاية كاملة تحدث تحت سطحه مثل شريحة مليئة بالحياة- جيتي
إذا ما وضعنا السطر الأول تحت المجهر سنرى الحكاية كاملة تحدث تحت سطحه مثل شريحة مليئة بالحياة- جيتي

أحبّ ذلك المشهد من فيلم "الساعات" المقتبس من رواية مايكل كننغهام، من بطولة نيكول كيدمان التي أدت فيه شخصية فرجينيا وولف.

 

ذلك المشهد عندما عثرت فيه وولف على السطر الأول من روايتها "السيدة دالاوي": "قالت السيدة دالاواي بأنها ستشتري الأزهار بنفسها.."

 

عندما عثرت وولف على السطر الأول غادرت غرفتها، نزلت بضع درجاتٍ إلى الطابق السلفي حيث كان زوجها "برنارد" يعكف على تحرير مسودة رواية لدار نشرٍ يديرها، ثم ساقت إليه الخبر الكبير.


"برنارد، لقد عثرت على السّطرِ الأوّل"
قالت وولف.

 

نظر إليها برنارد بعينين لا تخلوان من قلق؛ فهو يعرف ما يعنيه ذلك. رحلة جديدة ستقوم بابتلاع زوجته؛ زوجته التي تعاني من سماعِ أصوات داخل رأسها، وميول انتحارية، واكتئاب شديد. ما الذي تعنيه رحلة أخرى لشخصٍ بهذه الهشاشة النفسية؟ 


لكنه مع ذلك رضخ للأمر تمامًا..
"إذهبي واكتبي إذن"
قال برنارد. لأنه يعرفُ بأن ما مِن قوةٍ تستطيع التصدي لسلطة السطر الأول، ولأن العثور على سطرٍ أول في رواية يشبه العثور على حجر الفلاسفة، أو إكسير الحياة، أو عشبة الخلود، أو كنز علي بابا.

 

لكن السطر الأول في حقيقته خطّاف، ليس للقارئ وحده، بل للكاتبة. الكاتبة التي علِقت في شركِ الحكاية تمامًا، ولن تستطيع العودة إلى الواقع، والتصالح معه، ما لم تتم هذه الرحلة.


ونحن نعرفُ، بفضل جوزيف كامبل وآخرين، أن كل رواية هي شكلٌ من أشكال رحلة البطل، ليس للسيدة دالاواي فقط، بل للكاتبة المشوشة، الهشة، برأسها المليء بالأصوات، التي ستنتحر لاحقًا بعد أن تملأ جيوبها بالحجارة، وتغرق في النهر. 


تصعد فرجينيا وولف الدرجات مرة ثانية، تعود إلى غرفتها وحيدة، وتواصلُ الكتابة. لأن السطر الأول لا يكتفي بنفسهِ، بل هو سطرٍ شديد الخصوبة، وفي وسع الكاتب أن يستلَّ منه سطورًا أخرى، وأخرى، وأخرى، حتى يبدأ العمل في كتابةِ نفسه.

 

اقرأ أيضا : تعرف على الروايات العربية المرشحة لجائزة "البوكر" 2020


تسحرني هذه الحكاية، رغم أنَّ الكتابة عندي لم تأخذ هذا الشكل النقيّ قط. إنني أكثر قربًا من جويس كارول أوتس عندما قالت: إنك لا تستطيع كتابة السطر الأول إلا بعد أن تكتب السطر الأخير. 


نقديًا، منطقيًا، أرى أوتس أقرب إلى واقع الكتابة الروائية. فإذا كنا سنكتب ذلك السطر الخطّاف الذي يستطيع شدّ القارئ من أذنيه إلى جحر الأرنب، فعلينا أن نعرف الحكاية كاملة. علينا أن نكون قادرين على صياغة سطرٍ يشبه المظلة، سطر يلقي بظلاله على كل سطرٍ آخر. 


أتخيل السطر الأول في الرواية مثل عدسة محدبة من جهة، ومقعرة من الجهة الأخرى. إذا ما وضعنا السطر الأول تحت المجهر سنرى الحكاية كاملة تحدث تحت سطحه، مثل شريحة مليئة بالحياة. وإذا ما قررنا اختزال الرواية في بضع كلمات.. سيكون السطر الأول هو كل ما نحتاجه.


"كل الأطفال كبروا إلا واحد"
هذا السطر، مثلا، من رواية "بيتر بان" يقول العمل كاملًا.
"وفي اليوم التالي لم يمت أحد"


هل ثمة بداية أفضل من هذه لرواية "انقطاعات الموت" لـ ساراماغو؟


يفتنني مدخل "قصة مدينتين" لـ تشارلز ديكنز، عندما حكى عن "أفضل الأزمان وأسوأ الأزمان، عن عهد الحكمة وعهد الحماقة، عن الذهاب إلى الجنة والذهاب إلى جهنم"، إنه مانيفيستو الثورات على امتداد جميع العصور. 


وعلى خلاف كثيرين، يرون بأن خالد حسيني كاتبٌ "تجاري".. أيًا كان ما يعنيه ذلك، إلا أنني عندما أقرأ السطر الأول في رائعته "عداء الطائرة الورقية" أعرفُ بأنني أقف في حضرة أستاذ.
"في الثانية عشر من عمري أصبحت من أنا عليه الآن".

على عكس وولف، لم أتمكن قط من كتابة السطر الأول من البداية. ولكنني على خلاف "أوتس".. لم أنتظر حتى النهاية لكي أعرف عن ماذا يدور عملي.

 

كنت دائمًا أصل إلى منتصف الرواية تقريبًا عندما تضيء كهرباء زرقاء في رأسي تجعلني أثبُ عشرات الصفحات إلى الخلف لكي أكتب السطر الأول. في تلك اللحظة أشعر مثل أرخميدس عندما اكتشف قانون الطفو، أريد أن أخرج إلى الشوارع وأصيح: وجدته! وجدته!


أحبُّ أيضًا تلك القصة الظريفة لـ همنغواي، والذي نعرف كلنا إلى أي حدٍ كان يكابد حبسة الكاتب. تبدو حاجته إلى الكتابة مثل شيء فسيولوجي، وعندما تستعصي الفكرة، ويمتلئ حتى مسامه بـ "عصير الكتابة"، كان يذهب إلى مقهى أو حانة.. ويتنصّت على الحوارات التي تدور في الطاولات القريبة.


"كل ما تحتاجه هو جملة حقيقية واحدة.. جملة حقيقية واحدة"
يذكّر همنغواي نفسه بذلك هو يلقي قشور البرتقال في نار الموقد، في انتظار أن يجود عليه العالم بجملة حقيقية. 


لنتخيل المشهد الآن..
لنتخيل امرأة تنتظر رجلًا على الطاولة. يجيء الرجل بارد الوجه ويجلس أمامها دون أن ينظر في عينيها.

 

لنتخيل المرأة تسأله: لقد تأخرت ثلاث ساعات.. 
سوف يستل همنغواي هذا السؤال "لقد تأخرت ثلاث ساعات" من فم المرأة ويضعه على رأس الورقة، ومن هناك.. سوف يكتب قصة ما.


لاحقًا، قد يجد همنغواي أن تلك "الجملة الحقيقية الواحدة" غير ضرورية للمكان الذي ذهبت إليه حكايته. في وسعه أن يشطبها تمامًا دون أن يتأثر النص. لكنه ما كان بالإمكان أن يكتب لولاها.


مثل فرجينيا وولف، كان همنغواي يرى السطر الأول بمثابة "مثير للكتابة - stimulus"، وكان يعوّل إليه ليأخذه إلى رحلة..


كلاهما سوف ينتحر لاحقًا؛ همنغواي، وولف.
ولكن أعمالهم لن..
"هزمتك يا موت الفنون جميعها"
يقول محمود درويش،
وأقول: تمامًا. 

التعليقات (4)
غائب
السبت، 14-03-2020 10:10 ص
أعتذر عن التأخير في التعليق، رائعة وذات مضمون هادف بشكل جدا كبير، لهذا السب ولغيره أعتذر مع كامل الإحترام والتقدير.
morad alamdar
الأربعاء، 11-03-2020 05:55 م
عالم النفس ^^ كارل يونغ ^^ كلمات وزنها من ذهب : الحياة فعلياً تبدأ في الأربعين حتى ذلك الوقت أنت تقوم بمجرد أبحاث .. لا يمكنك العودة إلى وعيك بدون ألم .. المعانات هي جزء من النمو .. من ينظر إلى الخارج يحلم ، من ينظر إلى الداخل يستفق .. إن ألذا أعدائِكَ قابع هُناك في أعماق نفسك ! .. الناس يميلون للبحث عن ملكوت الله في العالم الخارجي و ليس داخل أرواحهم .. قد يأتينا السلام ُ في النّهاية لكنه لن يأتي حتى يفقد النصر و الهزيمة معناهُما ! .. كلمة سعادة ستفقد كل قيمتها إن لم يتم موازنتها مع كلمة حزن .. نحن لا نُقدر ثمن الوقت و لكننا نشعر بخسارته ! .. لا تتحدد كينونتي بما سبق وحدث معي و لكن بما أختار أن أصحبه .
نهى داود
الأربعاء، 11-03-2020 12:36 م
مقالة راااااائعة ??
عاصم القرش
الأربعاء، 11-03-2020 08:58 ص
كتابة جميلة من اول الى اخر سطر