كتاب عربي 21

العملية التركية في شمال سوريا.. هل هي نهاية سايكس بيكو؟

فراس أبو هلال
1300x600
1300x600

دخل الصراع في سوريا مرحلة مفصلية تختلف تماما عن كل ما سبقها من مراحل. فهذه المرة الأولى التي تدخل فيها تركيا بهذا الثقل العسكري بالحرب مع نظام الأسد، مع وجود كثيف لروسيا في المعادلة، ودور مهم ولكنه خافت في هذه المرحلة لإيران في خلفية الصورة.

هذه الأحداث والتطورات المتسارعة، دفعت للواجهة تساؤلا مهما حول مستقبل المنطقة وليس فقط سوريا، فهل نحن أمام نهاية لمرحلة سايكس بيكو وتغيير شكل "الدولة الوطنية" التي تأسست ما بعد الاستعمار؟

مقدمة لا بد منها

مع انطلاق ثورات الشعوب العربية من تونس وانطلاقها لدول عربية أخرى، بدأت موجة من التحليل السياسي ترى أن هذه الثورات هي محاولة لتغيير المنطقة، أو أنها ستؤدي بالنهاية لتغيير ما أنتجته معاهدة سايكس بيكو من تقسيم للشرق الأوسط وهو ما أصبح بعد الاستقلال دولا وطنية عربية.

استخدم هذا التحليل من ثلاثة أطراف متناقضة: الأول هو طرف بات يقدس "الدولة الوطنية" التي أنتجتها سايكس بيكو وبالتالي فإنه يستخدم هذا التحليل للتخويف من الثورات لأنها ستقضي على الدولة الوطنية كما نعرفها منذ نهاية الاستعمار. الطرف الثاني هو من أولئك الذين يؤمنون بالأفكار الأممية، سواء كانت إسلامية أو عروبية، واعتبروا -على الأقل خلال الشهور الأولى للثورات- أنها قد تؤدي لأشكال وحدوية في المنطقة تتجاوز سايكس بيكو وإن كانت لن تقطع مع الدولة الوطنية بشكل نهائي. أما الطرف الثالث، فهم مستشرقون صهاينة، وأهمهم إلوف بن، الذي نظّر لهذا التحليل وطالب دولة الاحتلال بالتجهز لمواجهته.

وبرغم وجود أطراف عديدة تبنت هذا التحليل، إلا أنها كانت أقلية في المجال السياسي أو الإعلامي أو الشعبي العربي، إذ إن بدايات الثورات كانت وطنية محلية، وإن رفعت شعارات تناسب كل بلد وشعب عربي، ولكن مطالب كل ثورة في الأساس كانت محلية، دون غياب الأحلام القومية أو الإسلامية على هامشها بالطبع.

انتصرت الثورة التونسية وأسقطت رأس النظام، ثم تبعتها مصر. كلتا "الثورتين" انتهتا بدون دماء كثيرة أو تخريب للدولة، وإن كان القمع أدى إلى سقوط مئات الشهداء في كل منهما، ولكن الطابع العام لهما كان ثورة "داخل الدولة"، وليس ضد الدولة. كان يمكن أن تتم الأمور في ليبيا بنفس المنوال، ولكن تعامل النظام الدموي أدى عمليا إلى انهيار الدولة وليس فقط سقوط رأسها، إضافة إلى أن الدولة الليبية أصلا لم تكن بمستوى مصر وتونس من ناحية التنظيم والجيش والبيروقراطية.

مع بدء المرحلة الانتقالية في مصر وتونس وحتى ليبيا واليمن، كان يبدو أن التحليل القائم على تغيير معالم الدورة التي نتجت عن سايكس بيكو أو عن نهاية عصر الاستعمار الفرنسي والبريطاني قد تراجعت فرصه. طرحت القوى الجديدة التي أفرزتها الثورات في كل هذه البلاد شعارات محلية/ وطنية، وكانت برامجها داخلية صرفة.

 

بل إن القوى هذه، وخصوصا الإسلاميين، كانوا وطنيين أكثر من القوى التي تتهمهم بانعدام الوطنية والارتهان لأفكار وتنظيمات دولية. كان الأداء السياسي لهذه القوى منصبا على عبور المرحلة الانتقالية وتحقيق أهداف محلية تتعلق بالإصلاح والقضاء على الفساد وتطوير الاقتصاد والدمقرطة والحريات، ولكن هذا المسار تعرض لضربة كبيرة بعد تقدم الثورات المضادة!

الثورة المضادة وقتل "الدولة الوطنية"

عكس ما كان متوقعا من البعض، فقد جاءت الضربة في خاصرة "الدولة الوطنية" من الثورات المضادة وليس من الثورات. 

دعمت دول الإقليم التي بات يطلق عليها مصطلح "الثورة المضادة" اللواء المنشق خليفة حفتر في ليبيا، وهو الدعم الذي أدى إلى توقف المرحلة الانتقالية عند الصراع بين حكومتين أو دولتين في البلاد، بين حكومة الوفاق في طرابلس والغرب، وبين حفتر وجزء من البرلمانيين في الشرق. ضرب هذا الصراع المدعوم من دول الإقليم عودة بناء "الدولة الوطنية" في ليبيا على الأقل حتى الآن.

دعمت نفس الدول انقلابا عسكريا في مصر، أدى إلى مقتل المئات أو الآلاف، واعتقال عشرات الآلاف، وتهجير آلاف آخرين. حافظت الدولة بعد الانقلاب على تماسكها العسكري والبيروقراطي، وفرضت استقرارا "وهميا" يقوم على القمع والقبضة الحديدية، ولكن الانعكاسات والآثار الجانبية للانقلاب أدت أيضا لضعف الشعور بالإيمان بالدولة.

 

فقدت الدولة شرعيتها الدستورية عند كثيرين -لا نعرف نسبتهم بالطبع- والأهم والأخطر أنها فقدت صورتها أيضا كدولة ممثلة لجميع شعبها

 

بل إن النظام الجديد عمل بوعي وبدون وعي على تكريس هذه الصورة من خلال تقسيم الشعب لشعبين عبر الممارسات السياسية والأمنية من جهة، وعبر القمع من جهة أخرى، وعبر الإعلام المسير تماما من قبل الدولة والذي ينزع الوطنية عن كل معارض. صار كثير من المعارضين يرى في الدولة عدوا، وليس خصما فقط، واستطاع النظام بسياساته أن يقضي على صورة الدولة الوطنية كما عرفتها الشعوب بعد الاستقلال.

عمل الانقلاب الحوثي في اليمن بدعم إيراني على تقويض الدولة في اليمن، وصارت البلاد عمليا مقسمة لثلاثة أقسام: حوثي يسيطر على العاصمة وأجزاء من الشمال، وشمالي يتبع للرئيس المنتخب شرعيا، وجنوبي بحكم سيطرة القوات الجنوبية المدعومة من الإمارات عمليا على الشطر الجنوبي من اليمن.

أما في سوريا، فقد لعب النظام الدور الأكبر والأخطر في تقسيم البلاد وإنهاء الدولة الوطنية بشكلها الذي ما زال قائما منذ الاستقلال، مع أنه بنى نظريته في التصدي للثورة على منع "المؤامرة الكونية" ضد الدولة وتقسيمها، ولكن سياسته القمعية أدت لعسكرة الثورة وتقسيم البلاد جغرافيا وسياسيا، وأدخل إيران وميليشياتها ثم روسيا للبلاد، وحول سوريا لخاصرة رخوة لتدخل الجميع، وصارت "الدولة" هي الطرف الأضعف في المعادلة برغم كل الشعارات عن السيادة والدولة والتصدي "للمؤامرة".

العملية التركية في شمال سوريا.. وانهيار "الدولة الوطنية"
 
رغم أن سوريا دخلت منذ سنوات بالفعل لمرحلة "فشل الدولة الوطنية"، إلا أن العملية التركية التي تجري الآن في شمال البلاد تمثل مفصلا مهما في انهيار الدولة. وبغض النظر عن نهاية الصراع فإن النتيجة هي انهيار الدولة، ولو لحين. فإذا استطاعت تركيا أن تفرض منطقة عازلة تحت سيطرة القوات المدعومة منها وتثبيت اتفاق سوتشي في "مناطق خفض التصعيد" وهو ما يبدو مرجحا حتى الآن، فإن هذا يعني انهيار الدولة الوطنية بشكل شبه تام ولو لفترة مؤقتة، وحتى إذا فشلت المساعي التركية فإن هذا سيعزز انهيار "الدولة" وسيطرة روسيا كمتحكم أكبر في البلاد، مع مشاركة إيرانية في السيطرة في أجزاء أخرى من سوريا.

وإضافة للتقسيم الجغرافي والسياسي، فإن العملية التركية أظهرت بشكل غير مسبوق انهيار "الدولة الوطنية" على صعيد ديمغرافي، فالمباركة الشعبية في إدلب للعملية، وتأييد غالبية كبرى من المهجرين واللاجئين لها لا يمثل "خيانة للدولة" كما يروج النظام وداعموه، إذ إن التحليل العميق يتجاوز هذا التنظير السطحي للمسألة، بل إنه يعني نهاية إيمان المواطنين أو جزء كبير منهم بالدولة التي صارت تمثل لهم كابوسا وعدوا وقاتلا، بدلا من أن تمثل شعورا بالانتماء. انهيار الدولة يبدأ بالشعور تجاهها أولا، وهي ليست صنما يعبد، فإذا فشلت في تحقيق الأهداف المؤسسة للدولة بمعناها الحديث فإنها تكتب نهايتها بيديها.

 

كان يمكن للثورات الشعبية العربية أن تحافظ على الدولة الوطنية وترقى بها، ولكن الثورات المضادة أدت عمليا لانهيار الدولة في عدة بلدان.


وكان يمكن للنظام في سوريا أن يحافظ على الدولة بقليل من الحكمة والإصلاح ولكنه أصر على أن يكون العامل الأساسي لانهيارها. ومهما تكن نتيجة المعارك الدائرة بين تركيا وبين النظام وداعميه في شمال سوريا، فإنها تشكل نهاية للدولة الوطنية كما عرفناها بعد سايكس بيكو وانتهاء عصر الاستعمار. 


هل سيكون هذا في صالح المنطقة وشعوبها أم ضد مصالحهم؟ لا يمكن أن نعرف بالضبط، وأي تحليل للنتيجة سيكون بعيدا عن الحقيقة حتى تحقيقه على أرض الواقع، ولكننا نعرف حقيقتين ثابتتين: الأولى أن المنطقة كانت شكلت كنتيجة لنهاية الاستعمار وبرسم وصياغة الاستعمار نفسه، والثانية أن المنطقة العربية ككل تشهد حركة تاريخية لتغييرات كبرى لا يمكن أن تظهر نتيجتها قبل انتهاء الصراع فيها.

 
التعليقات (4)
حسين
الخميس، 05-03-2020 02:50 م
في الحركة بركة وفي الجمود والخذلان ذل ومهانة وموت بائس وعلى الشعوب الاستمرار في النضال والمقاومة وتوحيد الصفوف والكلمة فانها موجعة لحد لا يتصور وستنتصر
ابو فارس الخطاطبه
الثلاثاء، 03-03-2020 11:07 ص
يجب إعطاء الشعوب حرية اختيار النظام السياسي بعد انتخاب النواب الذين ينفذون رغبة شعوبهم وعمل تصويت بالانضمام لنظام سياسي مشابه له نفس تطلعات الشعوب العربية والإسلامية وعمل اتحاد فدرالي بالحكم وكل الأنظمة والدستور وجعل الحدود السياسية هلامية غير رسمية لإمكان دمج وتلاحم الدول المجاورة او الشعوب المجاورة تحت نظام سياسي واحد وايضاً احداث مجلس نيابي مشترك وحكومة منتخبة مؤقته لمدة عام واحد تجريبي لها خطوط عريضة واهداف لتحقيقها بجدول زمني محدد وان فشلت خلال هذا العام يعاد انتخاب غيرهم وان نجحت تصبح حكومة دائمة تختار الرئيس ولمدة لمدة زمنية محدده قصيرة قابلة للتمديد ان حقق الأهداف التي كان ينادي بها .
عامر
الإثنين، 02-03-2020 10:09 م
الثورات المضاده صنيعه جمير زايد و التي كان يعتقد منها بقاء الدوله التابعه و ليس الوطنيه كما ورد في المقال لكن السحر انقلب على الساحر
adem
الإثنين، 02-03-2020 08:35 م
شكرا على التحليل أعتقد و الله أعلم أنّ نهاية سايس بيكو حتمية تاريخية بعد مرور100 سنة فالظروف و التوازنات و انتشار الوعي و بداية نهاية النموذج الغربي بشقّه الرّأسمالي مؤشرات قوية تذهب بذلك الاتجاه و هنا نستدلّ بالنموذج الليبي الذي خرج من تحت سيطرة إيطاليا و فرنسا و بدرجة أقلّ بريطانيا لتحل محلّهم تركيا و روسيا بالإضافة إلى الملف السورى .