مقالات مختارة

هل ستحصد إسرائيل ما زرعته في المغرب الكبير؟

نزار بولحية
1300x600
1300x600

قبل أسابيع كسب المغرب نقطة إضافية في مساره نحو تأكيد مغربية الصحراء، من خلال فتح بعض الدول الأفريقية قنصليات لها في مدن تتبع ما يعده أقاليمه الجنوبية. ومنذ أيام فقط تمكنت جبهة البوليزاريو من أن تحرز أيضا نقطة قد لا تقل رمزية، حين صادق المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي على قرار يؤكد التزام المنظمة القارية بمشاركة جميع الدول الأعضاء فيها، في قمم الشراكة بين الاتحاد الأفريقي، وباقي المنظمات الدولية والإقليمية، ما يعني أنه سيكون بإمكان الجبهة أن تحضر لاحقا في القمة العربية الأفريقية بالرياض.


لكن مهما كان حجم الكسب أو الخسارة بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك، فإن الفائز الأكبر من الصراع الإقليمي قد لا يكون بالضرورة أحد الاثنين. فالشهور القليلة المقبلة تلوح، بنظر الإسرائيليين بالذات، شهورا مصيرية، لحصاد وجمع كل ما زرعوه على مدى عقود في الشمال الأفريقي. وسواء تعطلت أم لا مسألة الحسم في تبعية الصحراء للمغرب، أو للبوليزاريو، فهي ستبقى بالنسبة لهم ورقة ضغط وابتزاز، يستخدمونها بشكل مباشر أو غير مباشر، تبعا لمنطق الثواب والعقاب المفروض على كلا الجانبين بلا استثناء.


وفي خضم ذلك، فإن آخر ما يهمهم حين تنضج الثمرة تماما، وتصبح جاهزة للقطف، هو أن يحسم بالأخير في هوية وانتماء ذلك الجزء المتنازع عليه من تراب المغرب الكبير، سواء باستعادة الرباط ما تراه جزءا من أراضيها، أو بحصول البوليزاريو بالمقابل على ما تعتبره حقها في الاستقلال وتقرير المصير. ومثلما يجري في مواضع وأماكن أخرى من العالم، فإن ما يهم الكيان المحتل، هو العائد الذي سيحصل عليه من استمرار النزاع، وكيف يمكنه أن يخرج بكسب حقيقي من كل العداوات والخلافات المغربية الجزائرية، بشكل يسمح له بأن يدعم مشاريعه ويرسخ أقدامه في منطقة بقيت رغم كل الاختراقات الأمنية والإعلامية عصية على التطبيع النفسي والشعبي مع الاحتلال.


في الوقت الذي يواصل فيه المغرب والجزائر تبادل الاتهامات بينهما يزداد الإسرائيليون قناعة وثقة بأن المغرب الكبير كله قد أينع وحان وقت قطافه.


ورغم أن كثيرين ظلوا ومنذ عهد بعيد، ولأسباب مبهمة ومعلومة في الآن نفسه، يرون في المغرب أكثر من البوليزاريو، ومن خلفه عرابه الجزائري موطئ القدم المغاربية لإسرائيل، والدولة التي تقدر على أن تمنحها ما تطلبه من اعتراف رسمي، وتنكر لما يربطها بالقضية الفلسطينية، بحكم أنها موطن جالية يهودية مؤثرة داخل الأرض المحتلة، وبحكم ما كان يثار عن وجود قنوات اتصال مفتوحة ولقاءات سرية تجمع مسؤولين سامين في المغرب، بوجوه وقيادات إسرائيلية من الصف الأول، فإن جزءا من ذلك التركيز الأعمى المقصود على وجه واحد من الصورة، كان الغرض منه حجب وإخفاء الوجه الآخر منها.

 

لقد كان الهدف منه هو أن تغذية التناقضات الذاتية والموضوعية بين الجارتين، بشكل يجعل المغرب يبدو منفتحا ومتحررا وقابلا لمسار المفاوضات والتنازلات، ويجعل الجزائر في المقابل على الطرف النقيض منه، أي بلدا منغلقا ومتمسكا بشعارات ومواقف ثورية خارج المنطق السائد في جواره الإقليمي على الأقل. وكانت السياسات والخيارات الداخلية للبلدين مسؤولة عن جزء من ذلك بالطبع، لكن لم يكن من باب الصدفة أبدا بروز نوع من التماهي، باستحضار الاحتلال الإسرائيلي والنضال الفلسطيني في قضية الصحراء، فتكون ألوان علم البوليزاريو هي نفسها ألوان العلم الفلسطيني، ويبقى النظام المغربي في أدبيات الجبهة موصوفا بالمحتل المغربي، وتستمر المقارنات كل مرة بين كفاح الشعب الفلسطيني لنيل استقلاله وحريته، ونضال الشعب الصحراوي لكسب حقه في تقرير مصيره. فالتخوين والاتهام بالعمالة لإسرائيل، كان جزءا ثابتا من الحرب النفسية والإعلامية المستعرة منذ أكثر من أربعين عاما بين الجانبين، لكنه لم يكن فقط منبثقا عن رؤية أو تصور جزائري بحت للمشكل، بل أيضا عن تواطؤ مقصود، وربما تشجيع خفي من إسرائيل. والسبب هو أن الكيان كان يريد أن يعمق الفجوة بين البلدين، ويجعل التقاءهما، ولو على ما يعتبرانه قضية الأمة، أمرا غير ممكن في الفترة الحالية بالمرة، ومجالا للتنافس والاستعراض، ومحاولة فرض السيطرة والقيادة الإقليمية في فترات سابقة. ألم يقل الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين مثلا، في أواخر الستينيات، كلمته الشهيرة إن «الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة» ثم ألم يرأس العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني منتصف السبعينيات لجنة القدس حماية للمقدسات الإسلامية في البلدة المحتلة، من الانتهاكات الإسرائيلية؟


إن دوافع القائدين لفعل ذلك والخلفيات التاريخية وصدق نواياهما وعواطفهما تجاه القضية الفلسطينية، لم تنف وجود مثل ذلك التبارز، وربما حتى التصارع العلني و السري، على استخدام تلك القضية بالذات، سواء لأجل امتصاص مشاعر الغضب الشعبية الداخلية وتهدئتها، أو للبحث عن نوع من الزعامة الإقليمية أسوة بما فعله القادة العرب الآخرون.

 

وقد طبع ذلك في وجدان الشعبين نوعا من القناعة الراسخة، رغم كل ما كان يقال بين الحين والآخر عن تغلغل إسرائيل في المغرب، وعن لقاءات وجلسات ووجود قنوات اتصال مغربية مفتوحة مع الاحتلال، بأن فلسطين بالفعل خط أحمر، وأنها لن تكون أبدا مجالا للمساومة أو للمقايضة، ولكن ما حدث على هامش مصادقة البرلمان المغربي على قانون ترسيم الحدود البحرية للمغرب، أدخل شبه هزة، جعلت كثيرين لا يترددون في الحديث عن تغير واضح في الموقف الرسمي، وحتى عن وجود صفقة قريبة بين الرباط وتل أبيب، تقوم على مقايضة اعتراف أمريكي بمغربية الصحراء، باعتراف مغربي بشرعية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. والسبب هو أن ما قاله وزير الخارجية بوريطة من انه» ينبغي أن لا نكون فلسطينيين اكثر من الفلسطينيين أنفسهم» ومن أن القضية الأولى للمغرب هي الصحراء وليس القضية الفلسطينية، فتح الباب واسعا أمام التأويلات.


لكن مع أنه من شبه المؤكد أن لا نار من دون دخان، فإن المسألة أعقد وأكبر من ذلك. فالرباط لا يمكنها أن تجازف بالقفز في المجهول، وبالبقاء شبه معزولة في محيطها، من خلال الإقدام على تطبيع علني وواسع مع إسرائيل، إلا في صورة ما إذا قامت جاراتها المغاربيات والعربيات بذلك بعد حصولهم جميعا على ضوء أخضر، وحتى إن كانت هناك حاجة ومصلحة ملحة للمغاربة في الصحراء، فإنهم يعلمون أن الطريق الأسرع والأقصر نحوها لن يكون ولعدة اعتبارات داخلية وخارجية هو الطريق الأكثر أمانا.

 

ولعل القصد من إثارة المسألة الآن هو بعثرة الأوراق والتمويه. ففيما تتجه الأنظار لمغرب يوشك على التطبيع المكشوف، فإن رسائل أخرى توجه من خلال ذلك في الأثناء، إلى الجزائر بالأساس ثم تونس وموريتانيا، حتى تسهّل كل واحدة منها قيام شكل من أشكال العلاقة مع الإسرائيليين، أو تلازم في الحد الأدنى على الأقل موقف الصمت والحياد، أمام زيارة مفاجئة وغير معلنة قد تقود قريبا بنيامين نتنياهو أو شخصية إسرائيلية أخرى إلى عاصمة مغاربية. والمؤلم حقا هو انه وفي الوقت الذي يواصل فيه الجاران المغاربيان تبادل الاتهامات وتسجيل النقاط على حساب بعضهما بعضا يزداد الإسرائيليون قناعة وثقة بأن المغرب الكبير كله قد أينع وحان وقت قطافه.


(القدس العربي)

0
التعليقات (0)