قضايا وآراء

إلى أين تتجه تونس؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

مع اقتراب نهاية الأجل الدستوري لتشكيل الحكومة التونسية، تبدو فرضية المرور إلى انتخابات برلمانية مبكرة فرضية واردة ولكنها غير راجحة. فأخبار اللحظات الأخيرة تشير إلى إمكانية تجاوز الانسداد الذي عرفته المفاوضات الحكومية بعد فيتو رئيس الحكومة المكلف ضد تشريك حزب "قلب تونس" دون بقية ورثة المنظومة القديمة وواجهاتها السياسية، وهو فيتو قوبل بموقف معارض من حركة النهضة التي صعّدت التلويح بخيار الانتخابات البرلمانية المبكرة في صورة إقصاء "قلب تونس" من الحكومة القادمة.

وليس يعنينا في هذا المقال أن نحلل المنطق الضمني الذي يحكم استراتيجية رئيس الحكومة ومن وراءَه أو استراتيجية حركة النهضة؛ بقدر ما يهمّنا أن نقدم قراءة استشرافية للواقع التونسي في صورة تزكية الحكومة القادمة، سواء أشارك فيها حزب قلب تونس (وهو المرجح بصرف النظر عن مدى تمثيليته فيها) أم لم يشارك (وهو أمر مستبعد خاصة بعد تصريح القيادي النهضوي رفيق عبد السلام بأن رئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ لم يعد له أي فيتو على تشريك قلب تونس في حكومته، كما توجد العديد من القرائن الأخرى على أن ما يُسمّى بـ"القوى الثورية" لا ترفض بصورة راديكالية هذا الحزب ولا تعارض إمكانية توظيفه في توسيع "الحزام السياسي" للحكومة المقبلة).

يتعذر فهم الواقع السياسي الحالي أو استشرافه ما لم نضعه في سياق ما سُمّي بمسار الانتقال الديمقراطي، وهو مسار بنى رئيس الحكومة المكلف استراتيجيته التواصلية على ضرورة لحظته السياسية (الانتقال السياسي) والدخول في لحظته الاقتصادية- الاجتماعية (الانتقال الاقتصادي ببرنامج "محاربة الفساد").

 

يتعذر فهم الواقع السياسي الحالي أو استشرافه ما لم نضعه في سياق ما سُمّي بمسار الانتقال الديمقراطي، وهو مسار بنى رئيس الحكومة المكلف استراتيجيته التواصلية على ضرورة لحظته السياسية والدخول في لحظته الاقتصادية- الاجتماعية

وقد بينا في مقالنا السابق أن هذه المصادرة لا تصمد أمام النقد والتمحيص. وسواء اعتبرنا خطاب رئيس الوزراء المكلف ضربا من التفاؤل غير المطابق لموضوعه (بحكم وجود العديد من الأدلة على فشل الانتقال السياسي منذ لحظته التأسيسية وما حكمها من خيارات كبرى)، أم اعتبرناه خطابا تحفيزيا يعي جيدا مأزق الانتقال السياسي ولكنه يدعو إلى "تعليقه" وتجاوزه براغماتيا (بحكم غياب أي أفق قريب لتجاوز أسبابه الفكرية والموضوعية) فإن الانتقال الاقتصادي- الاجتماعي، ومعه استكمال الانتقال السياسي وإرساء مؤسساته، سيبقى مرتهنا (حتى في صورة إقصاء قلب تونس) للمنظومة القديمة، وما يحكمها من مصالح مادية ورمزية مرتبطة بشبكات "الفساد" ولوبيّاته السياسية والمالية والنقابية والجهوية.

ولا شك في أن المعيار الأهم الذي اتخذه رئيس الحكومة المكلف معيار للتطبيع مع بعض مكونات المنظومة القديمة (ألا وهو التصويت للرئيس قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية) لا يمكن أن يكون معيارا موضوعيا، خاصة إذا ما تذكرنا أن أغلب من صوّت له من المنتمين للمنظومة القديمة (مثل جزء من أنصار حزب تحيا تونس وغيره) لم يكن دافعهم هو الإيمان بمشروعه ولا الرغبة في التمايز عن منظومة الفساد، بقدر ما كان الدافع هو تباين المصالح واختلاف الرهانات الشخصية بين ممثلي المنظومة الفاسدة ذاتها.

لقد أنتج "مسار الانتقال الديمقراطي" واقعا سياسيا هجينا، ولعل أخطر مظاهر تلك الهجنة هو وجود الأحزاب التجمعية- الجديدة. وهي أحزاب استطاعت منذ إفشال قانون العزل السياسي أن تتحول مع "نداء تونس" من هامش الحقل السياسي أو ضديده إلى مركزه ومرجع المعنى فيه، وذلك بحكم تسليم كل الفاعلين بالبورقيبية باعتبارها "الخطاب الكبير"، أي الخطاب المؤسس للمشترك الوطني وللخيارات المجتمعية الكبرى.

ولا يخفى على الدارس للتاريخ التونسي أن للبورقيبية وجها وقفا، وأنها بعملية التحديث المزعومة للدولة- الأمة قد كرّست منطق الدولة الجهوية- الزبونية، رغم اختفائها وراء استعارات الوطنية والحداثة والتقدمية وغيرها. كما لا يخفى على الدارس أن ما يُسمى بمنظومة الفساد ليست إلا نتيجة منطقية لآليات اشتغال السلطة، وكيفيات إنتاجها وتوزيعها للثروات المادية والرمزية في لحظتيها الدستورية والتجمعية. وليست الأزمة الحالية بالتالي إلا تعبيرا عن عجز الثورة عن إنتاج سرديتها الخاصة، بحيث وجدت نفسها تعيد إنتاج المنظومة القديمة، لكن مع تعديلات صورية لا تمس جوهر اشتغال المنظومة القديمة ولا خياراتها الكبرى. ولا شك في أن تواطؤ كل القوى السياسية على منع التفاوض المجتمعي الحر حول "الكلمة السواء" أو المشترك المواطني المؤسس للجمهوية الثانية، سيجعل من هذه الجمهورية مجرد مجازٍ حقيقتُه لحظة ثانية في الجمهورية الأولى.

 

جوهر الأزمة السياسية في تونس هو أن نُخبها ما زالت تحتكم في إدارة البلاد إلى منطق المنظومة القديمة وفلسفتها ورساميلها البشرية والرمزية

ختاما، فإن جوهر الأزمة السياسية في تونس هو أن نُخبها ما زالت تحتكم في إدارة البلاد إلى منطق المنظومة القديمة وفلسفتها ورساميلها البشرية والرمزية. وهو واقع يمكن رده إلى عوامل داخلية (هيمنة الصراعات الهووية وقدرة المنظومة القديمة على توظيف هذه الصراعات لحرف الرأي العام عن قضاياه الحقيقية)، وكذلك هو واقع مردود إلى عوامل خارجية (تدخل القوى الإقليمية والدولية الساعية إلى إفشال الثورة التونسية ومنعها من تحقيق نموذجها الناجح والقابل للتصدير، خاصة من جهة إمكانية الحكم المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين، ومن جهة وجود "إسلام سياسي" غير متعارض مع فلسفة الدولة الحديثة).

ولا شك في أن وجود "قلب تونس" في الحكومة أو عدم وجوده لن يغير إلا قليلا في هذا الواقع. وهو ما يعني أن الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة أو عدم الذهاب إليها لن يؤثرا في بنية السلطة في تونس ولا في خياراتها الكبرى، وبالتالي لن يؤثر في الواقع المعيش للمواطن التونسي. فالأزمة السياسية هي في نهاية التحليل تعبير عن أزمة مجتمعية لا يوجد إلى حد اللحظة من يحمل مشروعا واضحا لتجاوزها، أي لا توجد "الكتلة التاريخية" التي تطرح على نفسها مهمة مواجهة المسؤولين الحقيقيين عنها منذ بناء ما سُمّي بـ"الدولة الوطنية".

التعليقات (0)