قضايا وآراء

وماذا بعد اغتيال سليماني؟!

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
لا شك في أن اغتيال "قاسم سليماني" حدث جلل اهتزت له الأرض في إيران وأذرعها الأربعة في البلدان العربية، فالرجل ليس قائدا عسكريا عاديا، يتولى قيادة فيلق القدس في الحرس الثوري، بل كان الرجل الثاني في دولة الملالي، واستطاع بعقيدته الراسخة في وجدانه أن يتمدد بدولته خارج حدودها ليصل إلى أربع دول عربية هامة ومؤثرة في خريطة الشرق الأوسط (العراق- سوريا- لبنان- اليمن)، ليحقق مشروع إيران التوسعي في المنطقة، وحلم استعادة الإمبراطورية الفارسية التي ولت، ومن أجل تحقيق ذلك أغرق تلك البلدان العربية في بحور من الدماء الذكية!!
 
هذا السفاح الدموي، هو مَن زرع الفتنة المذهبية، ووضع مشروع التمدد المذهبي الإيراني في المنطقة موضع التنفيذ، بعد أن كان كامنا في الأدراج منذ نجاح الثورة الإيرانية، ولم يستطع الخميني نفسه تنفيذه، وإن كان قد وضع بذوره..
 
هذا السفاح الغارق في دماء السوريين والعراقيين واليمنيين، كان يسير كوال لتلك البلدان العربية، مختالا بنفسه، كالطاووس فاردا ريشه.. كان يتنقل بين العواصم العربية بكل أريحية دون أن يعترض طريقه أحد.. كانت تحركاته مكشوفة ومرصودة لدى الأمريكان والصهاينة، وتركوه يكمل مشروعه ليحصدوا هم ثماره!
 
تقول "كريستين فونتين روز"، المسؤولة السابقة عن العلاقات مع الخليج في مجلس الأمن القومي الأمريكي في عهد "ترامب"، لصحيفة "الجارديان" البريطانية يوم الجمعة الماضي: "لقد كان لنا اتفاق شرف مع "قاسم سليماني" حينما كنا ننفذ عمليات ضد داعش بأن قواته لن تستهدفنا ونحن لن نستهدفه".
 
وهكذا استثمروا فيه واستفادوا منه في القضاء على ما يسمى "تنظيم الدولة" في العراق، وهو في حقيقة الأمر ما هو إلا القضاء على "السنة" في العراق وسوريا واليمن، وعندما أصبح لديه فائض قوة والكثير من الغرور والصلف، أمر أتباعه من الحشد "الشيعي" المسمى بـ"الشعبي"، بمهاجمة السفارة الأمريكية في بغداد، ومن قبلها بعض القواعد الأمريكية في العراق، لإرباك المشهد العراقي وخلط الأوراق للقضاء على انتفاضته السلمية، التي تطالب إيران بالخروج من العراق، والتي وضعت إيران في مأزق كبير، وخاصة أنها صُدرت إلى داخل إيران نفسها؛ في مظاهرات عارمة بعد ارتفاع أسعار المحروقات، نالت من المرشد ذاته. ولكن لعبته هذه أنهت "اتفاق الشرف" وعجلت بنهايته المحتومة، فقد شعرت أمريكا بالمهانة، ولتسترد هيبتها في العالم رأت أنه قد جاء الوقت المناسب لقطف سليماني نفسه، والقضاء عليه نهائيا، خاصة بعد ما وردتها أنباء عن اعتزامه شن عمليات عسكرية ضد أهداف عسكرية أمريكية أخرى في العراق وسوريا، كما ذكر ترامب نفسه.
 
يُعد اغتيال "قاسم سليماني" تطورا جديدا للسياسة الأمريكية تجاه إيران، لتقليم أظافرها في العراق وربما في العواصم العربية الأخرى التي تحكمها..
 
بعض المحللين الأمريكيين وصفوا مقتل سليماني بأنه أهم من مقتل ابن لادن والبغدادي، والبعض الآخر حذر من خطورة هذا التصعيد على المصالح الأمريكية في العراق والمنطقة ككل..
 
من المؤكد أن العملية العسكرية الأمريكية التي استهدفت "قاسم سليماني" ونائب قائد الحشد الشعبي "أبو المهدي المهندس" وآخرين، لها دلالتها، وخاصة أنها تمت على الأراضي العراقية، حيث النفوذ الإيراني الكبير، المسيطر على كل مقدرات البلاد، فهي الحاكم بأمره، ولم تتم على الأراضي السورية التي غادرها بطائرة للخطوط السورية، بموافقة رادارات التحالف الأمريكي، فهي تحمل رسالة واضحة أن قواعد الاشتباك قد تغيرت وهذه أولى ضرباته..
 
إنه تصعيد غير مسبوق مع إيران، إلا أنه تم في إطار محدد ولهدف محدد، فلا أمريكا تسعى لحرب مع إيران ولا إيران أيضا تريد محاربة أمريكا رغم طبول الحرب التي تدق بينهما منذ أكثر من ثلاثين عاما..
 
كعادتها دائما، هددت إيران وتوعدت بالويل والثبور وعظائم الأمور، على لسان المرشد الأعلى للثورة "علي خامنئي" ورئيسها "حسن روحاني" ووزيرا دفاعها وخارجيتها، بانتقام مؤلم جراء جريمتها النكراء هذه، وأن الشعب الإيراني والشعوب الحرة الأخرى بالمنطقة ستأخذ الثأر من أمريكا المجرمة!
 
والسؤال الذي يشغل العالم كله منذ لحظة الاغتيال: كيف سترد إيران على هذه الضربة الأمريكية الموجعة؟ وكيف ستثأر لمقتل رجلها الأسطوري، رجل المهام الصعبة؟
 
أعتقد أن لدى الإيرانيين خطة مسبقة قبل عملية الاغتيال، بكيفية المواجهة مع أمريكا في حال اشتد الصراع بينهما ووصل إلى ذروته كما هو الآن، خاصة بعد إسقاط الطائرة الأمريكية المسيّرة وضرب ناقلات البترول واحتجاز السفينة البريطانية، والتي تخطتها أمريكا (بمزاجها) ولم تشأ أن تصعد المواقف بينهما، مكتفية بالعقوبات الاقتصادية السابقة عليها..
 
مما لا شك فيه، أن إيران لديها أوراق مهمة في المنطقة تستطيع أن تضر المصالح الأمريكية فيها، ولاحظ أن الرئيس روحاني قال "إن الشعوب الحرة في المنطقة" ستثأر لمقتل سليماني، إذن فهو يلوح بأذرعه في لبنان ممثلة في "حزب الله". وقد تلقى الحزب الرسالة سريعا، على لسان أمينه العام "حسن نصر الله" قائلا: " سليماني ليس شأنا إيرانيا، بل يعني كل محور المقاومة، وإن القصاص العادل لاغتيال سليماني سيكون عبر إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، والاستشهاديون الذين قاموا بإخراج أمريكا من المنطقة في السابق لا زالوا موجودين، وهم الآن عبارة عن شعوب وقوى وفصائل وجيوش تمتلك إمكانات للقيام بذلك"..
 
أما أذرعه الأخرى في اليمن ممثلة في "الحوثيين"، فكان سقف طموح زعيمهم أقل من "نصر الله"، وتوعد فقط بقتل جنرال أمريكي كبير. وفي العراق، نجد الذراع الإيراني ممثلا في "الحشد الشعبي" الذي ولد على أيدي "سليماني"، وجعله أقوى قوة عسكرية في العراق، وسن له قانونا خاصا ليجعله قوة شرعية في العراق تضاهي الجيش العراقي، والذي يأتمر أيضا بأوامره. لقد أقر البرلمان العراقي قرارا يلزم الحكومة بالعمل على إخراج القوات الأجنبية من البلاد، ما دفع ترامب إلى التهديد بفرض عقوبات على بغداد، مضيفا: "عقوبات لم يروا مثلها من قبل، وستكون عقوبات إيران بجوارها شيئا صغيرا، وعليهم أن يدفعوا لواشنطن تكلفة القاعدة الجوية التي احتاجت مليارات الدولارات لبنائها، لن نغادر إلا إذا دفعوا لنا تكلفتها".
 
ولنلق نظرة على حجم التواجد العسكري الأمريكي في العالم لنعرف هل في استطاعة إيران إحداث ضربة موجعة لأمريكا كما هددت.. أمريكا لديها أكثر من 800 مركز أو قاعدة عسكرية في مختلف أنحاء العالم، يتمركز فيها حوالي 70 ألف جندي في الشرق الأوسط وحوله، يتوزعون على 36 قاعدة أو مقر حول إيران، منهم 14 ألفا في أفغانستان، وسبعة آلاف في البحرين، وثمانية آلاف في العراق، بعد أن أرسلت ثلاثة آلاف جندي مؤخرا عقب اغتيال سليماني، و13 ألفا في الكويت، و13 ألفا في قطر، وثلاثة آلاف في السعودية، وثلاثة آلاف في الأردن، وخمسة آلاف في الإمارات، هذا بخلاف القوات العسكرية في المياه المحيطة بالمنطقة..
 
فهل تستطيع إيران اصطياد صيد ثمين، له رمزيته ودلالته الاستراتيجية من تلك القواعد؟!
 
تستطيع ولكنها لا تجرؤ على الإقدام على مثل هذا الفعل لأنها لا تأمن عواقبه، فربما يجرها لحرب شاملة مع أمريكا، وهي لا تريد الحرب المباشرة على أرضها، بل تصدرها لأذرعها في البلدان العربية، لتشن الحرب بالوكالة عنها. والساحة المهيأة الآن للقتال هي العراق، وهذه هي المأساة الكبرى، أن تصبح بلادنا العربية ساحات للصراع بين الدول، ويكون ضحاياها من أبنائها العرب الذين ليس لهم فيها ناقة ولا جمل..
 
تتسم السياسة الإيرانية بالحنكة والدهاء والنفس الطويل، وكما فعلت في ملفها النووي، وحققت ما تريده في الاتفاقية المبرمة بينها وبين الاتحاد الأوروبي وأمريكا في عهد أوباما، قبل أن يلغيها ترامب، ستفعل نفس الشيء لتخرج من هذا الاغتيال بمكاسب آنية وبعيدة المدى أيضا تخدم استراتيجيتها. نعم سيكون رد فعلها متأنيا ومدروسا قبل الإقدام على أي فعل ثأري، وخاصة أن الاغتيال جاء قبل أيام من انتهاء مهلة الستين يوما (الرابعة)، تلك المهلة التي منحتها إيران للأطراف الأوروبية لتنفيذ تعهداتها تجاه الاتفاق النووي، لذلك كان من المتوقع أن تعلن انسحابها من الاتفاق، خاصة أن ألمانيا وبريطانيا أيدتا عملية الاغتيال. وهددت إيران أيضا بأنها ستخصب اليورانيوم بنسب أعلى من الاتفاق، كنوع من المناورة ولكسب مزيد من التأييد الشعبي لقادتها..
 
في تصوري أن رد فعل إيران لن يتعدى التصعيد الإعلامي لإرضاء الشارع الإيراني، ثم عملية عسكرية محدودة من أحد أذرعها ضد موقع أمريكي في المنطقة، لا ترقى لمستوى الحدث، كي تحفظ ماء وجهها أمام شعبها وحلفائها، تنتهي بتدخلات ووساطات دولية للعودة لمائدة المفاوضات لحل المسائل العالقة، بدءا من العراق إلى سوريا وصولا لليمن وإبرام اتفاق نووي جديد.. 
 
وأكاد أن أجزم بأن هذه المفاوضات قد بدأ الإعداد لها من يوم الاغتيال، ومما يؤكد ذلك تغريدة "ترامب" والذي قال فيها: "إيران لم تربح حربا ولكنها لم تخسر في أي مفاوضات"، وتصريحه الملتبس "مقتل سليماني لمنع الحرب وليس لإشعالها".
 
هذان التصريحان يؤكدان ما وصلنا إليه ويلخصان مستقبل الأزمة. وقد قلنا من قبل إن الطرفين لا يريدان الحرب ولا يسعيان لها، وإنما سيكون هنالك رد إيراني مقبول ينفس غضب الجماهير، يعقبه الدخول في مفاوضات تحقق فيها، أحلامها التاريخية بالهيمنة على المنطقة بموافقة أمريكية..
 
إنها لعبة السياسة التي تجيدها أمريكا وإيران جيدا، ولا عزاء لانتفاضة الشعب العراقي، التي كادت تطيح برجال إيران وتنهي نفوذهم في العراق، لقد قتلت في مقتل، وارتاحت منها إيران، بعد مقتل سليماني!!
التعليقات (0)