كتاب عربي 21

استحالة الحياد التونسي في ليبيا

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600

تستعر نار الحرب في ليبيا، وكلما فعلت جذبت وغرست عميقا في الأرض الليبية مصالح معقدة أكثر لأطراف غير ليبية. ومن المفارقات أن الأطراف الأقرب لليبيا هي الأقل تأثيرا من أطراف تبعد مئات وآلاف الأميال عن ليبيا، و"التورط النوعي" المتزايد لأنقرة مثال على ذلك.

وعندما نرى أن الطرف التركي، عبر الرئيس أردوغان، أكثر جدية وسرعة وحيوية في سياسته إزاء ليبيا من السياسة التونسية هناك، فإننا لا نفعل إلا أن نشهد هذه المفارقة في آخر تجلياتها.

الزيارة التي تمت بشكل مفاجئ للرأي العام، أتت في إطار جدال متصاعد حول "تدخل عسكري تركي محتمل" في لبيبيا، هو الأول من نوعه بهذا الشكل الرسمي والواضح إثر الاتفاق المشترك حول الحدود البحرية بين أنقرة وحكومة السراج. فالزيارة وضعت الرئيس التونسي إزاء أول اختبار جدي في سياسته الخارجية، وأضحى مجال استهداف وتشكيك داخلي وخارجي، رغم أنه في الحقيقة لم يتكلم كثيرا، أو ربما لأنه لم يتكلم كثيرا.

 

 

الزيارة التي تمت بشكل مفاجئ للرأي العام، أتت في إطار جدال متصاعد حول "تدخل عسكري تركي محتمل" في لبيبيا

نقف أولا على ملاحظات أساسية على هامش زيارة أردوغان إلى تونس هذا الأسبوع:

- هناك فرق بين زيارة غير معلنة مسبقا (حتى وسائل الإعلام الدولية المقيمة في تركيا لم تعلم بها إلا اليوم) وزيارة مفاجئة. بمعنى آخر، يمكن أن يتم تحضير زيارة ثنائيا ويقع الاتفاق على عدم الإعلان عنها إلا يومها. هذا ما حصل في اعتقادي في زيارة أردوغان، لكن الفرق ربما أن الرئاسة لم تُعلم الإعلام الرسمي في الوقت المناسب.

- أعتقد أن الجانب التونسي تعمد التقليل من الحضور العسكري والأمني التونسي في الوفد الذي التقى الجانب التركي، واكتفى بحضور ديبلوماسي، بعكس الأتراك. وهذا يعكس رغبة على الأرجح في التركيز على تباحث ديبلوماسي، والتعلل بغياب حكومة، وتجنب أي التزامات في خصوص طلب تركي محتمل في الأسابيع القادمة لتسهيلات ذات أبعاد عسكرية واستعلاماتية ولوجيستية.

- الرئيس قيس سعيد أبدى مسافة من الاتفاق التركي مع حكومة التوافق حول الحدود المائية في إطار أنه لا يخص تونس، ومن ثم مسافة من الاستتباعات العسكرية والأمنية للاتفاقية، ومن ثم البوصلة يجب أن تكون المصالح العليا للدولة التونسية.

 

 

 

الرئيس قيس سعيد أبدى مسافة من الاتفاق التركي مع حكومة التوافق حول الحدود المائية في إطار أنه لا يخص تونس، ومن ثم مسافة من الاستتباعات العسكرية والأمنية للاتفاقية


- الملخص في رأيي أنه لم يكن ممكنا تجنب الزيارة ومن ثم ضرورة الحفاظ على علاقة جيدة مع أنقرة دون التورط في اصطفاف واضح معها، خاصة أننا لسنا إزاء لحظة 2011 حينما كان هناك توافق دولي واسع على عمليات عسكرية في ليبيا.

- كل ذلك لا يمنع غموض السياسة الخارجية لقيس سعيد في ليبيا، خاصة بعد استقبال طرف ليبي بدون وزن جدي يدعي تمثيل "القبائل الليبية" (عبر "وسيط" ليبي مقيم في تونس حوله أسئلة عديدة) بما يوحي بعدم الجدية في مقاربة هذا الملف.

ماذا يجب أن تفعل تونس في ليبيا؟

أولا، أن تعلم أنه يجب أن تعلن "الحياد"، مثلما فعل بيان رئاسة الجمهورية بوضوح بإعلانه عدم الاصطفاف، لكن أن تمارس في نفس الوقت التموقع. إذ الديبلوماسية هي قول ما يمكن أن يكون عكس ما نفعل، فقط يجب القيام بالقول بأكثر ما يمكن من الكياسة والفعل بأكثر ما أمكن من الدقة والحسم.

لا يمكن أن نكون محايدين فعلا، فلم نكن كذلك قبل الثورة (التموقع البورقيبي ثم لابن علي في الاستراتيجيا الامريكية) ولا يمكن موضوعيا أن نكون بعدها، إذ إن الاصطفاف هو حول الثورات والديمقراطية، وتونس وليس غيرها هي التجربة الوحيدة الحية والباقية من زلزال الثورات وما تبعه من اصطفافات. فقط تونس لا يمكن أن تكون رأس حربة لظروف موضوعية أيضا، أي وزنها وثقلها المتواضع.

 

 

لا يمكن أن نكون محايدين فعلا، فلم نكن كذلك قبل الثورة (التموقع البورقيبي ثم لابن علي في الاستراتيجيا الامريكية) ولا يمكن موضوعيا أن نكون بعدها


ثانيا، لا يمكن أن نكون في مبادرة سياسية بدون رؤية واضحة، ولا يمكن أن تكون الرؤية الواضحة إلا أفقا سياسيا يتمحور حول انتخابات حرة ليبية. من يريد أن يشترط الانتخابات بوضعها تحت تاثير سلاح الحرب وظلال الدبابات لا يمكن التوسط معه، وهو لا يستهدف فقط الاستقرار في ليبيا بل سيستهدف استراتيجيا الاستقرار في تونس.

لا يمكن تجاوز حفتر، ولا يمكن تجاوز التركيبة القبلية والحضرية والمناطقية التي يمثلها في أي حل سياسي، لكن لا يمكن أن يكون حفتر كما هو الآن وبرؤيته التي تعتبر الحرب وليس الانتخابات هي الحل؛ جزءا من الحل. لا يوجد حياد ممكن إزاء ذلك واقعيا، مهما غلفنا ديبلوماسيتنا بالتنميق والإنشاء.

ثالثا، لتونس أسس موضوعية لتكون ذات تاثير نوعي في الغرب الليبي. دعونا لا نغش أنفسنا.. ليبيا لا تزال أساسا ثلاث مناطق، الشرق تحت التاثير المتزايد حتى قبليا للطرف المصري، الجنوب وفزان وحساسيتها تجاه مجال أفريقيا جنوب الصحراء بتنوعه السوداني والتوارغي، وأخيرا الغرب الليبي حيث توجد تركيبة متنوعة مدينية- قبيلة- عربية، أمازيغية-إباضية، وجميعها ترتبط بأواصر تاريخية وتجارية وروحية وعاطفية وذهنية بتونس.

وهنا تونس بقيت في السنوات الأخيرة تنظر إلى ليبيا فقط كصداع أمني، وليس فرصة لبناء ديبلوماسية ناجعة ونشطة. من الطبيعي أن لا تتم استضافة تونس وأن تصبح تركيا البعيدة وسيطا لها للحضور في مؤتمر برلين، عندما يتم استدعاء طرف خامل يرغب فقط في أن يكون محطة استقبال للأطراف الفاعلة. لا يحدد الآخرون دورك، بل تحدده في نهاية المطاف بنفسك.

بالتوازي مع ذلك لا يمكن أن نشاهد أي تطورات عسكرية من بعيد أو بغرس رؤوسنا في رمال الصحراء الكبرى، فإن لم نتعامل مع أي تصعيد حربي فسيتعامل معنا. فمن الضروري الإسراع بالتشاور مع الأتراك وتنسيق الموقف بيننا. هم لا يستطيعون الولوج إلى ليبيا بدوننا، ونملك مصلحة مشتركة في إبقاء الحسم بين ظهرانينا.

 

يجب التهيؤ أيضا للتنسيق مع الأطراف الأوروبية التي تفهم أن الحسم العسكري غير جدي ومستحيل المنال، وحتى أنت على مسافة وحتى تناقض مع أنقرة من المهم البناء على قاعدة نبذ الحل العسكري، وأولوية الانتخابات.

 

 

التعليقات (1)
جزائري أصيل
الجمعة، 27-12-2019 05:18 م
لا مجال للحياد في مثل هده الصراعات المصيرية، وخاصة الصراعات التي تحصل على الحدود لأي دولة. ومن هدا فإن تونس والجزائر والمغرب كلها معنية بما يحصل في ليبيا، وإن النار التي تشتعل فيها لن تتوقف في ليبيا بل تنتقل شرارتها إلى دول الجوار وخاصة إدا علمنا أن أطراف شيطانية تصب الزيت على النار مثل شيطان العرب بن زايد وخادمه المجرم بن سلمان، ضف إلى تدخل روسيا والكيان الصهيوني وفرنسا. يجب على دول الجوار ( تونس, الجزائر، المغرب) أن تتدخل وتنظم إلى تركيا لدعم الحكومة الشرعية في ليبيا والمعترف بها دوليا.