قضايا وآراء

الليبرالية ـ الديمقراطية ـ العلمانية.. أسئلة عربية

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

لم يعد بالإمكان في مجتمعات ما بعد الحداثة السياسية إجراء فصل عملي أو نظري بين مقولات الليبرالية والديمقراطية والعلمانية، فمن الاستحالة بمكان تصور انفصال هذه المفاهيم عن بعضها البعض في البلدان الديمقراطية ـ الليبرالية.

لكن، هل ينطبق هذا الوضع على العالم العربي اليوم وهو ما يزال لم يدخل بعد بوابة الحداثة السياسية؟ بعبارة أخرى، هل يمكن فصل هذه المقولات عن بعضها البعض على المستوى العربي، أم أن التطور السياسي البشري يحتم بالضرورة تعميم خلاصة التجربة الغربية ونتائجها على مختلف التجارب العالمية؟

في بداية الحداثة الأوروبية لم يكن ثمة ترابط بين هذه المقولات، لا على المستوى النظري ولا على المستوى العملي، فالحداثة الأوروبية لم تكن ديمقراطية في بواكيرها، بل كانت ليبرالية، حيث كان المفكرون آنذاك ليبراليين هدفهم إنهاء تراتبية السلطات السياسية والاجتماعية، وإنهاء الأساس الغيبي للحكم والتراتبية الاجتماعية الموروثة.

جرى التأكيد على ضرورة إنشاء مجال للمجتمع المدني يجد الأفراد فيه حريتهم، فالمطلوب تحقيق الحرية الفردية وحماية الملكية الخاصة وليس المشاركة الفردية في الحكم، ومن هنا قبل النبلاء بالليبرالية وليس بالديمقراطية التي كانت تعني الفوضى السياسية.

 

إن الانتخابات هي مؤشر رئيس على أن مأسسة النظام قد بدأت بالفعل، لتبدأ بعدها عملية تطوير وترسيخ الديمقراطية كممارسة ووعي إلى جانب طرح الأسئلة الليبرالية والعلمانية ضمن فضاء سياسي جديد قائم على التعددية


تم الانتباه للديمقراطية مع الثورة الأمريكية ومن ثم الفرنسية التي تحدثت باسم الشعب، غير أن إرهاب اليعاقبة أيقظ الرعب تجاه الديمقراطية التي عنت آنذاك حكم الرعاع.

مع ظهور فكرة التمثيل وفصل السلطات، بدأ الاهتمام يزداد نحو الديمقراطية حسب نظرتنا اليوم، فلم يتم استخدام كلمة الديمقراطية آنذاك، وإنما استخدمت كلمة الجمهورية كتعبير عن النظام الجمهوري.

ومع ذلك، ظل كثير من القادة السياسيين يخشون الديمقراطية العامة لما يمكن أن تؤدي إلى انتهاك في الحقوق الفردية.

من المحتمل أن تكون دولة ليبرالية من دون أن تكون ديمقراطية، وأي نظام شديد المركزية يفضل أن يمنح الحقوق الفردية لتسهيل النمو الاقتصادي، وعمليا، عرضت الحكومات الليبرالية مبكرا حق تصويت مقيدا جدا، وتوزيع السلطة التي كانت أوليغاركية بامتياز.

يمكن تخيل ليبرالية من دون ديمقراطية على المستوى التاريخي والنظري فقط، أي تخيل حكم نخبة أرستقراطية، أما على المستوى الواقعي المعاصر، فلا يمكن تصور نشوء ليبرالية سياسية من دون ديمقراطية، وإن كان من الممكن تصور نشوء ليبرالية اقتصادية محدودة من دون ديمقراطية.

لقد تلاقت الديمقراطية والليبرالية عند المفصل التاريخي بين نهاية الحداثة وبداية ما بعد الحداثة، مع اكتشاف مخاطر استبداد الاشتراكية ومخاطر الحرية الفردية المنفلتة من أية ضوابط.

عن الديمقراطية والليبرالية

ولم يعد ممكننا تصور الفصل بين الديمقراطية والليبرالية، فالأولى تعني انتخابات دورية ومنافسة حرة وعادلة بين المرشحين والأحزاب ومجلس تشريعي منتخب، أما الثانية، فتعني حماية الحريات السياسية والمدنية وفق الإجراءات الوقائية الدستورية، ونظام قضائي وقانوني مستقل.

إن غياب أي من الديمقراطية أو الليبرالية سيؤدي إلى خلل في المجتمع السياسي، فالحكومة المنتخبة التي لا تحمي الحريات المدنية يمكن أن تكون استبدادية، عبر السماح لمجموعة عرقية بقمع الحريات السياسية للمجموعات العرقية الأصغر، بالمقابل، فإن وجود نظام قانوني نزيه وحماية الحقوق من دون انتخابات حرة يمكن أن يخلق مجتمعا مفتوحا نسبيا، ولكن تحت حكم طبقة أوليغارشية.

 

لا يمكن تصور نشوء ليبرالية سياسية من دون ديمقراطية، وإن كان من الممكن تصور نشوء ليبرالية اقتصادية محدودة من دون ديمقراطية.


لا يعني كل ما تقدم أن الانتقال من النظم الاستبدادية إلى النظم الديمقراطية يتطلب وجود علاقة متداخلة بالتساوي بين الليبرالية والديمقراطية والعلمانية كما هو حاصل الآن في الغرب الديمقراطي ـ الليبرالي.

في العالم العربي، تبدو الحاجة إلى الديمقراطية أكثر إلحاحا من الليبرالية والعلمانية، دون استبعادهما.

بمعنى آخر، إن الضرورة التاريخية الناجمة عن التمفصلات السياسية في العالم العربي تتطلب الإصرار على الديمقراطية أولا، أي على إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتداول سلمي للسلطة، وفصل في السلطات، وتحقيق دولة المواطنة وسيادة القانون.

فمن دون ديمقراطية تبدو الليبرالية والعلمانية مجرد كلمات مبتذلة خالية من أي محتوى، فقد شهدت التشيلي مع بنيوشيه ليبرالية اقتصادية ضمن نظام استبدادي قاهر، في وقت يتباهى النظام السوري أو المصري على سبيل المثال بعلمانيته، وهي علمانية من نوع ما، ولم تصل إلى مستوى حياد الدولة إزاء الظاهرة الدينية، وهكذا، تصبح الليبرالية والعلمانية مشوهتين في ظل الغياب الحقيقي للديمقراطية.

الليبرالية والعلمانية في العالم العربي

لقد كشفت التجربة السورية والمصرية وتجارب عربية أخرى، أن الليبرالية والعلمانية المتبجح بهما، ليستا سوى وهمين، فالليبراليون أو من يدعون أنهم كذلك لا يدافعون عن الحريات المدنية والسياسية ولم يفهموا من الليبرالية سوى التعصب لنمط حياة محدد، وإن كان نمط الحياة هذا خاضعا لحكم استبدادي.

أما الحريات المدنية (حرية تكوين الجمعيات، حرية التجمع، حرية المعتقد، حرية التعبير) والحريات السياسية (حرية المشاركة السياسية، حق الترشح في الانتخابات، حرية تكوين الأحزاب) فهي حالة ترفية ليس المجتمع مهيء لها، في تماه واضح مع خطاب النظام التسلطي.

المطلوب الآن التركيز على الديمقراطية ونشر الثقافة الديمقراطية ليس بين عوام المجتمع فحسب، بل أيضا بين النخب، لأن الديمقراطية تحقق أمرين مهمين هما المشاركة والمنافسة.

تنبه محمد عابد الجابري مبكرا إلى ضرورة الابتعاد عن العلمانية والتركيز على العقلانية والديمقراطية، والسبب في ذلك أن الجابري اعتبر مسألة العلمانية على المستوى العربي مسألة زائفة أو مصطنعة.

يقول الجابري "إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة هي حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها بل ومشروعيتها عندما يعبر عنها بشعار ملتبس كشعار "العلمانية".

قد لا يكون الجابري قد جانب الصواب في موقفه من العلمانية، لكنه جانب الصواب حين أكد على أولوية الديمقراطية عربيا، وهو موقف ذهب إليه عزمي بشارة لأسباب مختلفة لا علاقة لها بالمصطلح، وإنما لها علاقة بالظرف التاريخي التي تمر بها الأمة العربية، خصوصا في البلدان التي شهدت الربيع العربي.

بالنسبة لبشارة، إن طرح مسألة العلمانية عشية الانتقال الديمقراطي بين علماني وديني، سيؤدي إلى طرح مسألة الهويات، وبالتالي الذهاب إلى الاحتراب الأهلي بدلا من  الذهاب نحو التعددية في إطار الوحدة السياسية.

إن التجارب العربية في تونس ومصر وسوريا واليمن، تتطلب التركيز على الديمقراطية وتثبيت عملية تداول السلطة بشكل سلمي، وإشراك الشعب في عملية الاختيار كمقدمة ضرورية على المستوى التاريخي للولوج إلى مرحلة الحداثة، على أن تجيب الديمقراطية ذاتها فيما بعد على الأسئلة السياسية الاجتماعية وتقدم الإجابات لها.

إن التركيز على الديمقراطية من دون الليبرالية والعلمانية أمر غير كاف، فقد تنبهت الباحثة تيري لن كارل إلى أن الانتخابات قد لا تنهي مرحلة الانتقال، لأن احتمال الارتداد إلى حكم الفرد يبقى قائما، فالانتخابات في حد ذاتها لا تضمن مطلقا رسوخ النظام الديمقراطي.

كما أن الأنظمة المنتخبة ديمقراطيا كثيرا ما تتجاهل القيود الدستورية المفروضة على سلطتها وتحرم مواطنيها من حقوقهم وحرياتهم الأساسية.

ومع ذلك، فإن الانتخابات هي مؤشر رئيس على أن مأسسة النظام قد بدأت بالفعل، لتبدأ بعدها عملية تطوير وترسيخ الديمقراطية كممارسة ووعي إلى جانب طرح الأسئلة الليبرالية والعلمانية ضمن فضاء سياسي جديد قائم على التعددية، وإن كان هذا الفضاء ما يزال في بواكيره الأولى.

*كاتب وإعلامي سوري

التعليقات (0)