قضايا وآراء

أفكار في التوافق (1)

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

في السياق السياسي التونسي، قد لا تبلغ التوافق ما بلغته مفردة العلمانية من "سوء السمعة"، على حد تعبير المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، ولكنها بلا شك من المفردات التي يحكمها مبدأ "الازدواجية النفسية" (Ambivalence) الذي يُعبّر عن وجود شعورين متناقضين تجاه الموضوع نفسه. فلا أحد في تونس ضد التوافق بين مكونات الطيف السياسي (أو على الأقل بعضها)، ولكن التوجّس خيفة منه أو الخلاف حوله، يبدأ عند تحديد الأطراف المعنية به والأسس التي ينبغي أن يقوم عليها. ولا شك في أنه لا يمكن فهم الواقع التونسي من غير الإقرار بوجود "توافقات أساسية" تحكم مختلف الفاعلين الجماعيين. ومن المرجح أن يكون لتلك التوافقات تأثير كبير في الاصطفافات الكبرى والرهانات القصوى التي تحكم الفرقاء داخل الحقل السياسي وخارجه.

ولعل ما يزيد من هلامية هذا المصطلح السياسي؛ هو عدم خضوعه لضبط دقيق واستعماله المرسل في خطابات تبلغ حد التناقض أحيانا. وقد أصبح هذا المصطلح من أكثر المصطلحات السياسية رواجا بعد انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية، وما أعقبهما من توافق بين حركة نداء تونس، باعتبارها القاطرة السياسية لورثة المنظومة القديمة، وبين حركة النهضة الإسلامية، باعتبارها جسما طارئا على المشهد السياسي "المعلمن" قسريا خلال لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية، وباعتبارها أيضا ممثلة لفئات وجهات وأيديولوجيا، مورس عليها قمع أجهزة الدولة البوليسية والأيديولوجية قبل الثورة، وما زالت تعاني من "الوصم" والرفض من "سدنة النمط المجتمعي" حتى بعد الثورة.

 

ما يزيد من هلامية هذا المصطلح السياسي؛ هو عدم خضوعه لضبط دقيق واستعماله المرسل في خطابات تبلغ حد التناقض أحيانا

وبصرف النظر عن تبريرات الحركتين لالتقاء "الخطين المتوازيين" على حد تعبير المرحوم الباجي قائد السبسي"، فإن لحظة التوافق الندائي- النهضوي مثّلت مرجع المعنى للمصطلح عند مختلف المتدخلين في الشأن العام، وهو ما يعني الحكم السلبي عليه بما هو مجرد تبرير مخاتل لعودة المنظومة القديمة بغطاء نهضوي. وقد لا نحتاج إلى اعتماد الأرقام والإحصائيات لبيان عمق الأزمة التي كرّسها التوافق في مختلف المجالات، ولكنّ فشل التوافق ما بين 2014 و2019 لا يعني انتفاء الحاجة إليه، على الأقل لتنظيم المشهد السياسي المتشظي بحكم قانون أفضل البقايا الانتخابية، وبحكم استحالة أن تُحكم تونس دون تسويات وتفاهمات تتجاوز الحقل السياسي بالمعنى الدقيق للكلمة.

لقد كان التوافق الندائي- النهضوي لحظة سياسية براغماتية بامتياز، ولكنها براغماتية "هشة" أو عرجاء لأنها تحمل تناقضات داخلية تحول دون نجاح الالتقاء الاضطراري بين "الخطين المتوازيين"؛ فمن جهة أولى لم يسبق التوافقَ تأسيس نظري صلب للالتقاء بين الإسلاميين والعلمانيين بصورة عامة، كما لم يكن التوافق (من جهة ثانية) محكوما باستحقاقات الثورة أو بالمطلب الإصلاحي، بقدر ما كان محكوما باستراتيجية المنظومة القديمة لإعادة التموقع والانتشار داخل مؤسسات الدولة، وباستراتيجية النهضة لمنع الاستئصال (أو انغلاق المنظومة القديمة بمكوّنيها التجمعي واليساري على نفسها)، وتأكيد جديتها في المصالحة مع الدولة، دون أي رغبة حقيقية في تعديل آليات اشتغالها أو سياساتها وخياراتها الكبرى.

 

لم يسبق التوافقَ تأسيس نظري صلب للالتقاء بين الإسلاميين والعلمانيين بصورة عامة، كما لم يكن التوافق محكوما باستحقاقات الثورة أو بالمطلب الإصلاحي، بقدر ما كان محكوما باستراتيجية المنظومة القديمة لإعادة التموقع والانتشار داخل مؤسسات الدولة

وانطلاقا من الملاحظة السابقة، يمكننا أن نقول إن تجربة التوافق الندائي- النهضوي كانت تجسيدا سيئا لهذا المطلب السياسي، ولكنها ليست بالضرورة تجسيده النهائي، أي ليست صيغته التي لا يمكن تجاوزها واقعيا إذا ما تغير. ولذلك، فإن من يحكم على فشل التوافق بصورة مطلقة ونهائية، هو كمن يحكم على الديمقراطية أو الحداثة أو حقوق الإنسان انطلاقا من علاقة هذه القيم بمدّعيها أو المتاجرين بها في سوق الخيرات المادية والروحية. ولكنّ حتمية التوافق كشرط/ أفق للفعل السياسي لا ينبغي أن ينسينا ضرورة تأسيسه على منطق مختلف عن المنطق السائد، سواء في صوته السياسية الصرف، أو في صوره المنتشرة داخل مختلف المجالات النقابية والثقافية والإعلامية وغيرها.

لقد كان التوافق الندائي- النهضوي تعبيرا عن "موازين ضعف" حكمت طرفيه، كما كان تعبيرا عن قوة المنظومة القديمة، ولم يكن أبدا تعبيرا عن قوة النهضة أو عن قدرتها على تعديل منطق المنظومة السلطوية وخياراتها الكبرى، أو حتى تهديد مصالح نواتها الجهوية-الزبونية الصلبة، ولذلك يمكننا اعتباره أسوأ أنواع التوافق الممكنة نظريا (بحكم انعدام الشروط الفكرية والموضوعية للأنواع الأخرى أو عدم اكتمالها)، فهذا التوافق لم ترتفع مطالبه حتى إلى مستوى إصلاح أجهزة الدولة وتغيير علاقاتها اللامتكافئة مع مراكز النفوذ خارج أجهزة الدولة، بل كان تأقلما مع منطق تلك اللوبيات المالية والجهوية والزبونية وخضوعا لشروطها، وهو خيار كانت له كلفة اقتصادية واجتماعية باهظة، ولكن كان له أيضا كلفة سياسية باهضة على طرفيه: اندثار نداء تونس وانحسار القاعدة الانتخابية للنهضة بصورة ملموسة.

بحكم ما مثّله التوافق البراغماتي (أو الانتهازي) بين النداء وحركة النهضة من لحظة سياسية سالبة في تونس، اتجهت الأنظار بعد انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية إلى القوى المحسوبة على الثورة (بما فيها حركة النهضة إثر وعودها الانتخابية بمحاربة الفساد وعدم التوافق مع ممثليه)، إلى تجسيد اللحظة الموجبة لهذا الخيار السياسي، ولكنّ تأزم العلاقة بين الرباعي الأساسي المشكل لهذه القوى (النهضة، التيار، حركة الشعب، ائتلاف الكرامة) كسرت أفق الانتظار وجعلتنا أمام مشهد سياسي هو أقرب إلى الانسداد منه إلى تجسيد فرصة تاريخية لتحقيق التوافق، سواء أكان لإصلاح المنظومة نفسها كحد أدنى، أو تغيير آليات اشتغالها وخياراتها الكبرى كحد أقصى، وهو مشهد سنحاول (إن شاء الله) أن نتدبر حدوده وممكناته ورهاناته في الجزء الثاني من المقال.

التعليقات (0)