قضايا وآراء

مسار ترسيخ الديمقراطية في تونس

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
انتخب التونسيون يوم البارحة الأحد (6 تشرين الأول/ أكتوبر 2019) أعضاء "مجلس نواب الشعب"، المكون من 217 مقعدا، للمرة الرابعة عشرة منذ استقلال البلاد، والثالثة بعد اندلاع الثورة عام 2011، والثانية في حياة البرلمان الحالي، أي "مجلس نواب الشعب".

وقد شهدت حلبة التنافس 15 ألف مرشح، ينتمون إلى قوائم حزبية متعددة ومتنوعة، أما نسبة الإقبال على الاقتراع فلم تتجاوز، بحسب إعلان "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات"، 41.3 في المئة داخل البلاد، بينما لم تتجاوز في المهاجر 16.4 في المئة، وهو معدل منخفض عن نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية السابقة.

أضافت تونس بإجراء هذه الانتخابات، التي لم تُسجل فيها خروقات ولا شوائب، لبنةً جديدة في مسار ترسيخ التحوّل الديمقراطي، وستُضيف الأحد المقبل (13 تشرين الأول/ أكتوبر 2019)، بتنظيم الطور الثاني من الانتخابات الرئاسية، حلقةً أخرى في مسار بنائها الديمقراطي.

بيد أن التجربة التونسية وإن أثبتت تميّزها في مجمل محطات هذا المسار الانتقالي، فقد واجهت وستواجه عددا من التحديات التي من شأنها تعقيد سيرورة الانتقال، أو إطالة أمد ترسيخ مؤسساته. فتونس اليوم أمام احتمال انتخاب رئيس دولة مستقل ولا انتماء له، أي بدون غطاء سياسي أو حزبي، باستثناء غطاء الشرعية الانتخابية.

وبحسب استطلاعات رأي أنجزتها شركة "سيغما كونسايي"، فقد تصدرت حركة النهضة قائمة المتنافسين بـ 17.5 في المئة، يليها "حزب قلب تونس" بـ 15.6 في المئة، بينما حلّ حزب "الدستوري الحر" في الدرجة الثالثة بـ6.8 في المئة، و "ائتلاف الكرامة" في الصف الرابع بـ6 في المئة، و"التيار الديمقراطي" في الرتبة الخامسة بـ5.1 في المئة. وإذا تأكدت صحة هذه الاستطلاعات، فإن البرلمان المقبل سيكون فسيفسائي التكوين، وستعقد تركيبته إمكانيات بناء تحالفات من أجل تنصيب الحكومة المقبلة، ناهيك عن الصعوبات التي تنتظره في وضع النصوص التشريعية، ومراقبة السياسات العمومية للسلطة التنفيذية.

إلى جانب هذا الاستطلاع الذي يُنتظر أن يؤكد الإعلان الرسمي عن الفائزين يوم الأربعاء (9 تشرين الأول/ أكتوبر 2019) صحة نتائجه أو يُنفيها، توالت تصريحات بعض قادة الأحزاب المتنافسة مباشرة بعد مرور دقائق على إغلاق مكاتب التصويت في عموم التراب التونسي. فزعيم حركة النهضة "راشد الغنوشي"، صرح بأن فوز حزبه "لا غبار عليه"، وأنه لم يكن سهلا، بل جاء بعد عمل مستمر وشاق، وأن أمام تونس العديد من التحديات التي يجب تجاوزها في الاقتصاد، واستتباب الأمن، ومحاربة الفساد، والتقليص من الاختلالات الاجتماعية، في حين ذكر مراسل قناة الجزيرة أن المرشح الرئاسي "نبيل القروي" أعلن عن فوز حزبه "قلب تونس" بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية.

ففي كل الأحوال، وسواء أكانت النهضة هي متصدرة النتائج أم حزب "قلب تونس"، فإن المشهد السياسي التونسي مقبل على تغيرات نوعية بالغة الدقة والخطورة، وتحتاج إدارة المرحلة القادمة إلى ذكاء سياسي كبير، وعمق في الرؤية ونباهة في اختيار سُبل التنفيذ.

فإذا افترضنا فوز المرشح "قيس سعيد"، سيكون رئيساً مستقلا، بدون رداء سياسي، وليست له قوة يستند عليها تحت قبة البرلمان، وستُؤثر صفته كمستقل على أداء المؤسسات الدستورية المرتبطة به والمتكاملة معه، أي البرلمان والحكومة. صحيح أن مكانة رئيس الجمهورية تمت عقلنتها في الدستور الجديد (2014)، وقد نُزع عنها الطابع الترؤسي (Presidentialiste) الذي غلب عليها خلال حكم الرئيس السابق "ابن علي"، وتمت (بالموازاة) تقوية مؤسسة الحكومة، وسلطات البرلمان.. ومع ذلك، مكّنه الدستور من حق اللجوء إلى ممارسة سلطات استثنائية في حالة وقوع "خطر داهم يهدد البلاد" (ف.80)، وإصدار الأمر بتنفيذ القانون، وعرض مشاريع القوانين على الاستفتاء بصفة استثنائية، ناهيك عن "تعيينه مفتي الجمهورية"، و"محافظ البنك المركزي"، والتعيينات والإعفاءات من المناصب العليا الخاصة برئاسته أو بالأمن القومي. نحن إذن أما م رئيس لا يملك جسماً مضخماً من الاختصاصات، وليس "أريكة فارغة"، كما يقال.

ومن هنا، ستؤثر وضعيته كمستقل على علاقته بالمؤسسات الأخرى، وإن كان الدستور نفسه قد منع في الفقرة الثالثة من الفصل 76 الجمع بين "مسؤوليات كرئيس وأية مسؤولية حزبية"، فرئيس متمتع بهذه السلطات الاستراتيجية، يحتاج إلى غطاء سياسي يُعزز شرعيته الانتخابية، ويُقوي الثقةَ التي استمدها من إرادة الناخبين.

من المتغيرات الجديدة التي ستؤثر على المشهد السياسي القادم في تونس، تنامي ظاهرة العزوف عن المشاركة، والميل الواضح لمعاقبة الأحزاب القديمة والتقليدية بمختلف ألوانها، وتنامي ظاهرة المستقلين، وكلها في الواقع مؤشرات تحتاج إلى دراسات إمبريقية لمعرفة أصول ولادتها، والمخاطر التي تنطوي عليها بالنسبة للحياة السياسية التونسية. فالواضح أن هناك صعوبة كبيرة في الحصول على أغلبية مطلقة، أي 109 أصوات، لتكوين حكومة تحظى بأغلبية داخل "مجلس النواب الشعب"، وقادرة تاليا على إعداد برنامج حكومي والظفر بالمصادقة عليه من قبل الأغلبية المطلقة لأعضاء البرلمان. ومن هنا، الحاجة الماسة إلى بناء تحالفات على قاعدة حدّ أدنى من الأهداف والتطلعات المشتركة. وإذا حدث وتكونت تحالفات بأي ثمن، وأية وسيلة، فإن كلفة الأداء ستكون باهظة، وقد تربك المشهد السياسي التونسي برمته.

والحال، أن تونس في حاجة إلى رئيس قوي، وحكومة وبرلمان متوافقين وقويين وقادرين على ترسيخ الديمقراطية، وجني ثمارها في الاقتصاد، وتغيير أحوال الناس، وتأمين الأمان لهم في معيشهم.
التعليقات (0)