أفكَار

شيعة المغرب.. ممانعة الواقع وانسداد الأفق (1 من 2)

بداية التسعينيات شكلت الفترة الذهبية لانسياب الفكر السياسي الشيعي للمغرب  (أنترنت)
بداية التسعينيات شكلت الفترة الذهبية لانسياب الفكر السياسي الشيعي للمغرب (أنترنت)

على خلاف تجارب حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، تمكن إسلاميو إيران الذين وصلوا إلى السلطة عام 1979 في ثورة شعبية، أسقطت حكم الشاه وأقامت نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من ترسيخ تجربة سياسية مختلفة، ولم تكتف فقط ببناء الدولة والتأسيس لنموذج في الحكم يمتاح أسسه من المرحعية الإسلامية الشيعية، بل وتحولت إلى قوة إقليمية وامتد نفوذها إلى عدد من العواصم العربية.

ومع أن التجربة الإسلامية في إيران، قد أثارت مخاوف المنطقة العربية، التي وقفت ضدها في حرب الثمانية أعوام من خلال دعم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في تلك الحرب، فإنها لم تحظ بالاهتمام الفكري والعقلاني الهادئ، لفهم أسرار قوة هذه التجربة، وفهم آليات تمكنها من الحكم، وقدرتها على مواجهة الحرب مع العراق بالإضافة إلى الحصار الإقليمي والدولي.

وتزداد أهمية قراءة التجربة السياسية في إيران، هذه الأيام، بالنظر إلى صعود نفوذ طهران السياسي في المنطقة بشكل عام، ولا سيما في دول الربيع العربي، التي تمكنت طهران من أن تكون واحدة من أهم القوى النافذة فيها، إن لم يكن بشكل مباشر كما هو الحال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فبمن خلال السياة الناعمة كما هو الحال في علاقاتها مع باقي دول الربيع العربي.
 
"عربي21"، تفتح ملف التجربة الإيرانية، ليس فقط من زاويتها الدينية أو السياسية أو الدفاعية، وإنما أيضا من زاويتها الفكرية بهدف فهمها أولا، ثم معرفة أسرار نجاحها وتمددها في المنطقة، واستحالتها أخيرا إلى قوة إقليمية ودولية. 

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية للنهج الشيعي في الدين والسياسة والفكر.

اليوم يبحث الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي في حقيقة الحضور الشيعي في المغرب منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979.

حفريات التشيع السياسي في المغرب

مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وإعلانها الرسمي عن نيتها تصدير الثورة إلى العالم، بدأت المخاوف في البلدان السنية من خطورة زحف المد الشيعي، لاسيما وأن الثورة الإسلامية قدمت نموذجا سياسيا لتحرر المستضعفين من الامبريالية والتبعية، وحملت تطلعات الجماهير الشعبية المسلمة في العديد من البلدان العربية، وهو الأمر الذي جعل الأنظمة السياسية العربية تحذر من خطورة التشيع على الوحدة المذهبية لبلدانها.

وفي هذا السياق أصدر علماء المغرب، فتوى تبين موقفهم من معتقدات الإمام آية الله الخميني، وتبرز وجه مخالفتها لمذهب المغرب المالكي وعقيدته السنية.

 


 
وتعود الإٍرهاصات الأولى لاحتكاك الإسلام السياسي بالتشيع والثورة الإسلامية في إيران، إلى بعض مواقف مؤسس الحركة الإسلامية في المغرب، عبد الكريم مطيع في المهجر، ومحاولته مد الصلة بجهات دبلوماسية إيرانية بين سنة 1979 و1981، والتي كان من ممهداتها كتاب "الثورة الإسلامية قدر المغرب الراهن" الذي ألفه سنة 1980، ومحاولات لإدخال كتب ومجلات شيعية إلى المغرب، وهي المرحلة التي تحدثت فيها شهادات عديدة من قيادات ومراكز الحركة الإسلامية المغربية، عن بداية اختراق التشيع لبعض أطراف الحركة الإسلامية خاصة الوسط الطلابي. 

بيد أن هذه المحاولة التي رصدها أحد الكتاب المشارقة الذين زاروا المغرب في هذه المرحلة، وساهم من خلال محاضرات وعروض لمواجهتها، ولفت قيادة الحركة الإسلامية في الداخل لخطورتها، لم تتكلل بالنجاح، بسبب اضطرار الأستاذ عبد الكريم مطيع للارتهان إلى جهة أخرى (ليبيا)، وإعلانه عن انتقاداته للثورة الإسلامية في إيران وللانحرافات العقدية لقادتها.
 
وتعود هذه الإرهاصات أيضا إلى شكل تعاطي الأستاذ عبد السلام ياسين مع الثورة الإيرانية، إذ لم يتردد في تثمينها، والإعراب عن استفادته من نموذجها المبسوط في كتاب "الحكومة الإسلامية" لمرشد الثورة آية الله الخميني، من فكرة "القومة الإسلامية". ولم يكن لهذا الموقف الذي اتخذه عبد السلام ياسين أية تداعيات داخل الجسد التنظيمي لجماعة العدل والإحسان لجهة الانتساب أو الدخول إلى التشيع، وذلك بحكم أنه لم يتعد احتضان بعدها السياسي دون التورط في التبشير بمواقفها الفكرية والعقدية.

 



وفي الوقت الذي اتجه الموقف المغربي الرسمي إلى مواجهة هذه المعتقدات الشيعية، كان موقف الحركة الإسلامية من الثورة متباينا، إذ اعتبرت عموم فصائلها أنها تمثل خطوة مهمة في سبيل التمكين للمشروع الإسلامي، وحصلت خلافات في تقييمها التفصيلي. فبينما نوه الأستاذ عبد السلام ياسين برمزيتها وخطها، وشكل تنهيجها لغضبة الجماهير في مواجهة الاستكبار العالمي، اتجهت "جمعية الجماعة الإسلامية" إلى التحذير من تداعياتها العقدية ومن مخاطر توسع المد الشيعي في البلاد السنية، ومنها على وجه الخصوص المغرب، فأبدت في تعبيرها الإعلامي ـ جريدة الإصلاح ـ انزعاجها من أحداث الحرم سنة 1987، منددة بمخاطر "تسييس" الحج ومذكرة بمظلومية أهل السنة بإيران، كما نشرت في تشرين أول (أكتوبر) من نفس السنة مقالا للشيخ سعيد حوى حول "الخيمينة شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف"، والذي أثار جدلا واسعا داخل  أطياف الحركة الإسلامية انتهى التفاعل معه عند جمعية الجماعة الإسلامية إلى بسط موقفها من التشيع ومن إيران، فميزت في موقفها بين "دعم إسلامية الدولة الإيرانية مع الاحتفاظ بحق انتقاد الانحرافات العقدية والسياسية لهذه الدولة، مع تقويم مسار ثورتها وترشيد خطواتها وتصويبها إذا انحرفت عن جادة الصواب".

الانسياب الناعم للتشيع السياسي

تعتبر لحظة بداية التسعينيات الفترة الذهبية لانسياب الفكر السياسي الشيعي للمغرب، وبداية تشكل هذه الحساسية في القطاع الطلابي على الخصوص، وقد اجتمعت أربع عوامل أساسية وأعطت دفعة قوية لبداية تشكل هذه الحساسية:

1 ـ أولها الإشادة الواسعة التي تلقتها الثورة الإسلامية من قيادات الحركات الإسلامية، وبشكل خاص، الأستاذ عبد السلام ياسين، والشيخ راشد الغنوشي، فالأول، قدم قراءة أخرى للتاريخ الإسلامي وانكسار عروة الحكم، حاول فيها الانتصار لخط القومة على المنهج السني في التعامل مع أحاديث الطاعة والحفاظ على وحدة المسلمين وكذلك في كتاباته التي أسست لعاملية "المستضعفين" في عملية التغيير، والثاني، الذي كان لكتاباته تأثير كبير على أطياف الإسلام السياسي في المغرب، لاسيما في لحظة تحول حركة الغنوشي من الجماعة الإسلامية إلى الاتجاه الإسلامي، وحدوث الانعطافة الكبرى نحو المسألة الاجتماعية.

 



2 ـ ثانيها، الاحتكاك مع اليسار في الحرم الجامعي، والذي فرضت فيه المساجلة الفكرية والسياسية الاطلاع على عدد من المرجعيات السياسية، ومنها على وجه الخصوص باقر الصدر، ومرتضى مطهري، وعلي شريعتي، وحسين فضل الله.

3 ـ حالة التشرذم التي أصابت الحركة الإسلامية بعد الأحداث التي تلاحقت على حركة الشبيبة الإسلامية، انشقاق جمعية الجماعة الإسلامية بقيادة عبد الإله بنكيران منها، ونشوء حساسيات إسلامية فكرية على هوامش التيارين الكبيرين للحركة الإسلامية المغربية (جمعية الجماعة الإسلامية والعدل والإحسان) لا تجد حرجا في تأسيس مفردات خطابها وخطها الفكري والسياسي من أدبيات محمد حسين فضل الله.
 
4 ـ وهو ما يعود إلى تأثر المغاربة بالخارج بالفكر الشيعي، سواء منهم من التحق بالعراق أو سوريا أو لبنان، أو حتى في أوربا، ممن عقدوا علاقات وطيدة مع السفارات الإيرانية خاصة في فرنسا وبلجيكا، وترجمت هذه الصلات في شكل زيارات لإيران خاصة عند الاحتفال السنوي بذكرى الثورة الإيرانية. وفي هذا السياق يمكن أن نذكر محاولة خالد الرباطي تأسيس "الحركة الثورية الإسلامية المغربية" بقصد استقطاب الطلبة والعمال المغاربة في الخارج، غير أن تبنيه للخيار الكفاح المسلح، ودخوله في مواجهة ومنافسة مع الشبيبة الإسلامية من جهة وتنظيم المجاهدين المغاربة من جهة أخرى، جعل إمكاناتها في نشر الفكر الشيعي في المغرب محدودا باستثناء التأثير الذي كان تحدثه في الطلبة المغاربة الذين يدرسون بالخارج.

رحلة البحث عن إطار للإسلام السياسي الشيعي بالمغرب

كان لهذه العوامل بعض الأثر في بناء حساسيات شيعية فكرية في بعض المدن المغربية، ومنها على وجه الخصوص، مكناس وفاس وطنجة وأكادير، وقد لعب السياق الدولي والإقليمي دوره في دفع هذه الحساسيات لخوض معركة الوجود، إذ شكل انتصارات المقاومة الإسلامية في لبنان سنة 2000، وسنة 2006، تحولا نوعيا في الصورة التي تحملها الشعوب العربية والإسلامية عن حزب الله وعن قيادته، وأصبحت قناة "المنار" و"مجلة العالم" من أقوى التعبيرات الإعلامية المؤثرة في المشهد. وإذا كانت " العالم" بررت تأثيرها ببعدها التحليلي السياسي، فإن قناة" المنار" بمزجها بين الجهادي والعقدي، شكلت الجسر لتمرير التشيع إلى المغرب. غير أن أحداث 2008، شوشت على الصورة الرمزية لحزب الله وعل قيادته، وأظهرته في شكل قوة مهيمنة بالقوة على الشارع اللبناني.
 
وفي سياق هذه التحولات، حاولت بعض الحساسيات الشيعية في المغرب، أن تغتنم الفرصة لتبرر وجودها، بدءا بالبحث عن تعبير إعلامي، وتستند إلى التعددية الإعلامية في المغرب، وكونها تتسع لاستيعاب حساسيات مختلفة ومنها الحساسية الشيعية، وأن التوجه نحو هذه الخطوة من شأنه تعريف المجتمع بهذه الحساسية، وأنه لا خوف من إمكانية التضيق على التشيع في المغرب بالانخراط في هذا المسار. وعلى الرغم من غلبة النصرة المحافظة داخل هذه الحساسيات، والتي كانت تنتصر لفكرة تأجيل هذه الخطوة لمخاطرها على الامتداد الشيعي في المغرب وخلق نقاط توتر مع السلطة، إلا أن بعض الفعاليات الفكرية الشيعية نجحت في أن تخوض تجربة إعلامية محدودة من خلال إصدار جريدة " رؤى معاصرة"، غير أنها اضطرت للتوقف، لأسباب غير معروفة، وذلك بعد إصدار عددين منها. وتشير بعض المصادر إلى أن المحامي عصام أحميدان المعروف بقربه من الشيخ حسين فضل الله، كان وراء هذه التجربة المتعثرة.

وفي سياق البحث عن إطار ثقافي، تأسست بعض الجمعيات الثقافية ذات النفس الشيعي، كجمعية الغدير للأعمال الثقافية والاجتماعية بمكناس، والتي كان على رأسها حسن هاني شقيق إدريس هاني صاحب الكتابات التنظيرية للحالة الشيعية الفكرية في المغرب، إلا أن نشاطها توقف لأسباب غير معروفة، وجمعية ‘'أنوار المودة'' في طنجة، وجمعية ‘'اللقاء الإنساني'' في وجدة، غير أن السلطات لم ترخص للجمعيتين الأخيرتين، بالإضافة إلى جمعية "البصائر" وجمعية "التواصل" اللتان تركزان في برامجهما على الأنشطة الثقافية. وخلافا لسنة 2006 و2007، فقد عرفت سنة 2008، عرفت انكماشا كبيرا على مستوى الحضور الثقافي لهذه الجمعيات، وبعضها توقف عن النشاط، من غير تبرير للموقف، ويبدو أن تأكيد أعلى سلطة في البلاد على مركزية التصدي للتشيع في خطة إعادة هيكلة الحقل الديني بصيغتيها (2004، 2008) دفعت القائمين على هذه الجمعيات إلى تغيير الاستراتيجية لجهة مراجعة خيار العلنية في هذه المرحلة، وتبني خيار السرية.

ومع قطع علاقات المغرب مع إيران سنة 2009، على خلفية مزاعم بتورط مدرسة عراقية في الرباط في تلقين الأطفال مبادئ التشيع، تعزز منطق الانكفاء لدى الحساسيات الشيعية، خاصة لما تم الإعلان تحصين لأمين الروحي والوحدة المذهبية ومواجهة التشيع ضمن أولويات الحقل الديني بالمغرب، وبدأ التفكير عن بعض رموزها في مد جسور اللقاء مع اليسار، والانعطاف نحو المسألة الحقوقية وبشكل خاص حرية المعتقد والأقليات الدينية في المغرب، وذلك بهدف البحث عن نافذة أخرى للاشتغال، ومحاولة تحصين أفراد هذه الحساسيات من التعقب الأمني.

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم