مقالات مختارة

عَــربِيّ شَـهْمٌ.. وَقَـوْمُ لِـئامٍ!

أبو بكر خالد سعد الله
1300x600
1300x600

 إذا كان على المدرسة العليا للأساتذة بالقبة أن تفتخر بالأساتذة العرب الأجلاء الذين عرفتهم أقسامُها المختلفة فلا بدّ أن تضع على رأس القائمة الدكتور العراقي عباس الجَمالي، فقد صال وجال سنوات طوال السبعينيات والثمانينيات بقسم العلوم الطبيعية بالقبة، وصاهر عائلة تلمسانية عريقة، وهو الآن -حسب ما بلغنا- لا يزال ينتسب إلى التعليم العالي بالأردن.

فاضل الجمالي… ذلك الشَّهْم


والِـدُ الأستاذ عباس هو الدكتور محمد فاضل الجَمالي (1903-1997). يعدّ فاضل من أوائل العراقيين المبتعثين إلى الولايات المتحدة عام 1929 لاستكمال دراستهم إذ تخصص في مجال التربية. وقد اشتغل في مجال التربية والتعليم، وأتقن لغات عديدة، وله مؤلفات كثيرة، وكان عضوا في المجمع العلمي العراقي. لكنه اشتهر أكثر في مجال السياسة إذ تولّى وزارة الخارجية العراقية في الأربعينيات، ثم رئاسة مجلس النواب، ثم عُيّن رئيسا للحكومة عام 1953 في العهد الملكي. وتمّ سجنه عام 1958عند قيام ثورة عبد الكريم قاسم (1914-1963)، وظل في المعتقل حتى عام 1961.


واللافت في الحياة السياسية لفاضل الجمالي أنه كان من مؤسسي منظمة الأمم المتحدة عام 1945. ويُذكر أنه بمناسبة مرور 50 سنة على تأسيس هذه المنظمة عام 1995، وُجِّهت إليه دعوة لحضور الحفل فردّ عليها بالاعتذار -وهو مقيم خارج بلده- لأن هذه المنظمة تبارك محاصرة بلده العراق وتقتل أطفاله وعجزته. وكان طيلة حياته يدافع عن قضايا التحرر من الاستعمار في البلاد العربية وغيرها، وبوجه خاص في شمال أفريقيا عندما كانت المنطقة ترزح تحت نير الاحتلال.


بورقيبة.. ورفقاؤه في النضال


 تشهد تونس للحبيب بورقيبة (1903-2000) بنضاله المرير الذي دام عقودا طويلة من أجل تحرير بلده قبل توليه مقاليد السلطة. ومعروف عن بورقيبة خلال تسييره دفة الحكم أنه نأى بنفسه عن المشرق العربي، واتخذ قرارات صادمة، يراها البعض جريئة، ويراها آخرون عكس ذلك.. وأن أصالة الشعب التونسي هي التي كانت بالمرصاد للحملة التغريبية التي تعرّض لها بعد الاستقلال. ورغم هذه المواقف للزعيم بورقيبة، فإنه لم يجد منفى يقصده عام 1945 سوى العاصمة المصرية القاهرة، حيث كان يتحرك انطلاقا من مصر في جميع الاتجاهات في البلاد العربية لطلب نصرة الشعب التونسي ضد الاستعمار الفرنسي. ووجد هناك الترحيب والتبجيل.


وكما لجأ بورقيبة إلى القاهرة، لم يجد زعيم ثورة الريف المغربية عبد الكريم الخطابي (1882-1963) الملقب بـ"مولاي محند" مفرّا، عندما اعتقلته فرنسا، إلا القاهرة عام 1947. وقد أسس هناك ما سماها "لجنة تحرير المغرب العربي"، حتى توفاه الله بالقاهرة عام 1963.


وتأكيدا على هذا الوصل بين المشرق العربي ومغربه نتساءل: ألم يلجأ إلى القاهرة الزعماءُ الجزائريون السياسيون (ناهيك عن طالبي العلم) قبل بورقيبة وبعده.. إلا النادر منهم؟ ألم يتوافدوا عليها لقضاء فترات متفاوتة دامت أحيانا سنوات.. ومن هؤلاء أقوام قَزّموا دور المشرق العربي في تحرير البلاد؟ ألم يقصد المجاهد الفضيل الورتلاني (1900- 1959) عام 1940 القاهرة، وأسس فيها عام 1942 "اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر"، و"جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا" عام 1944؟ وماذا عن الشيخ البشير الإبراهيمي (1889-1965)؟ ألم يحطّ رحاله في القاهرة عام 1952 وراح يناضل بقلمه ولسانه؟


وما رأي القَوْم اللئام في الملكة دينا عبد الحميد (1929-2019)، زوجة الملك الأردني حسين، التي وهبت يختها –هدية قرينها عند زواجها- للثورة الجزائرية 5 أشهر بعد اندلاعها، وذلك لنقل أول شحنة سلاح ضخمة وزنها فاق 20 طنا من مدينة الإسكندرية المصرية إلى مدينة الناظور المغربية في مارس 1955. واليخت استخدِم للتمويه كيلا يجلب نظر جيش الاستعمار. ويَذكر قائد هذه العملية السرية نذير بوزار (1917-1975) أنه اغتاظ كثيرا لضرورة ترك 7 أطنان أخرى من السلاح في ميناء الإسكندرية بسبب عدم قدرة هذه السفينة على حملها!


ورغم كل هذا التواصل بين المشرق والمغرب في زمن المحن، هناك من اللئام من ينظر عندنا إلى الجزائر في الاتجاه "شمال- جنوب"، أي أنها امتداد للجنوب الأفريقي نحو أوروبا، ولا يراها أيضا -وبالدرجة الأولى- امتدادا للمشرق نحو المغرب.. سعيا منهم لقطع أواصلها مع المشرق العربي.

في مقر الأمم المتحدة


هناك شاهد آخر على قوة الرابط بين المشرق والمغرب العربيين يتمثل في قصة معروفة جمعت المناضل الحبيب بورقيبة ورئيس الحكومة العراقي فاضل الجمالي وقعت عام 1954 في مقر الأمم المتحدة، وتونس لازالت آنذاك تحت الاستعمار.

 

في تلك الأثناء قصد بورقيبة نيويورك بغية إيصال كلمة الشعب التونسي -المُطالِب بالحرِّية- عبر منبر الأمم المتحدة للضغط على فرنسا. وحاول عند الباب دخول قاعة المؤتمر فلم يُسمح له بذلك بحكم أنه يمثل حزبا سياسيا (هو الحزب الدستور الجديد الذي أسسه عام 1934) وليس زعيم دولة.


يُروَى أنه في تلك اللحظات التي كان بورقيبة يحاول إقناع المسؤولين عند الباب مرّ على مقربة منه الوفدُ العراقي بقيادة فاضل الجمالي، ولاحظ هذا الأخير المشهد وعلم سبب الخلاف. فما كان من هذا الشّهم إلا أن نادى بورقيبة، وسلّمه شارة يعدُّ من يحملها أنه عضو في الوفد العراقي، وبذلك انضمَّ بورقيبة إلى هذا الوفد ودخل القاعة مرفوع الرأس مثل بقية المؤتمرين.


ويُذكر أن فاضل الجمالي عندما أخذ الكلمة، اختصرها حتى يترك لبورقيبة فترة من المدة المخصَّصة للوفد العراقي. وهكذا، عند انتهاء الجمالي من إلقاء كلمته دعا بورقيبة ليخاطب الحضور. وكذلك كان الحال، وكان خطاب بورقيبة بالغَ التأثير في أعضاء الوفود المشاركة لِما جاء فيه من تعريف بالقضية التونسية… وهو ما جعل الوفد الفرنسي ينسحب، ويغادر القاعة. وبعد ذلك، عرفت القضية التونسية منعرجا جديدا أدى إلى فتح مفاوضات مع فرنسا عجّلت باستقلال تونس بعد سنتين من تلك الحادثة.


كان الرئيس بورقيبة ممتنا لفاضل الجمالي على لفتته تلك. ومن المعلوم أنه عندما أطلق سراح فاضل في العراق، فمن بين الدول التي لجأ إليها تونس. ويُروَى أن بورقيبة عرض عليه راتبا شهريا جزاء على ما قدمه لتونس فرفض والتمس منصبا يكسب به قوت يومه بعرق جبينه… فما كان على بورقيبة إلا أن نصَّبه أستاذا للتربية في الجامعة التونسية حتى وافته المنية عام 1997. تلك هي مواقف رجال ونساء من المشرق.. وتلك أقوام تتجاهل الجغرافيا والتاريخ!

(الشروق الجزائرية)

1
التعليقات (1)
جزائري-الجزائر
الأربعاء، 02-10-2019 04:17 م
المشكل الجوهري ليس في مؤازرة الشرق أو الغرب للشعب الجزائري قبل وبعد الثورة ، لأن من أبناء فرنسا في حد ذاتها من ناضل ومنهم من مات نصرة للقضية الجزائرية….المشكل الحقيقي هو تدخل حكام بعض البلدان كمصر في تحديد وجهة الدولة الجزائرية الفتية من خلال حكامنا الضعفاء ، أقصد التوجه الإشتراكي وكل المآسي التي انجرت عن ذلك. نحن نثمن جهوذ كل الخيرين بدون استثناء ولكن لا نكون أغبياء إلى درجة تسليم مصير شعب لزيد أو عمر ….

خبر عاجل