مقالات مختارة

تصاعد هجرة الخليجيين الذين لم يألفوها

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

عرف اللبنانيون ماضيا بالهجرة إلى بلدان شتى طلبا للرزق، فهم منتشرون من أمريكا الشمالية إلى أدغال أفريقيا حتى شمال شرق آسيا. وكانت مناهج اللغة العربية في المدارس سابقا تحتوي إطلالة على «أدب المهجر» الذي كان زاخرا بشعر متين لشعراء لبنانيين، منهم إيليا ابو ماضي وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران.


وفي الوقت الحاضر لا تكاد تزور مدينة أوروبية أو حتى إحدى قرى الريف النائية في بعض مناطق العالم، حتى تبصر عيناك مجموعات من الصينيين، سياحا وطلابا، أو تجد مطعما يقدم الوجبات الصينية.

 

وتوسع انتشارهم في السنوات الأخيرة للالتحاق بالجامعات الغربية، هو أحد مظاهر النهضة العلمية والتكنولوجية في ذلك البلد الناهض اقتصاديا بوتيرة متسارعة. في الخمسينيات والستينيات كان الفلسطينيون من أكثر العرب انتشارا في بقاع الارض، نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم وانتشارهم في أرض الشتات. وفي الثمانينيات خرج الكثير من العراقيين طالبين اللجوء في البلدان الغربية، إما هربا من النظام أو الحرب العراقية ـ الإيرانية آنذاك. وينتشر العرب من الشمال الأفريقي في دور أوروبا الغربية نتيجة الاستعمار الفرنسي لتلك الدول. وفي السنوات الأخيرة حط الكثير منهم رحاله في بريطانيا. ولم يكن لمواطني دول الخليج وجود يذكر خارج حدود بلدانهم ،وذلك بسبب الاستقرار النسبي والوفرة المعيشية في بلدانهم. وعرفت مناطق الشمال الغربي من بريطانيا (خصوصا ليفربول) وجود أعداد من اليمنيين منذ نهاية القرن التاسع عشر، بسبب الملاحة المزدهرة مع الهند ومرور أساطيل شركة الهند الشرقية باليمن، والوجزد البريطاني في عدن الذي انتهى في الستينيات بعد حرب طاحنة.


وفي الأعوام الأربعة الأخيرة، تصاعدت ظاهرة الهجرة على نطاق واسع، وشهدت مياه البحر الأبيض المتوسط حركة غير اعتيادية للمهاجرين الذين غامروا بحياتهم للعبور نحو أوروبا. هذه المرة كان للأزمة الليبية دور في نزوح الليبيين من بلادهم بعد ان عمها العنف والفوضى. ونجم عن ذلك ضجة غربية واسعة حول موضوع الهجرة، حتى قيل إن من أحد أهم دوافع البريطانيين للتصويت لصالح الخروج من أوروبا، الرغبة في غلق الباب أمام الهجرة المتصاعدة لبريطانيا، سواء من الدول الأوروبية أم من المهاجرين الذين يعبرون البحر المتوسط. وما أكثر الذين غرقوا في البحار نتيجة مغامرات مجموعات التهريب التي لا تراعي قواعد السلامة، بل تركز اهتمامها على مضاعفة مدخولاتها من المهاجرين الباحثين عن حياة أفضل في أوروبا.


هذه الخريطة التي تطرح صورة مختصرة للانتشار الديمغرافي العربي خارج الحدود، هدفها توضيح عدد من الأمور: أولها أن العرب لم يألفوا الهجرة كثيرا، بل بقوا منشدين لأرضهم ولم يكن هناك ما يدفعهم للبحث عن أوطان أخرى. الثانية أن هذه الخريطة شهدت تغيرات عبر العقود بسبب تغير الظروف المعيشية في هذه البلدان. ومع أنه لم تسجل حتى الآن هجرة معاكسة (أي عودة للوطن الأم) تذكر، إلا أن بعض الهجرات تباطأت أو ربما توقفت تماما. الثالثة أن الشعور بالإحباط خلق ظواهر مقلقة في أوساط الشباب العربي المسلم، خصوصا مع انحسار الشعور بالقوة والكرامة، في مقابل عربدة العدو الإسرائيلي الذي يتحدى الأمة كل يوم، ويسعى لكسر إرادتها وشوكتها. فمشهد المرأة المسنة عند أحد الحواجز الإسرائيلية الأسبوع الماضي، وقد صوب المحتلون سلاحهم إليها وقتلوها بدم بارد، لا يقل إيلاما عن منظر محمد الدرة في العام 2001 وهو يستهدف بالسلاح الإسرائيلي ليرديه قتيلا في حضن والده. الإسرائيليون يسعون لخلق حالة من الإحباط في الأوساط الفلسطينية، لدفعهم للاستسلام أو التخلي عن القضية، أو تكرار حالة الانسحاب من وجه المحتلين. ويمكن القول بأن ثورات الربيع العربي قبل تسعة أعوام، دفعت الكثيرين للهجرة هربا من القمع الذي تعرض له مواطنو البلدان التي شهدت حراكات واسعة مثل ليبيا ومصر والبحرين. أما الهجرة الواسعة من سوريا، فناجمة في أغلبها عن الحرب التي أتت على الأخضر واليابس، والتي كان المدنيون أكثر ضحاياها.


إن عدد المهاجرين الذين تقدموا بطلب اللجوء في السنة التي تولى فيها محمد بن سلمان السلطة (2015-2016) ارتفع بنسبة 52 بالمائة. هذا الارتفاع يعكس انعدام الثقة بإمكان إصلاح أوضاع المملكة.
خريطة الهجرة هذه المرة تكشف حقيقة مرة تحدث للمرة الأولى على هذا النطاق الواسع؛ فقد هربت أعداد كبيرة نسبيا من البحرين بعد الاجتياح العسكري في منتصف آذار/مارس 2011 الذي قادته السعودية، وشاركت فيه دولة الإمارات العربية. كان القمع هذه المرة خارج المألوف. لقد حدثت هجرات عديدة من البحرين في الأربعين عاما الأخيرة ابتداء من العام 1980. وبشكل تدريجي تشكلت جاليات بحرانية في بريطانيا وألمانيا وأستراليا ونيوزيلاندا والعراق وإيران ولبنان وبعض دول الخليج. هذا التشكل أوجد امتدادا للحركة السياسية في البحرين، الأمر الذي من شأنه أن يبقي قضية ذلك البلد متحركة وذات أبعاد دولية. وساهمت سياسة سحب الجنسية من المواطنين في زيادة عدد المهاجرين البحرانيين.


ولكن الظاهرة المفاجئة في الأعوام الأخيرة، تنامي الهجرة من المملكة العربية السعودية وهي هجرة سياسية أساسا. في الثمانينيات اضطر البعض للخروج من الجزيرة العربية بعد أن شهدت المملكة تحركات سياسية، بدأت بالحركة التي تزعمها جهيمان العتيبي في العام 1979 عندما تحصن في الحرم المكي فترة استمرت أسبوعين، ولم تنته إلا بعد تدخل قوات فرنسية استقدمت لذلك الغرض. وبعدها حدثت تحركات سياسية في المنطقة الشرقية، تصدرتها جماعة أطلقت على نفسها «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية»، ونجم عنها نزوح أعداد كبيرة مثن الشباب، توجه أغلبهم إلى إيران وسوريا، واستقر بعض هؤلاء في بريطانيا لاحقا.

 

وفي غضون ثلاثة عشر عاما، حدث حوار بين المجموعة والحكومة السعودية نجم عنها تفاهم سياسي أدى لعودة بعض هؤلاء إلى المنطقة الشرقية، وبعدها بدأ تحرك سياسي من نجد ذو طابع ديني بمشاركة عدد من علماء الدين، وبرزت «لجنة الدفاع عن العريضة الشرعية» في منتصف التسعينيات كحراك متميز، وتزامن مع ذلك نزوح بعض الأفراد الناشطين إلى بريطانيا وفي طليعتهم الدكتور سعد الفقيه والدكتور محمد المسعري. لم تكن هجرة هؤلاء مرتبطة بالأوضاع الاقتصادية أو المعيشية، بل بالحال السياسي الذي تعيشه الجزيرة العربية. ولكن الهجرة الكبرى بدأت بعد تولي الملك الحالي مقاليد الحكم خلفا لأخيه عبد الله بن عبد العزيز ،الذي توفي في العام 2015، وأدى هذا الصعود لظهور اسم محمد بن سلمان للمرة الأولى كرمز سياسي للبيت السعودي، وبرغم محاولات الغرب إظهاره رجلا مصلحا صديقا للغرب، إلا أن تصرفاته سرعان ما حاصرته ولوثت سمعته، وشهد عهده تصاعد القمع واستهداف الناشطين.


فقد توسع نشاط المرأة السعودية وكسرت القيود التي فرضت عليها، والتي حرمتها من السياقة وأرهقت كاهلها بنظام الولاية الذي يعطي الرجل سلطة مطلقة على المرأة، خصوصا في مجالات السفر والإرث والتسجيلات الرسمية وسياقة السيارة. تحركت النساء المناضلات للمطالبة بإلغاء تلك القيود، وسرعان ما وجدت نفسها وراء القضبان. وتحت الضغط الغربي وجد محمد بن سلمان نفسه مضطرا لإلغاء بعض القيود، فسمح للمرأة بسياقة السيارة للمرة الأولى وخفف من نظام ولاية الرجل. وفي الوقت نفسه تم اعتقال العديد من النساء اللاتي تصدرن المشهد وطالبن بذلك. ومن المفارقات أن تحقق الحكومة السعودية مطالبهن، بينما تستمر بإبقائهن في السجن.


يقول تقرير صدر الأسبوع الماضي عن شبكة الأخبار الأمريكية «سي أن أن»، أن عدد المهاجرين الذين تقدموا بطلب اللجوء في السنة التي تولى فيها محمد بن سلمان السلطة (2015 ـ 2016)، ارتفع بنسبة 52 بالمائة. هذا الارتفاع يعكس انعدام الثقة بإمكان إصلاح أوضاع المملكة من خلال المبادرات التي طرحها الحاكم الجديد، وهي مبادرات جوفاء في جوهرها، ولا تنطلق من قناعة حقيقية بمبدأ الإصلاح، وطي صفحة الاستبداد والفساد. وقد أصبحت هناك اليوم جاليات سعودية في بلدان عديدة من بينها بريطانيا التي أصبحت تضم جالية سعودية تزداد توسعا وكذلك في ألمانيا. ولا بد من الإشارة إلى ظاهرة التمرد المنتشرة بين الشباب واستغلالها من قبل جهات أجنبية لأهدافها الخاصة. وبرغم وجود بعض حالات التمرد على الدين والعادات من قبل بعض الفتيات، إلا أن ظاهرة الاحتجاج على النظام بدأت تتوسع بوتيرة أكبر.

 

عن صحيفة القدس العربي اللندنية
0
التعليقات (0)

خبر عاجل