قضايا وآراء

الحراك الفرنسي لإنقاذ الاتفاق النووي بين الدوافع والآفاق

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

على مدى العقود الأربعة الماضية من عمر الصراع الإيراني ـ الأمريكي، اقتصرت الوساطات أو بالأحرى سعاة البريد بين الطرفين على سلطنة عمان ودولة سويسرا فقط، لكن في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أدخل الصراع إلى أخطر مراحله حتى الآن بانسحابه من الاتفاق النووي في أيار/مايو العام الماضي وما تبعه من توترات مركبة في المنطقة، تصاعدت بشكل مطرد في الذكرى السنوية الأولى لهذا الانسحاب في أيار (مايو) الماضي، التحقت أطراف أخرى مثل اليابان وألمانيا والعراق وقطر وفرنسا بقطار الوساطة ولم يعد الأمر مقتصرا على دولتين فحسب، بغية احتواء الموقف ومنع خروج الأوضاع عن السيطرة. 

 

وساطات بخط أخضر أمريكي


رغم أن كل هذه الأطراف لها دوافع وأسباب خاصة، في تحركاتها، إلا أنها دخلت على خط الأزمة بضوء أخضر أمريكي، ليتضح مع مرور الوقت أن زيادة أطراف الوساطة هي بالأساس جزء من الخطة الأمريكية لإدارة المشهد وضبط إيقاعاته، وفي الوقت نفسه، لإرباكه وإرسال رسائل متناقضة لإيران، مثلما تحوي التصريحات والسلوكيات الأمريكية على تناقض بيّن.

ركزت تلك الأطراف جميعا جل اهتمامها على فتح قناة للتواصل المباشر بين واشنطن وطهران، والتي ينشدها ترامب على غرار ما حصل مع الكوريين الشماليين، لكن أخفقت المساعي في إقناع إيران بالتفاوض واللقاء المباشرين لأسباب يعرفها القاصي والداني.

 

فرنسا تدخل على الخط

فرنسا هي آخر دولة دخلت على الخط منذ حزيران (يونيو) الماضي حتى الآن، بعد أن أخفقت الأطراف الأخرى في خفض التوتر لتخبو تحركاتها شيئا فشيئا رغم أنها ظلت مستمرة، بشكل أو آخر حتى هذه اللحظة.
 
ثمة اعتبارات ومعطيات تميّز الحراك الفرنسي عن بقية التحركات شكلا ومضمونا، أولا، باريس هي طرف أساسي في الاتفاق النووي، على عكس بقية الأطراف، ما يعطي لتحركها دوافع إضافية، للإبقاء على هذا الاتفاق كأهم ثمار للدبلوماسية الدولية متعددة الأطراف على مدى عقود من الزمن، وثانيا أن فرنسا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تتطلع إلى قيادة الاتحاد وذلك من خلال بوابة القيام بأدوار صعبة في ملفات عالمية، وفي مقدمتها الملف الإيراني. ثالثا أن فرنسا باعتبارها أحد الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن الدولي تحظى بموقع مهم في السياسة الدولية. رابعا أن فرنسا تنوب في الوساطة عن أوروبا القلقة من تداعيات التوترات بين طهران وواشنطن على أمنها، الأمر الذي يعطي لحراكها قوة أكثر.
 
تلك الاعتبارات بالإضافة إلى عوامل أخرى، لا يسع المجال لشرحها، تدفع إلى اعتبار الحراك الفرنسي وساطة بما تعنيه الكلمة، بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بغض النظر عن نتائجها، بينما التحركات التي قامت أو تقوم بها بقية الأطراف لم ولا تتجاوز نقل رسائل متبادلة بين الطرفين، فالأحرى أن يتم اعتبارهم "سعاة البريد" وليس وسطاء، لما تحمل هذه الكلمات من معاني ودلالات في القاموس السياسي.

 

الحراك الفرنسي اليوم هو أهم حراك دولي بشأن الأزمة بين إيران وأمريكا، والتي نتجت عن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي


وللتدليل على ذلك يمكن الإشارة إلى مقترحات ومبادرات تقدمت بها باريس إلى الجانبين، في حين، خلت تحركات الأطراف الاخرى من أي مقترح أو مبادرة، لأن بالأساس تقديم المبادرات هو عمل الوسيط، حيث ينطلق منها في الوساطة بين الخصوم أو الأعداء بغية الوصول إلى حل أو حلول مرضية.


بالتالي فإن الحراك الفرنسي اليوم هو أهم حراك دولي بشأن الأزمة بين إيران وأمريكا، والتي نتجت عن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وما تبع ذلك، لكن هذا الحراك انطلق بعد عام من هذا الانسحاب، ليظهر أن باريس لم تر ضرورة له خلال هذا العام، على الرغم من أن التوترات كانت موجودة وتتصاعد، لكن عندما بدأت إيران بتقليص تعهداتها النووية من أيار (مايو) الماضي، شعرت فرنسا بالخطر وأطلقت تحركها الدبلوماسي في محاولة للحفاظ على الاتفاق النووي الذي أعلنت طهران من خلال سياسة التقليصات رفضها أن تكون هي الجهة الوحيدة المتلزمة به. 

 

مخاوف غربية

لذلك فالحراك الفرنسي مدفوع بالأساس بمخاوف غربية من انهيار هذا الاتفاق كأهم أداة للرقابة على البرنامج النووي الإيراني، وخصوصا أن أوروبا الشريكة في الاتفاق لم تحرك ساكنا خلال عام كامل بعد الانسحاب الأمريكي منه، على أمل أن تؤدي استراتيجية الضغط الأقصى الأمريكية إلى جرّ إيران إلى اتفاق أكبر يشمل برنامجها الصاروخي ودورها الإقليمي، وهما ملفان يحظيان باهتمام أوروبي شديد مثما تولي أمريكا اهتماما بشأنهما. لكن عندما لم يحدث ذلك، وعلى عكس من ذلك، اتخذت طهران وضعية الهجوم وبدأت تمارس ضغوطا مضادة، من أهمها هو تقليص تدريجي للتعهدات النووية، فهنا بدأت الأطراف الأوروبية تشعر أن الاستراتيجية الأمريكية أصبحت تأتي بنتائج عكسية، وإنما أصبحت تعرض الاتفاق المتوفر حول برنامجها النووي لخطر وجودي.
 
أما اليوم على ضوء هذا الواقع فدخلت فرنسا على خط الوساطة بين إيران وأمريكا، وأوفد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كبير مستشاريه للشؤون الدبلوماسية، إيمانويل بون، مرتين إلى طهران خلال الشهرين الأخيرين، وأجرى بنفسه أربعة اتصالات هاتفية مع نظيره الإيراني، حسن روحاني، خلال الشهر الجاري. وبعد تبادل لأفكار وآراء خلال هذه الزيارات والاتصالات، طرحت باريس مقترحات ومبادرات، ترتكز على منح امتيازات اقتصادية مقابل تنفيذ طهران كامل تعهداتها النووية، ووقف تقليصها.

 

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يربط منح أي إعفاءات نفطية بفترة زمنية محدودة جدا، على أن توافق طهران على إجراء مفاوضات مباشرة مع إدارته.


يمكن تلخيص تلك المقترحات في عنوانين أساسيين، الأول وهو الأهم، منح إعفاءات للعقوبات على النفط الإيراني. والثاني هو إيجاد خط إئتماني بمبلغ 15 مليار دولار لطهران عبر قناة "إنستكس" المالية الأوروبية التي دشنتها الترويكا الأوروبية الشريكة في الاتفاق النووي، خلال الشهر الماضي، للتجارة غير المحظورة مع إيران.
 
بالنسبة لإيران فالمقترح الأول هو الأنسب، وهي على ما يبدو مستعدة للتعاطي إيجابيا معه، لكن بشرط أن تحصل على عوائد النفط الذي ستبيعه بموجب تلك الإعفاءات، وأيضا أن لا تقل عن تلك الإعفاءات السابقة التي شملت ثماني دول من مشتري النفط الإيراني، قبل أن توقفها واشنطن اعتبارا من الثاني من أيار (مايو) الماضي. 

هذا ما يستشف من التصريحات الإيرانية، لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية رغم موافقتها على منح إعفاءات نفطية، بحسب مصادر إعلامية، إلا أنها ليست بالمستوى الذي تطالب به طهران، ثم إنها لا توافق على عودة عوائد بيع النفط إلى داخل إيران نقدا. كما أن هذه المصادر تقول إن المقابل المطلوب لتلك الإعفاءات ليس فقط أن تلتزم إيران بكامل تعهداتها النووية، بل أن توافق على إطالة أمد قيود يتضمنها الاتفاق النووي، مثل مواصلة حظر بيع الأسلحة إلى إيران، والذي ينتهي في تشرين أول (أكتوبر) 2020، بموجب قرار 2231 لمجلس الأمن، المكمل للاتفاق.

 

الإدارة الأمريكية رغم موافقتها على منح إعفاءات نفطية، بحسب مصادر إعلامية، إلا أنها ليست بالمستوى الذي تطالب به طهران


بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يربط منح أي إعفاءات نفطية بفترة زمنية محدودة جدا، على أن توافق طهران على إجراء مفاوضات مباشرة مع إدارته.

بالتالي فإن أهم تحدي يعتري التحرك الفرنسي هو صعوبة التوفيق بين المطالب الإيرانية والأمريكية المتباعدة جدا، حيث تصر طهران على بيع نفطها وأن تحصل على عوائدها نقدا من دون أن تتم مقايضتها بالسلع، وذلك في إطار الاتفاق النووي، بعيدا عن التفاوض المباشر مع الإدارة الأمريكية، لكن الأخيرة ترفض تقديم هذا التنازل، وهي مصرة على إطلاق مفاوضات مباشرة، وهو ما ترفضه إيران، رابطة إياها بشروط "تعجيزية" مثل عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، ورفعها جميع العقوبات. 

وفرنسا، من جهتها، تعلم أنه دون إطلاق مفاوضات مباشرة بين الطرفين، فإن حراكها محكوم عليه بالفشل، لذلك تسعى إلى إقناع الجانب الإيراني بالتفاوض مع إدارة ترامب، وهو ما لم يحصل حتى هذه اللحظة، ويستبعد أن يسجل اختراقا في هذا الجانب، ورغم إشارات إيجابية تلقاها الرئيس الفرنسي أخيرا من نظيره الإيراني، حول احتمال لقائه مع ترامب، خلال الأسابيع المقبلة، إلا أن مفتاح التفاوض المباشر مع واشنطن، بيد المرشد الإيراني، الذي أعلن حظر التفاوض واللقاء مع الأمريكيين في أي مستوى. 

لكن في حال لم ينجح ماكرون في فتح قناة تواصل مباشر بين طهران وواشنطن، خلال الفترة القليلة المقبلة، فثمة عوامل قد تلعب دورها وتفتح ثغرات في جدار الأزمة بشكل مؤقت، أهمها أن الإدارة الأمريكية اليوم بعدما شهرت تقريبا جميع أوراقها في المواجهة سوى ورقة الحرب، وهي خيار غير مطروح لأسباب كثيرة، أقله في هذه الظروف الانتخابية الأمريكية، ترى أن ضغوطها لم تحقق أي نتيجة لها وأن إيران امتصت الصدمات الأولية التي أحدثتها، وهي اليوم انتقلت إلى ممارسة ضغوط مضادة، ومحرجة في الوقت نفسه. 

هنا متطلبات هذه المرحلة على ضوء الاستحقاق الانتخابي الأمريكي، الذي يعتبر مصيريا بالنسبة لترامب، تفرض عليه هدوءا ما مع إيران، وضبط إيقاع المواجهة معها، من خلال احتواء سلوكها المضاد، بالتالي ولكي لا تشكل الممارسات الإيرانية إحراجا أكثر في الموسم الانتخابي، قد يفتح ترامب مجالا للمناورة لنظيره الفرنسي للوصول إلى حل مؤقت مع إيران يحول دون انزلاق الأمور نحو الهاوية وإبقائها تحت السيطرة. لكن بالقدر الذي يكبّل الاستحقاق الانتخابي يد ترامب في ممارسة المزيد من التصعيد تجاه طهران، يكبّل يده أيضا في تقديم تنازلات سخية، يستغلها خصومه السياسيين في البازار الانتخابي ضده، لكيل اتهامات ضده باتباعه سياسات فاشلة. 

وأخيرا، فإن حجم التحديات التي يواجهها الحراك الفرنسي لخفض التوترات في المنطقة من بوابة الحفاظ على الاتفاق النووي، والذي لا يمكن إلا من خلال حصول إيران على جزء من مكاسبها الاقتصادية المصفرة منه بفعل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، يرجح كفة احتمالات الفشل على احتمالات النجاح، وإن كان هناك نجاحا "خجولا" متصورا في الأفق مدفوعا بمتطلبات المرحلة للإدارة الأمريكية، على الأغلب سيكون خلال مهلة الستين يوما الثالثة التي ستمنحها إيران بعد تنفيذ الدفعة الثالثة من تخفيض تعهداتها النووية في السابع من أيلول/سبتمبر المقبل ويستبعد أن يحصل ذلك خلال المدة القليلة المتبقية من مهلة الستين يوما الثانية، والتي لم يبق منها إلا أسبوع. 

التعليقات (0)