مقالات مختارة

لماذا لا يمكن أن تكون إسرائيل "ديمقراطية"؟

جوزيف مسعد
1300x600
1300x600

بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، التي جرت الربيع الماضي، اعتبرت أوساط سياسية وإعلامية في الغرب أن المجتمع الإسرائيي بات أقل ديمقراطية وأكثر عنصرية وشوفينية.

أضعف ذلك، بحسب البعض، سردية "الدولة اليهودية والديمقراطية"، وقد علقت صيحفة "نيويورك تايمز"، بعد الانتخابات، بالقول: "بالنسبة إلى اليسار، فقد أصبحت الديمقراطية الإسرائيلية في موقع دفاعي. أما بالنسبة إلى اليمين القومي، الذي نجح العام الماضي في ترسيخ تعريف إسرائيل لنفسها، دستوريا، بأنها دولة وطنية لليهود حصرا، فإن الديمقراطية الإسرائيلية قد غدت بحاجة إلى تعديل".

وبالفعل، فقد رأى البعض في الإعلام الليبرالي الغربي اعتماد قانون "الدولة الوطنية" في تموز/يوليو 2018، بأنه قد أدخل البلاد في وضع جديد من العنصرية القانونية، لم تكن إسرائيل تعرفه من قبل.

أما الوصف المهيمن والمحتفي بإسرائيل في داخلها وبين مناصريها الأجانب منذ إقامتها، بأنها دولة استطاعت أن توازن بين مثلها ومبادئها الأساسية، التي تتمثل في صيغة "الدولة اليهودية والديمقراطية"، فقد تحول أخيرا لدى البعض إلى رثاء لهذا التوازن المزعوم الذي فُقد نتيجة الانتقال اليميني الأخير.

الالتزام بالتطهير العرقي

أما الحقيقة الأساسية التي يتجاهلها هذا التصوير هي أن تأسيس "الديمقراطية" الإسرائيلية للمستعمرين اليهود جرى بعد تهجير 90% من الفلسطينيين عام 1948، وتحويل اليهود إلى أغلبية بين عشية وضحاها في بلد جرى تطهيره عرقيا.

عندها فقط تم اختيار الديمقراطية الليبرالية نظام حكم للأغلبية من المستوطنين والمستعمرين اليهود مقابل إقامة نظام تمييز عنصري ضد الفلسطينيين، وسن عشرات القوانين العنصرية.

لقد كان الالتزام بالتطهير العرقي وبالحكم المعتمد على الفوقية العرقية اليهودية حجر الأساس لأيديولوجية الحركة الصهيونية منذ بدايتها.

في عام 1896، صمم مؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل خططا للتعامل مع شعب فلسطين الأصلي، وذلك في كتيبه التأسيسي "دولة اليهود"، الذي حذّر فيه الصهاينة من التزام صيغ ديمقراطية، ونصحهم بأنه "لا بد لأي تسلل [من قبل اليهود إلى الأراضي التي يرومون استعمارها] أن يصل إلى نهاية سيئة. فسيستمر التسلل حتى اللحظة التي لا يمكن تجنبها عندما يعي الشعب الأصلي الخطر الذي يتهدده ويطالب الحكومة [القائمة] بإيقاف هذا السيل المتدفق من اليهود. وبالتالي، ستفقد الهجرة [اليهودية] جدواها ما لم نمتلك الحق السيادي لمواصلة هذه الهجرة".

 

تأسيس "الديمقراطية" الإسرائيلية للمستعمرين اليهود جرى بعد تهجير 90% من الفلسطينيين عام 1948، وتحويل اليهود إلى أغلبية بين عشية وضحاها في بلد جرى تطهيره عرقيا


وفي يومياته، أفصح المستعمر الصهيوني، هرتزل، عن خطط أكثر تعقيدا لكيفية تجنب الديمقراطية الشاملة للجميع في دولة اليهود المستقبلية، لمصلحة حكم قائم على الحصرية الدينية والعرقية.

فقد كتب أن على المستعمرين اليهود أن "يهجروا السكان الفقراء عبر الحدود بالسر وتحت غطاء الظلام، من خلال توفير وظائف لهم في البلاد المجاورة، بينما سنرفض منحهم أية وظائف في بلدنا... وسينضم إلينا ملاك الأراضي أيضا. وستجري العمليتان - تجريدهم من الأراضي وتهجير الفقراء - في تكتم وحذر... فدعوا ملاك الأراضي يعتقدون أنهم يخدعوننا من خلال بيع أراضيهم لنا بأسعار أعلى مما هي عليه، ولكننا لن نبيعهم أيا منها بعد ذلك".

ومع ازدياد المستوطنات اليهودية، ازداد طرد الفلسطينيين، وقد أورد المستوطن اليهودي البولندي وخبير الزراعة حاييم كالفاريسكي عام 1920، عندما كان أحد مديري جمعية الاستعمار اليهودية، وهي إحدى أذرع الحركة الصهيونية، أنه نتيجة دوره بطرد الفلسطينيين من أراضيهم لمدة 25 عاما، أي منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، "ظهرت مسألة العرب أمامي بجدية لأول مرة فور شرائي أول قطعة أرض هنا. كان علي طرد الفلسطينيين من أراضيهم والاستيلاء عليها كي يستوطنها أخوتي".

وأضاف: "لم يتوقف نواح [الفلسطينيين] الذي ملأه الألم من الرنين في أذني لفترة طويلة من بعدها".

معارضة قاطعة

كان خوف الصهاينة من الديمقراطية والتزامهم التطهير العرقي شديدا، لدرجة أنهم رفضوا رفضا قاطعا الاقتراح البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، الذي طرح نتيجة قلق بريطانيا من أن تؤدي المناطق الشاسعة التي كانت تسيطر عليها إلى إجهادها، بالطلب من الولايات المتحدة تحمل جزء من مسؤولية فلسطين.

عارضت المنظمة الصهيونية العالمية الاقتراح بدور أميركي على الفور وبشدة، خشية من أن تفرض الديمقراطية على فلسطين، وردت بالقول: "تعني الديمقراطية في أمريكا في أغلب الأحيان حكم الأغلبية من دون التفات إلى تنوع الأنماط أو المراحل الحضارية أو الاختلافات النوعية في الجودة... الأغلبية العددية في فلسطين اليوم عربية وليست يهودية. من ناحية الجودة النوعية، من أبسط الحقائق القول إن اليهود الآن هم الغالبون في فلسطين. وفي ظل ظروف مواتية سيصبحون أيضاً الغالبين عدديا بعد جيل أو جيلين".

وأضافت: "ولكن إن طبق المفهوم الحسابي الجلف للديمقراطية الآن أو في فترة مبكرة في المستقبل القريب على الوضع الفلسطيني، فالأغلبية التي ستحكم ستكون الأغلبية العربية، حينها ستكون مهمة إقامة فلسطين وتنميتها [كدولة] يهودية عظيمة أصعب بكثير".

تجدر الملاحظة هنا بأن الوثيقة تجاهلت حقيقة أن الأميركيين الأفارقة والهنود الحمر وغيرهم لم يكونوا جزءا من هذه "الديمقراطية" الأميركية.

وقد عارض يهود أميركيون بارزون مناوئون للصهيونية هذا الخوف الصهيوني من الديمقراطية الممأسس على العرقية والشوفينية الدينية.

ففي ذات السنة التي أصدرت فيها منظمة الصهيونية العالمية وثيقتها، قام جوليوس كاهن، وهو عضو كونغرس يهودي من سان فرانسيسكو، بتسليم بيان للرئيس الأميركي وودرو ويلسون، الذي كانت حكومته تدعم الصهاينة، يحمل توقيع 299 شخصية يهودية أميركية، ضمت حاخامات وشخصيات عامة، يندد بالصهاينة لمحاولتهم عزل اليهود وإيقاف المسيرة التاريخية لتحرير اليهود من الانعزال، ويعارض إقامة دولة يهودية حصرية لليهود في فلسطين، لكونها تناقض "مبادئ الديمقراطية".

وقد تبنى أتباع هرتزل الصهاينة، اليمينيون واليساريون، خوفه من الديمقراطية وشوفينيته. من اليمين، تقدم فلاديمير جابوتنسكي، مؤسس الحركة الصهيونية التصحيحية، في عام 1923 بحجج تدحض حجج "اليسار" العمالي الصهيوني التي كانت خططه لطرد الفلسطينيين تقوم على الخداع والغش، موضحاً أنْ ليس ثمة سبيل لتلافي الصيغة العنفية المتمثلة بكون عملية الاستيطان اليهودي وتهجير الفلسطينيين هما ذات العملية:


"لن يسمح... أي شعب أصلي بإرادته بدخول سيد جديد عليه، ولا حتى بشريك. وهذا هو وضع العرب أيضا. يروم المساومون في صفوفنا إقناعنا بأن العرب بلهاء يمكننا خداعهم... وأنهم سيتخلون عن حقهم في فلسطين، بلدهم الأم، مقابل مكاسب ثقافية واقتصادية. أنا أرفض هذا التقييم للعرب الفلسطينيين".

وقد قام الصهاينة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم بنقاش تفصيلي لتطهير فلسطين عرقيا من الفلسطينيين،  وقد كان استنتاجهم محتوما. ففي حزيران/يونيو 1938، أعلن دافيد بن غوريون، قائد المستعمرين الاستيطانيين، في توافق مع ما طرحه جابوتنسكي مسبقا، ما يأتي: "أنا أدعم الطرد القسري، ولا أرى فيه أيَّ شيء منافٍ للأخلاق".

وقد أتى إعلانه هذا في أعقاب اعتماد الوكالة اليهودية سياسة الطرد القسري للفلسطينيين التي أسست أول "لجنة لطرد السكان" في تشرين الثاني/نوفمبر 1937. وقد أُنشئت لجنة ثانية لطرد الفلسطينيين في عام 1941، ولجنة ثالثة قي أيار/مايو 1948 أثناء الغزو الصهيوني لفلسطين.

وقد كان رئيس منظمة الصهيونية العالمية حاييم فايتسمان، يخطط في 1941 لطرد مليون فلسطيني إلى العراق والاستعاضة عنهم بخمسة ملايين يهودي بولندي ويهود أوروبيين آخرين. وقد أعلم السفير السوفياتي في لندن إيفان مايسكي بخططه، على أمل أن يحصل على دعم سوفياتي لمشروعه.

لكن عندما استغرب مايسكي فكرة مشروع كهذا، رد عليه فايتسمان بحجج عنصرية لا تختلف كثيرا عن الحجج التي كان يستخدمها الفاشيون في تلك الفترة تجاه يهود أوروبا أنفسهم، فقال له: "إن كسل وبدائية [الفلسطينيين] تحول حديقة مزدهرة إلى صحراء. أعطني الأرض التي يسكن عليها مليون عربي، وسأستطيع بسهولة أن أجعلها وطناً لخمسة أضعاف هذا العدد من اليهود".

 

لقد كانت الصيغة المسماة "دولة يهودية وديمقراطية"، التي يعتمدها مناصرو إسرائيل ويحتفون بها والتي يشعر بعضهم بقلق إزاء تعرضها للخطر اليوم، قائمة دائما على أساس حسابي للفوقية اليهودية والتطهير العرقي، بطريقة لا تختلف كثيرا عن الديمقراطيات الليبرالية التي تعتمد التفوق العرقي الأبيض والتي أقيمت في أعقاب عمليات التطهير العرقي في كل من الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا ونيوزيلندا، وهي أبرز مستعمرات بريطانيا الاستيطانية.

لكن بينما استطاعت المستعمرات الاستيطانية الأخرى بعد قرون من التطهير العرقي إرساء فوقية عرقية وعددية ديموغرافية للعرق الأبيض، فإن سكان إسرائيل من اليهود المستعمرين عادوا ليكونوا أقلية ديموغرافية تواجه أغلبية من الشعب الفلسطيني الأصلي الذي لا يكل عن مقاومة التطهير العرقي الصهيوني والحكم العرقي الفوقي اليهودي الذي ما انفك مناصرو إسرائيل وأعداء الشعب الفلسطيني يحتفون به ويطلقون عليه تسمية "دولة يهودية وديمقراطية".

 

* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك

(عن موقع "ميدل إيست آي" البريطاني)

0
التعليقات (0)