قضايا وآراء

الهلال الصاعد: لماذا تشغلنا تركيا؟ (2)

باسم خفاجي
1300x600
1300x600

يحتفل الحزب الحاكم في تركيا بمرور 18 عاما على تأسيسه.  إنه حزب العدالة والتنمية. هذا الحزب الذي أصبح مثار الحديث والنقاشات والاعتراضات والمجاملات في وطننا العربي طوال المرحلة الأخيرة. 


وقد يكون الأهم من تجربة الحزب، أن نتابع تزايد اهتمام المواطن العربي والمسلم بتركيا طوال العقدين الماضيين، وأسباب ذلك وملامحه ومستقبله.  هناك سؤال يجب الإجابة عليه: لماذا تشغلنا تركيا مؤخرا، وما مستقبل وأهمية هذا الانشغال أو جدواه؟


تزايد الاهتمام بتركيا


تشغلنا تركيا منذ بداية القرن الحادي والعشرين لسبب آو آخر، ولكن الاهتمام بها تزايد في العالم العربي والمسلم مؤخرا بشكل ملحوظ وعلى مستويات متعددة.  


في البداية، في الفترة 2000- 2005م كان الخلاف في تركيا حول تداول السلطة بين العسكر وبين القوى الاجتماعية المختلفة لافتا للنظر. وعندما عاد التيار الإسلامي بوجوه شابة لينجح في تولي السلطة في تركيا، تساءلنا في العالم العربي والمسلم: متى سيحدث الانقلاب "المعتاد" على اختيار الشعب التركي، وتعود تركيا إلى عصور عدم الاستقرار والشقاء!


هذه المرة تأخر الانقلاب، بل بدا أن الأمر مختلف، وأن العسكر في أزمة، وأن استقرار الديمقراطية واختيار الشعب التركي الذي هو شرط الالتحاق بالاتحاد الأوروبي هو الحبل الذي يكاد يشنق ويخنق من تنادوا له وتعلقوا به. بدأ المهتمون بموضوع تبادل السلطة في المجتمعات المسلمة بالحديث عن أوجه الشبه والاختلاف بين تجربة تركيا، وواقع الحال في الدول العربية والإسلامية الأخرى.


امتد النقاش ليتضمن مقارنة التجربة الحالية لحزب العدالة والتنمية المعروف بتوجهه المحافظ مع تجارب مسلمة سابقة في تركيا لم يكتب لها البقاء في السلطة أو تقديم ما وعدت به الشعب التركي من إصلاحات وإنجازات.  


ركز الكثيرون على المقارنة مع تجربة الزعيم التركي الراحل نجم الدين أربكان، ومن سبقه ممن تعاطفوا مع هوية تركيا المسلمة والمحافظة مثل الرئيس تورغوزت أوزال، وغيره.


الأمر بدا هذه المرة مختلفا تماما. هناك تجربة جديدة تبدو طويلة النفس وذات إصرار مختلف على التغيير: حزب العدالة والتنمية.  هو حزب بدأ تاريخه يوم 14 أغسطس من عام 2001م.  خلال عام واحد فقط، انتقل من مكانة الحزب الشاب الجديد إلى مكانة الحزب الحاكم.  كانت تركيا تعاني على كل صعيد، وعملتها قد انهارت، وثقة العالم بها في أدنى الدرجات، واختار العسكر توريط كيان جديد يمكن أن يلقى باللوم عليه عندما تزداد الأمور سوءا. وكان حزب العدالة والتنمية أنسب خيار ليتحمل مسؤولية الفشل القادم .. هكذا ظن حكماء العسكر الأتراك في ذلك الوقت، وتولى الحكم في تركيا الحزب.


الحسابات كانت خاطئة تماما.  بدلا من أن يتحمل الحزب الشاب فاتورة فشل كل من قبله، بدا أنه يريد أن يدفع تلك الفاتورة وينتقل بتركيا نحو الأمام.  


بدأت حلول حقيقية للمشكلات تظهر في الحياة التركية، اجتماعيا واقتصاديا، وارتفعت مكانة المواطن ودخله والخدمات المقدمة له باستمرار. 


استمر الحزب في الحكم طوال 18 عاما حتى الآن. كل انتخابات تجرى في تركيا طوال 18 عاما، تؤكد أن هذا الحزب لا يزال هو اختيار الشعب التركي بإرادته الحرة.  


والتفت العالم المسلم إلى تجربة ديمقراطية تنتج طوال 18 عاما خيارا محافظا ترتفع فيه نبرة الاعتزاز بالقيم والهوية بشكل دائم طوال تلك الفترة الطويلة من الحكم.


المسلسلات التركية ودورها في زيادة الانشغال!


بدأت المسلسلات التركية منذ عام 2005م تزحف بهدوء على الإعلام العربي، ولكن بإصرار وتكرار وبراعة، لتفرض نفسها فجأة على شريحة أخرى من شرائح المجتمع العربي والمسلم.


كانت مسلسلات تلفزيونية اجتماعية ليست دينية، بل في الحقيقة بعيدة عن مجالات الدين. في البداية بدأ النقاش الاجتماعي يتزايد حول هذه المسلسلات التي أظهرت وجهين متقابلين ومتضادين عن تركيا: مناظر طبيعية ساحرة، ومجتمعا يبدو أقرب للمجتمعات الغربية في بعض النواحي الأخلاقية والفكرية التي عكستها مسلسلات مثل "مهند ونور" وغيرها.


لكن في المقابل، كانت الحياة الاجتماعية لتلك المسلسلات أقرب بكثير للناس. كان النمط الشرقي في الحياة والتعامل مع المشكلات لافتا للنظر أيضا للمشاهد العربي العادي.  


هاجم الكثير من المفكرين والدعاة هذه المسلسلات ــ في بداياتها ــ بوصفها أعمالا فنية تبث قيما أخلاقية غير ملائمة، واشتد النقاش والحوار حولها، وأنها لا تمثل حقيقة الحياة في تركيا، بل هي تعكس شريحة تمثل النسبة الأقل من المجتمع هناك.


لكن تسبب ذلك النقاش بغض النظر عن نتيجته أو جدواه في زيادة شهرة تلك المسلسلات، وزاد معها الاهتمام السياحي والثقافي بتركيا. اكتشف الكثيرون ـ ربما لأول مرة ــ أن تركيا بلد جميل، وأنها مقصد سياحي مناسب من ناحية القرب والتكلفة وتقارب العادات، في ظل تعمد السفارات الغربية التضييق على السائح العربي، وازداد الاهتمام بتركيا من ناحية أخرى.


تبع ذلك ظهور نوع آخر تماما من المسلسلات التركية بدءا من عام 2015م، وكأنه على النقيض تماما من الموجة الأولى من تلك المسلسلات التي غزت الحياة العربية.  هذا النوع الجديد كان مسلسلات تاريخية تلقي الضوء على مراحل مهمة من التاريخ التركي والمسلم، وكان الإنتاج بارعا واستخدمت فيه أفضل وسائل الإبهار.


وخاطبت تلك المسلسلات شريحة مختلفة تماما من المجتمعات العربية والمسلمة، وهي الشريحة المحافظة الباحثة عن استعادة معالم الهوية للأمة وللعالم المسلم، وأصبحت تلك المسلسلات مثار الحديث والنقاش والانتقاد والإعجاب، وأصبح نجومها شخصيات عامة في المجتمعات العربية والمسلمة بشكل لم يسبق له مثيل تجاه تركيا.  


أصبحت المسلسلات التركية ليست فقط عامل جذب سياحي إلى تركيا، بل سفيرة للثقافة التركية، وارتباطها بالعالم المسلم من جديد.


غزة ودافوس ووجه جديد لتركيا


عندما اندلعت أزمة غزة والهجوم الصهيوني البشع عليها في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تفاجأ العالم العربي برئيس الوزراء التركي في حينها، رجب طيب أردوغان، وهو يزور غزة بعد الحدث مباشرة، وتدمع عيناه بجوار أسرة الجرحى من أطفال غزة، وتخرج الكلمات من فمه معبرة عن حزن غير مصطنع وألم حقيقي لما يحدث لأبناء فلسطين.


سمعنا لأول مرة، رئيس وزراء تركي يتحدث مذكرا الصهاينة بـمقابلة فريدة حول "أجداده العثمانيين"، ودورهم في حماية اليهود عندما تنكر لهم العالم أجمع إلا المسلمون، وبين ما يفعله الكيان الصهيوني في تلك الأيام بأبناء فلسطين.  


وانطلقت خلال ذلك سفينة "مافي مرمرة" لتعبر عن رسالة حضارية من الأمة كلها، ولكنها تنطلق من تركيا لترفض الاحتلال، وتعامل معها الصهاينة بعنف وصلف أعاد تركيا إلى بؤرة الاهتمام.


قارن المثقفون والمفكرون بين موقف أردوغان، وبين مواقف الكثير من القادة والرؤساء في بلادهم. زاد الإعجاب بتركيا والاهتمام بها أيضا.


وعندما غادر أردوغان قاعة منتدى دافوس احتجاجا على ما قاله أحد قادة الكيان الصهيوني، ارتفع الانبهار به، وبتركيا مجددا.  


أصبحت الشخصية السياسية التركية مثار اهتمام وحديث الكثير من المهتمين بالقضايا السياسية والفكرية في المجتمعات العربية والمسلمة، وظهرت أخبار تركيا في العديد من الصحف العربية في الصفحات الأولى والهامة بها، وهو ما لم يكن يحدث من قبل أبدا.  


وبدأت أسماء السياسيين الأتراك تظهر بشكل طبيعي في الحياة العربية، ويعرفها الناس.  لو سئل عربي قبلها بأعوام عن اسم الرئيس التركي لحار الكثيرون، لكننا اليوم أصبحنا نعيش في عالم يهتم بعمدة مدينة تركية، أو بتفاصيل حياة لاعب كرة سلة تركي، أو فنان. تركيا أصبحت جزءا مؤثرا في النقاش الاجتماعي العام.


التجارة والبضائع والمشروعات


التفت الكثير من رجال الأعمال خلال نفس الفترة في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى أن الشركات التركية والبضائع التركية قد تحسنت جودتها، وظهرت في أسواق مجتمعاتنا بوتيرة متزايدة.
أصبحت الشركات التركية مكلفة بمشروعات ضخمة يهتم بها الإعلام العربي (كمطار القاهرة الجديد، ومطار الكويت، ومشروعات الطرق والأنفاق في مناطق الحج في السعودية.. وغيرها).  


تزايد الاهتمام بالتجارة والتبادل التجاري مع تركيا التي أصبحت تتحدث دائما عن العالم العربي والإسلامي بوصفه أحد أهم مصادر النهضة التجارية لتركيا في الأعوام التالية.  


بدأنا نعرف أن تركيا قد أصبحت دولة قوية اقتصاديا، وأن إنتاجها القومي يضعها في المرتبة السابعة عشرة بين دول العالم مقارنة بأكثر من 200 دولة، وأنها لو التحقت اليوم بأوروبا لأصبحت سادس قوة اقتصادية في ذلك الكيان، وغير ذلك من الأرقام والإحصاءات الهامة.


اهتم الإعلام العربي أيضا بنقل ما تعانيه تركيا من تعنت الاتحاد الأوروبي في أن تلتحق به، وكان واضحا أن السبب الرئيس في ذلك التعنت هو أنها دولة مسلمة.  


لا يوجد أي تفسير آخر مقنع بعد أن دخلت في ذلك الاتحاد الأوروبي دول أخرى أقل شأنا ومكانة. 

 

أكسب ذلك تركيا الكثير من التعاطف مع الشارع العربي والمسلم، وزاد من هذا التعاطف تأكيد قادة تركيا أن العالم العربي والمسلم هو الامتداد الطبيعي والتاريخي والحيوي لبلادهم، وأن تركيا، وإن كانت راغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من ناحية، إلا أنها حريصة وبشدة ألا تفقد هويتها المسلمة، وتواصلها مع جيرانها من العالم العربي والمسلم.  كانت لغة ونبرة خطاب لم يسمعها المجتمع العربي والمسلم بهذه القوة والوضوح والتركيز طوال الفترات التي سبقت بداية القرن الحادي والعشرين.


التقدم على أكثر من صعيد


على المحور الثقافي فاز كاتب تركي بجائزة نوبل في الأدب، ثم تركي آخر في الكيمياء، وترأس رابطة العالم الإسلامي لأول مرة شخصية تركية (إحسان أكمل أوغلو)، وبرز اسمها أيضا، وانتبه العالم العربي والمسلم بالعموم إلى أن هناك حراكا إسلاميا محافظا متصاعدا وقويا ومختلفا في تركيا، وأن هذا الحراك هو أحد القوى الفاعلة والرئيسة على الساحة الفكرية والاجتماعية في المجتمع التركي.


ثم جاء الربيع العربي، وظهر الموقف التركي المناصر للحريات ولحق الشعوب في العدل والتقدم نحو الأمام، ووقفت تركيا بجانب محنة الشعب السوري بشكل لم يتوقعه أحد عندما استضافت ما يقارب من 4 ملايين لاجئ.


ثم ناصرت تركيا الشعب المصري ضد الانقلاب العسكري، ولم تكن المناصرة شعبية فقط أو رسمية فقط، بل ظهر تكاتف كبير في الموقف التركي العام يناصر ثورة مصر ويرفض الانقلاب عليها.


وعندما حدث الانقلاب في تركيا في عام 2016م، كان العالم العربي والمسلم يتابع الحدث دقيقة بدقيقة، وظهر بلا أي خلاف أن الشعوب العربية والمسلمة ليست مهتمة فقط بما يحدث في تركيا، ولكنها أيضا أصبحت منحازة إلى خيارات الشعب التركي في الالتفاف حول الحرية ورفض العودة للوراء.


تركيا المهمة.. والمجهولة أيضا


اجتمع كل ما سبق، وغيره من العوامل الأخرى أيضا، ليزداد الاهتمام بتركيا بشكل غير مسبوق، ولكن صاحب هذا الاهتمام قدر كبير من عدم المعرفة بواقع تركيا الحقيقي. بل نكاد نقول إن "الجهل بواقع تركيا" كان ولا يزال لافتا ومحزنا بين الكثير من المثقفين والأكاديميين والساسة والمفكرين أيضا.


ليس مهما من تسبب في عدم معرفتنا بالتغيرات التي مر بها المجتمع التركي في العقود الأخيرة، لكن الأهم هو أن نتجاوز هذا النقص المعرفي، ونستعيد معرفتنا بجزء عزيز من أمتنا المسلمة.


هناك تجارب مهمة للتغيير والسعي نحو النهوض في عالمنا المسلم، ومن بينها تركيا.  لذا مهم أن نتعرف من جديد على دولة تحاول أن تصعد في سلم التقدم المدني والعمراني والتقني دون أن تتخلى عن اعتزازها بهويتها ودورها وتطلعاتها في عالم أفضل تحتل فيه تركيا المكانة اللائقة بها، وتساهم أيضا في أن يتعرف العالم من خلال ذلك التقدم على صورة أكثر إشراقا ووضوحا على العالم المسلم.


نحن بحاجة إلى محاولة جادة لإعادة التعرف على تركيا، وردم الهوة المعرفية بين ما نجهله عن واقعها المعاصر، وبين ما يجب أن نحيط به لنحسن التعامل والتفاعل معه مما يتعلق بأحد الدول الهامة في منطقتنا وأمتنا أيضا.


القصة الحقيقية ليست قصة حزب شاب استمر في الحكم 18 عاما، وقام بالكثير من التغييرات.  القصة هي أن تركيا تجربة تستحق الفهم والتقدير.

0
التعليقات (0)