قضايا وآراء

ماذا وراء المغازلة الإماراتية لإيران؟

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

"المغازلة" الإماراتية أو ما يعتبره البعض "الانعطافة" تجاه إيران خلال الفترة الأخيرة، كانت غريبة ومفاجئة في توقيتها ومضامينها، حيث إنها جاءت في وقت، احتدمت فيه التوترات المركّبة في المنطقة لتصل إلى مستويات خطيرة، واقتربت أطرافها من الهاوية بعد ممارسة اللعبة على حافتها لأشهر متواصلة. 

 

سياسة ضد التيار


كما أنها تزامت مع احتدام الجهود الأمريكية والبريطانية لتشكيل تحالفات بحرية عسكرية في مواجهة إيران، وهي تحالفات دعت إليها الإمارات أكثر من مرة خلال الفترة الماضية، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، حينما وقعت تفجيرات الفجيرة في أيار/ مايو الماضي، ضد ناقلات نفط إماراتية وسعودية، طالب وزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد، المجتمع الدولي بتأمين الملاحة الدولية في المنطقة، إذ قال حرفيا "على المجتمع الدولي أن يتعاون من أجل تأمين الملاحة الدولية وتأمين وصول الطاقة".
 
لكن من المفارقة أنه بينما كانت تحشد أمريكا لتشكيل تحالفها البحري، فجأة ظهر وفد عسكري رفيع المستوى لحليفها الإماراتي "البارز" في عاصمة "العدو الإيراني" ليوقع على مذكرة تفاهم مشتركة بعد بحث قضايا أمن الحدود المشتركة بين البلدين، علما بأن هذه الحدود، هي مائية وليست برية، ومياهها أصبحت ساخنة إلى أعلى الدرجات بفعل التوترات المتصاعدة.

 

الإمارات وهي تلعب دورا جديدا وفقا لمتطلبات الاستراتيجية الأمريكية في هذه المرحلة، تسعى أيضا إلى إبعاد نفسها عن تبعات أي مواجهة عسكرية "شاملة"،

 
أما في ما يتعلق بمضامين "المغازلة" الإماراتية، فإنها تبدو متعددة، تجاوزت موضوع الانسحاب من اليمن وقضايا أمن الحدود إلى ما هو الأهم، لتلامس المجالات الاقتصادية، التي هي الأكثر أهمية وحساسية لإيران، في ظل الحرب الاقتصادية الشعواء التي تشنها الإدارة الأمريكية عليها. وإدراكا من تلك الأهمية، شفعت الإمارات توجهها الجديد نحو إيران بإشارات اقتصادية إيجابية، سلفا، منها تخفيف الضغوط على عمل الصرافيين للقيام بتحويلات مالية إلى داخل إيران، مما ساهم في تعافي عملة الريال وارتفاع قيمته أمام العملات الأجنبية. وذلك في مؤشر على تراجع إماراتي، ولو جزئيا عن ضغوطها الاقتصادية على طهران، أكده رئيس البنك المركزي الإيراني، عبد الناصر همتي أخيرا بالقول إن "الإمارات بدأت تتراجع عن قراراتها السابقة.... وإنها فتحت بعض صرافات أغلقتها سابقا"، واصفا ذلك بـ"الإيجابية والجيدة". 

ما سبق ذكره، يمثل وجها واحدا للمغازلة الإماراتية، أما وجهها الآخر فهو الابتعاد عن الحليف الأمريكي. هكذا يبدو الأمر في ظاهره، لأن توقيت الانعطافة ومضامينها، كما ذكر آنفا، تأتي نقيضا للضغوط الأمريكية على إيران في توقيتها ومضامينها، الأمر الذي يثير سؤالا محوريا واستراتيجيا عما إذا كانت هذه "الانعطافة" نحو إيران تعني الابتعاد عن أمريكا فعلا، وكأن الإمارات تريد الوقوف إلى جانب إيران في مواجهة الضغوط الأمريكية.

 

أسرار التقارب الإماراتي-الإيراني
 
عموما، قُدمت خلال الأسابيع الأخيرة، إجابات كثيرة على مجمل التساؤلات حول سرّ محاولات أبوظبي الاقتراب من طهران، وجاءت في مقدمة تلك الإجابات، أن الإمارات باتت تدرك أن سياساتها الإقليمية فاشلة، وأن يأسا أصابها من أمريكا لعدم رغبتها في الدخول في أي مواجهة عسكرية ضد إيران، وأن استراتيجية "الضغط الأقصى" الأمريكية لم تؤت أكلها وهي فشلت، مما شكل ذلك دوافع منطقية لتحويل وجهة البوصلة باتجاه الأخيرة.

نعم بعض تلك المعطيات صحيح، لكن تلك الإجابات، شاء أصحابها أو أبوا، تنطلق بشكل عام من أن الإمارات هي دولة مستقلة، تقرر وفق ما تملي عليها "مصالحها" وهي تغير وجهة سياستها الخارجية وقتما تشاء، ولو كان في توقيت حساس للغاية، وعلى حساب حليفتها الأمريكية "التاريخية".

إلا أن تلك الأسباب التي صاغها البعض حول دوافع السياسة الإماراتية الجديدة تجاه إيران، وإن كان لها دور فرعي، لكنها لم تكن رئيسية وأصلية، بحكم عوامل موضوعية، أبرزها عمق العلاقة التاريخية بين أبوظبي وواشنطن والتي اتخذت منحى تصاعديا بعد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة، والذي وجدت فيه كل من السعودية والإمارات و"إسرائيل" ضالتهم لمواجهة إيران، حيث منذ اليوم الأول من تربع ترامب في المكتب البيضاوي، بدأت محاولات الأطراف الثلاثة الرامية إلى دفع الإدارة الأمريكية باتجاه تبني سياسة جديدة مختلفة تماما عن سلفه الرئيس باراك أوباما، وهو ما صار بالفعل، وكان أولى تجلياتها، هي الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، الأمر الذي شكل نقطة فاصلة في تاريخ الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، ليدخل هذا الصراع في أخطر مراحله إلى الآن.

 

"المغازلة" الإماراتية أو ما يعتبره البعض "الانعطافة" تجاه إيران خلال الفترة الأخيرة، كانت غريبة ومفاجئة في توقيتها ومضامينها


فضلا عن ذلك، فإن واشنطن تعاقب أي دولة صديقة أو غير صديقة على أي محاولة صغيرة للالتفاف على عقوباتها على إيران، فكيف أنها تسمح أو تتفرج على ما تقوم به دولة حليفة مثل الإمارات، وهي تمثل أداة تنفيذية مهمة لتلك العقوبات، بالنظر إلى موقعها في التعاملات المالية الخارجية لإيران، في خرق هذه العقوبات والضغوط الأمريكية.

على ضوء هذا الواقع، من الصعب بمكان التسليم بأن التوجه الإماراتي نحو إيران يعني فضّا للتحالف مع الأمريكيين في مواجهة إيران، بالتالي لا يمكن النظر إليه إلا كدور جديد أنيط بالإمارات لتلعبه في إطار التحالف نفسه، ليُطرح هنا عاملان أساسيان وراء ذلك، الأول أن ذلك يأتي بتنسيق كامل مع أميركا. هنا يبرز سؤال آخر وهو محوري أيضا، حول الهدف الأمريكي من وراء ذلك.

في الإجابة يمكن القول: إن إدارة ترامب تبحث عن طرق غير مباشرة لتخفيف الضغط قليلا عن طهران بغية ضبط إيقاع المواجهة معها، من دون أن تنزلق إلى الهاوية، وهو ما لا يريده ترامب في الوقت الحاضر في ظل انشغالاته واستحقاقاته الداخلية، أهمها الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين ثاني (نوفبمر) 2020. وذلك بعدما اتخذت الاستراتيجية الإيرانية طابعا هجوميا للرد على استراتيجية "الضغط الأقصى" الأمريكية، وأصبحت طهران تمارس ضغوطا مضادة بأدوات عسكرية، كان المعلن منها هي عملية إسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة في العشرين من حزيران الماضي وتوقيف الناقلة البريطانية "ستينا إمبيروا" في مضيق هرمز في التاسع عشر من الشهر الماضي، الأمر الذي يشكل إحراجا كبيرا للإدارة الأمريكية. 

 

جزء من خطة أمريكية

وبناء على ذلك، فهذه الإدارة، وبينما تزيد من ضغوطها على إيران بشكل مباشر، لكنها في الوقت نفسه، لا تريد أن تواجه مزيدا من الممارسات الإيرانية "الجرئية"، والتي باتت تشكل إحراجا كبيرا لها، وانطلاقا من ذلك، على ما يبدو أن واشنطن تسعى إلى تنفيس الأزمة مع طهران قليلا، وخاصة على الصعيد الاقتصادي، بطريقة غير مباشرة وعبر الإمارات، وذلك لصعوبة تقديم أي تنازل مباشر لها، لكونه يحمل في طياته علامات الضغف والتراجع، على ضوء الرفض الإيراني القاطع لأي تفاوض معها.

 

بالتالي فالاستدارة الإماراتية "الجزئية" نحو إيران ليست إلا خطة أمريكية لإدارة هذه المرحلة من الصراع وتجاوزها بأقل الخسائر حتى إجراء الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2020، وكذلك احتواء السلوك الإيراني.

والعامل الثاني، هي دوافع إماراتية "خاصة"، التي قد لعبت دورا فرعيا في الموضوع، منها وجود مخاوف كبيرة لدى كل من أبوظبي والرياض، من أن تكونا هدفا مباشرا للضربات "الصاروخية" الإيرانية، في حال اندلاع أي مواجهة عسكرية في المنطقة بين واشنطن وطهران، وخاصة أن الأخيرة، قد هددت مرارا أن أي حرب ضدها، لن تتوقف عند حدودها، وإنما ستطاول حلفاء أميركا في المنطقة.

 

أيا كانت دوافع الإمارات في مغازلة إيران، إلا أنها لا تمثل انعطافة وأن ما يحدث هو أمر تكتيكي وليس استراتيجيا


إلى ذلك، يبدو أن الإمارات وهي تلعب دورا جديدا وفقا لمتطلبات الاستراتيجية الأمريكية في هذه المرحلة، تسعى أيضا إلى إبعاد نفسها عن تبعات أي مواجهة عسكرية "شاملة"، قد يشعلها أي حادث هنا أو هناك في لحظة ما، وإن لم يكن هناك قرار أمريكي مسبق بذلك. فهذه المخاوف أيضا تكون قد لعبت دورا مساعدا في تحفيز الإمارات لممارسة الدور الجديد.

الحاصل، أنه أيا كانت دوافع الإمارات في مغازلة إيران، إلا أنها لا تمثل انعطافة وأن ما يحدث هو أمر تكتيكي وليس استراتيجيا، كما أن هذه المغازلات والإشارات الإيجابية، وإن لم تكن وفق خطة أمريكية، فإنها جاءت بضوء أخضر أمريكي. لكن وإن كان التوجه الإماراتي "الجديد" هو لتأدية دور جديد في إطار التحالف مع أمريكا، فالسؤال الذي يبرز نفسه، هو عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الإمارات في تقاربها مع إيران؟ وهل التنفيس "الخجول" للأزمة من خلال الإمارات يثني الجانب الإيراني من ممارسة سلوكيات محرجة للإدارة الأمريكية في هذا التوقيت؟ كما أنه هل ستنجح الإمارات أن تبعد عن نفسها التبعات "الكارثية" لأي مواجهة عسكرية محتملة في المنطقة؟

التعليقات (0)